14 عامًا بين الأموات.. الطفلة منّة: "مش عايزة إخواتي يعيشوا زيي" (فيديو)
كتب- محمود عبدالرحمن
فيديو ـ أحمد حسين
حياة قاسية ومريرة تعيشها الطفلة "منّة"، قبل 14 عامًا جاءت إلى الدنيا، انطلقت صرخاتها من حجرة صغيرة ضيّقة، تقع في أحد أركان مقابر المجاورين بمنطقة منشية ناصر بالقاهرة. لم تكن حياة الطفلة الصغيرة تشبه تلك التي يعيشها أقرانها، تفتّحت عيناها على العيش بين أحضان الأموات، تتقاسم معهم كل شيء، طقوس المعيشة ومكان النوم، وفوق هذا لا تجد الصغيرة من يخفف من معاناتها أو يضع حدًا لألمها، تشكو حالها إلى نفسها، فوالديها "ضعاف السمع"، لا يتكلمون ولا يسمعون أنينها.
الفتاة التي لم تتجاوز منتصف العقد الثاني من العمر، ضمن 5 مليون مواطن يعيشون مع أسرهم بين الأموات بجميع محافظات الجمهورية، بحسب احصاء الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عام 2017، الذي قدر عدد سكان المقابر في القاهرة الكبري 1.6 مليون مواطن.
تقول الصغيرة والدموع تغالبها "احنا عايشين زي الميتين بالظبط، وإيه اللي هيحصل لما نموت؟، هيفتحوا المقابر اللي احنا ساكنين فيها وندّفن، مش هيتغير كتير"، تتذكر قسوة ما عاشته، انقطاع عن الناس والحياة الطبيعية، لا أعياد ولا مناسبات إلا رؤية زوار المقابر من حولها. بينما يؤرقها أن يعيش إخوتها الصغار حياة مرّة كحياتها "أخواتي ثلاث بنات ملك 12 سنة ومريم 3 سنين ومنال سنتين ومحمد 9 سنين، أنا مش عاوزة أي حاجة لنفسي لكن عاوزة أخواتي يمشوا من هنا"، بلهجة ضعف قالتها "منّة".
تعود ظاهرة السكن في أحواش المقابر إلى بداية القرن الماضي، حيث كانت البداية داخل المقابر المواجهة لسور القاهرة الفاطمية، المحصورة بين منطقتي الدراسة وباب الشعرية، مع مرور السنوات، تطور أزمة السكن أصبحت أحواش المقابر أحد المناطق السكنية التي تشهد تزايد مستمر كل عام.
لا تريد "منه" صاحبة الـ14 عامًا أن يكتشف إخوتها الواقع كما اكتشفته، لا تريد أن يوصموا بأنهم من سكان المقابر، تتذكّر حين طلبت منها صديقاتها زيارتها في المنزل، تهرّبت منهن الفتاة، ولما ألححن عليها، تغيّبت عن المدرسة لمدة أسبوع كامل، دخلت على إثر ذلك في حالة نفسية عزلتها عن أسرتها، وفق ما تروي جدّة الطفلة، وحين سألوها عن سبب الغياب انفجرت الصغيرة ببركان من الحزن وقلة الحيلة "صحبتي عاوزة تيجي بيتنا، بينما تذكر الفتاة "مش عاوزة ده يتكرر ويحصل مع أخواتي تاني".
"لابد أن تعالج الدولة هذه المسألة وتهتم بالأشخاص سكان المقابر وتوفير مساكن آدمية لهم كما وفرّت لسكان العشوائيات"، يقول الدكتور سعيد عبد العظيم، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، مضيفًا: "هذه الأمور التي تحدث مع الأطفال سكان المقابر تجعلهم يلجأون إلى العزلة عن الآخرين، والدخول في حالة اكتئاب بسبب الشعور بأنه أقل من غيره سكان المناطق الأخرى الذين يعيشون حياة طبيعية".
وأشار "عبد العظيم" إلى فيلم الراحل أحمد زكي "أنا لا أكذب ولكن أتجمّل"، عندما أحب فتاة وقال لها إنه من الأغنياء، لتقوم بزيارة مفاجئة له وهو يقوم بحفر الأرض لدفن أحد الجثث، لتكتشف أنه من سكان المقابر.
مواقف ومشاهد عدّة في حياة "منّة"، خلّفت في نفسها جرحًا غائرًا، لا يفارق عقلها مشاهد الموتى ملفوفين بالأكفان البيضاء، بين صرخات ذويهم، اعتادت الصغيرة على رائحة الموت، تتأمل الأسماء المحفورة على القبور، تحكي "مكنتش بخاف من الأموات وأنا صغيرة، مكنتش أعرف، بس لما كبرت وعرفت كنت بموت من الخوف لما ألاقي ميت بيدفن باليل"، فيما يخترق سمعها ليلًا أصوات نباح الكلاب الصالّة أو عواء الذئاب، غير أنها مع الوقت اعتادت هذه المشاهد، ولم تعد تجلب لها الخوف كما كان سابقًا "اتعودت خلاص إني انقطع عن الدنيا وأعيش زي الموتى"، تقولها الصغيرة بملامح كسرة وخيبة أمل.
في أكتوبر 2009 أعلنت الحكومة عن خطة تفصلية وضعتها جامعة عين شمس بالتعاون مع هيئة التخطيط العمرانى، بهدف نقل المقابر وقاطنيها من الأحياء المتواجدة داخل القاهرة والتي تتمدد على مساحة 1400 فدان من مدينة نصر شمالا إلي البساتين والسيدة عائشة والدراسة ودار السلام وعين الصيرة جنوبا وشرقاً، تمهيدا لنقلها خارج القاهرة في إطار الرؤية المستقبلية للقاهرة الكبرى 2050، وذلك في إطار التعاون بين جامعة عين شمس وجامعة بوليتكنيكو بإيطاليا، لكن هذه الخطة لم تنفذ حتى اليوم.
فيديو قد يعجبك: