إعلان

ما تيسّر من "نور" الثورة.. 7 سنوات على فقدان بصر محمد دومة

10:02 م الأربعاء 24 يناير 2018

محمد دومة

 

كتبت- شروق غنيم:

تصوير- أحمد جمعة:

 

لم تَضِع هتافات محمد دومة هباءً حين صرخ يوم جمعة الغضب "يسقط مبارك"، لكنه لم يشهد لحظة النصر. ظل جسده لمدة شهر ونصف الشهر في حالة موات مؤقت، إثر إصابته بالخرطوش في عينيه، وبعدما وصلت مطالب الجموع لمُبتغاها وأبصرت مطالب الثورة النور، أفاق دومة من الغيبوبة لكنه لم يرَ شيئًا، فقد بصره للأبد، من وقتها باتت الثورة "بصمة على عيني" كتذكار لما مّر به أو كلعنة.

عدّاد الزمن توقف عند تلك اللحظة؛ إذ أصبحت بوصلة لحياة دومة، في تمام الثامنة مساء من 28 يناير 2011، كانت الهستيريا قد بلغت أقصى درجاتها في ميدان الساعة بدمنهور، الأرض مفروشة بالدماء، مقرّات أمنية وحزبية يتطاير منها الدُخان بعدما حُرِقَت، وأجساد مثقوبة بالرصاص الحي والخرطوش، هُنا تملّك الغضب من الشاب العشريني.

1

في دمنهور لم يختلف المشهد كثيرًا عن نظيره في التحرير، شارع الجمهورية كان مكتظًا، خرجت المسيرات عقب صلاة الجمعة من مسجد عمر بن الخطاب، توجهت إلى ميدان الساعة الذي يحتوي أغلب المؤسسات الحكومية المهمة، قسم الشرطة، المطافئ، الإسعاف، مجلس المدينة، مقر أمن الدولة والحزب الوطني.

محاولات شتى من الأجهزة الأمنية لفضّ المسيرات بالتدريج؛ بدأت بمياه عربات المطافئ، ثم خرطوش مطاطي، حتى وصل لأعلى درجاته برصاص حي يستهدف صدور البشر، لكن مع كل رصاصة تُسقِط شخصًا، كانت الأعداد تتدفق أكثر غضبًا، تسارعت الأحداث، احترق قسم الشرطة، ومقرا أمن الدولة والحزب الوطني، فيما أخذت المدرعات تتحرك في الشوارع بجنون.

2

اقترب دومة من مُدرعة يعتليها ضابط شرطة "قولتله إنتوا بتضربونا ليه؟ إنتو المفروض تحمونا"، رد الأخير "إمشي يالا من هنا" لم يتحرّك الشاب العشريني، ظن أنه محمي لأنه يقف وسط ناس كُثر، وأن خمسة أمتار تفصله عن المدرعة قد تقيه شرّها، كان مُخطئًا، ذاك آخر مشهد ستراه عيناه وستحفظه الذاكرة "طلَّع الخرطوش وضربني في وشي بدون أي تردد".

وكأن تيّارًا كهربائيًا قد مسّه، تلوى دومة من الوجع "بقيت بجري ومش شايف أي حاجة قدامي واتحولت لنافورة دم بتنزف من كل حتة في جسمي"، حين أبصر الضابط الغضب الشاخص فيمن حول دومة، ارتبك "بقى يجري بعشوائية ويدوس على الناس"، لكن دومة كان قد فقد السيطرة على الوجع، ارتطم جسده بالأرض، غاب عن الوعي، ونُقِل إلى المستشفى.

3

تشرّب قميص دومة الأبيض دماءه، اقشعرّ بدن والدته حين رأت ولدها مُسجى "كنت بنزف من كل مكان، ومفيش أي مساعدة بتتقدم من مستشفى دمنهور العام، الدكاترة كانو خايفين يعالجوا أي مصاب، فالحالات كانت مرميّة على الأرض، أهلي مسكتوش واتخانقوا لحد ما دخلت العناية المُركزة".

في المساء سمعت الأم عاملة النظافة تتحسّر على ابنها "كانت بتقول إن الشاب ده يا حرام مش هيشوف تاني"، تملك الذعر من والدة دومة، قررت نقله لمستشفى بالإسكندرية بعد التوقيع على قرار بتحمل المسؤولية بشرط إيصاله بسيارة إسعاف مُجهزة وطبيب تحقق ما أرادته لكن "مفيش دكتور رضي يرافقني لأني كنت شبه بودع الحياة خلاص".

4

في صباح السبت 29 يناير كان دومة مستقرًا في مستشفى إسكندرية "بس مكنتش بتكلم ولا داري بأي حاجة، كنت في شبه غيبوبة وقعدت اتعالج ومحدش وقتها كان يعرف إني فقدت نظري لحد ما فوقت بعد شهر ونص ولقيتني مش شايف أي حاجة".

بعد إسبوع من الاكتشاف عاد الشاب العشريني إلى منزله "حالتي النفسية كانت صعبة، عينيا الاتنين كانو راحوا، وبدأ شريط حياتي يمر قدامي وافتكر كل الأحلام اللي كان نفسي أحققها، كنت شبه ميّت"، ما خفف عنه قليلًا حينما سأل أسرته "البلد حصل فيها إيه؟ فقالولي مبارك مشي فرحت بس مكنتش لسة متقبل برضه موضوع إني في الوقت اللي تنجح فيه الثورة أكون كفيف".

5

بمرور الوقت تكيّف دومة مع الأمر "وحبيته" حينما ذهب إلى مركز تأهيل بصري في القاهرة "اتعلمت إزاي اتعامل على الكومبيوتر وأمشي بعصاية، وسائل المساعدة دي هونت عليا لأنها خليتني أستغنى عن العنصر البشري ومش كل مرة هسأل حد ده إيه وده إيه، فهعرف أعتمد على نفسي".

حين قامت الثورة كان دومة طالبًا جامعيًا في الفرقة الثانية، مرّ الزمن بالثورة لكنه توقف عند هذه المرحلة "مكملتش دراسة لإنهم رافضين إني أمتحن ببرامج صوتية وعاوزيني أكون متعلم برايل ودارسه من زمان، رغم إني قدمتلهم ورقي بإني مصاب في الثورة".

ينخر وجع الإصابة في جسد دومة باستمرار حينما يُسفه أحد من دوره هو وكل من شارك "دي اللي بعتبرها إهانة لينا، كمان لما بروح أخلص ورق العلاج بتاعي بتعامل وحش، رغم إن جالي عروض من ناس إنها تتكفل بعلاجي بس رفضت، كان مبدأ بالنسبة لي زي ما الدولة هي اللي أصابتني هي اللي تعالجني".

6

سبع سنوات مرت على ذاك اليوم، عايش دومة معها تفاصيل مختلفة من عُمر الثورة، وحينما يقترب ذكراها يُصبح الكلام مُرًّا عليه حين يمطره الناس بعبارات الشفقة "بلاقي حد يقولي أهو ده اللي خدته من الثورة أو يقولي إنت صعبان عليا يابني اتعميت وإنت لسة في عز شبابك"، ينفض دومة عنه يأس الكلمات، يرد بثقة: "أنا مؤمن باللي عملته ولو الزمن رجع بيا هنزل وأشارك تاني، مش يمكن بصري ده يكون النور للبلد اللي عاوزينها؟".

بالنسبة لدومة لم تكن الثورة مُجرد ذكرى تمر بخاطره مع حلول موعدها، إذ تلازمه في كل خطوة، التحمت بجسده كما وجدانه "جسمي كله مليان خرطوش من يوم 28 يناير وبيوجعني لإنه في العضم، حتى عنيا الشمال فضلت محتفظة بتلاتة خرطوش لحد السنة اللي فاتت، كل ده تذكار بيفكرني بقراري لما نزلت من يوم 25.. كان أشجع قرار".

7

لم يندم دومة على ما جرى له، كان مؤمنًا بما نطقت به حنجرته، مازالت الهتافات تسكُنه، ومازال ممتنًا للحظة التي نزل فيها الميدان "كان عندي بُعد نظر"، غاب عن مشهد الاحتفال برحيل مُبارك، لكنه يأمل أن يكون حاضرًا حينما تُكلل الثورة بنجاح مطالبها "يتحقق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ساعتها هسترد بصري، ونور عينيا هيرجع لي تاني، هحس إن اللي عملته جاب نتيجة، وواثق إن ده هيحصل في يوم من الأيام".

تابع باقي موضوعات الملف:

ضيف مؤلم.. الإصابة تصنع من "السويسي" بطلا للثورة

أول طبيب ميداني لـ"يناير": الثورة أحلى "غلطة" في حياتي

الثورة تكمن في الكاميرا وعين "سعداوي"

"داخليًا وخارجيًا".. الثورة تحاصر "منة الله"

داخليا وخارجيا

أحمد سمير.. "إصابة أخفّ من ثورة"

  

 

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان