معجزة "نوجين".. شقت طريقها من حلب إلى ألمانيا على كرسي مُتحرك (حوار)
كتب-شروق غنيم ومحمد مهدي:
لحظات الإظلام تمر ببطء كأنها قَدر لا فرار منه، لكنها أحيانًا تخَتبر قدرات البَشر على التحمل قبل أن تمنحهم حياة جديدة، هذا ما عايشته الفتاة السورية "نوجين مصطفى" حينما خاضت رفقة أسرتها تجربة صَعبة لا تتكرر كثيرًا، الخروج من دمار حلب إلى تركيا، ومنها تعبر عدة دول برًا وبحرًا حتى الوصول إلى وجهتها الأخيرة في ألمانيا، كل هذا على كُرسي مُتحرك، حتى صارت حديث العالم ونقلت رحلتها في كتاب بالإنجليزية.. مصراوي حاور الفتاة السورية عن حياتها قبَل وبعد التجربة.
الزمن لا يتوقف، عجلة التغيير تدور، فيما كانت نوجين ساكنة على كرسيها المتحرك، نافذتها على العالم بضعة كتب وتلفاز، بينما شقيقتها الأكبر نسرين عيون تنقل لها ما يدور بالخارج "كنت منعزلة تمامًا"، حتى أنها لم تذهب مثل أقرانها إلى المدرسة، منعها إصابتها بشلل دماغي وسكنها بالطابق الخامس من ذلك "كتير صعب أطلع وأنزل فأختي كانت بتذاكرلي". حياة عادية تقلّبت فيها صاحبة الـ19 عامًا وتقبلتها، حتى أدركت الحرب بلادها.
توتر لم تعهده نوجين من قبل اخترق صفوف العائلة، عام 2014 بات العيش في حلب بالنسبة لهم مستحيلًا، فيما كان والديها يرفضون الرحيل عن وطنهم لآخر لحظة، اتخذوا قرار النزوح إلى مدينة منبج، بدت خطوة جديدة بالنسبة للفتاة السورية، ورغم صعوبة الموقف، انتابها حماس طفولي بأنها سوف ترى ملمح جديد من الحياة.
في منبج لم يكن الوضع مستقرًا، باتت المدينة عالقة، قوات "داعش" على الأبواب تُحكم حصارها، لم يعد خيارًا آمنًا للأسرة، مرة أخرى تضطر إلى اتخاذ القرار الصعب، الرحيل. حزن اختبرته الفتاة اليافعة، كانت تُدرك أن هذه رحلة بلا عودة، لكنها استمسكت بها "نحنا نستاهل نبلش حياة من أول وجديد وهاي فرصتنا الوحيدة ليكون عنّا مستقبل".
هجر الوطن لم يكن وحده المؤرّق للعائلة، بل كيف يمكن مساعدة ابنتهما القعيدة في تحمل الرحلة الشاقة نحو المجهول. استطاعت الأسرة أن تصل إلى الأراضي التركية، لم تشعر نوجين بصعوبة في ذلك "كنا موجودين بقرية على حدودها"، لكن الأوضاع ما لبثت أن تتعقد من جديد "في تركيا ما قدرنا نلاقي شغل لأخي، أو إختي تكمل دراستي، وكشخص من ذوي الاحتياجات الخاصة ما كان إلي فرصة في هاي البلد".
لم تذق الأسرة طعم الاستقرار، علموا ذلك منذ اللحظة الأولى التي تركوا فيها وطنهم، لذا قرروا الدخول في المغامرة بملء طاقتهم، بين كل ذلك، كانت تقبض نوجين على مشاعر إيجابية، لا تعرف كيف أتت بها، كل ما تعرفه إنها "كنت كتير متحمسة، وهاد طبيعي بالنسبة لواحدة ما طلعت من البيت من قبل، وراح تلف على بلدان العالم".
المشقّة لم تكن في الرحلة، بل في الطرق التي على الأسرة اتخاذها للوصول. وأولها البحر. سيناريوهات لا تُحصى مرّت بخاطر الأسرة قبل أن تتخذ القرار، وقد رأوا كيف غدرت الأمواج بمن سبقهم، لكن لا وقت للتردد، لأول مرة ترتاد نوجين البحر، تبصر عينها المساحة الزرقاء اللامتناهية فتزداد شغفًا بالتجربة، تسلّحت بإيمانها "شو ما قدر الله راح يصير"، وظلت مؤمنة بأحقيتها هي وأسرتها بفرصة ثانية في الحياة.
رحلة خشنة ومشاعر مضطربة، غير أن قلب الأسرة كان يلين كلما نظروا إلى ابنتهم الصغرى، تهوّن الثورة التي تعتمر نفوسهم "دفعوا فلوس إضافية لصاحب المركب، لحتى ما يخلي حمولة زائدة في المكان"، فتكوّر 38 بينهم 11 طفلًا في القارب المطاطي، بينما يرتكن الكرسي المتحرك على جانبيه.
مرت على الأسرة ساعات مُرة، لكن نوجين كانت تَكسر تلك الحالة بإلقاء الدعابات على شقيقتها "كان فيه طُرق وسُبل عشان أقدر أفرفشها" تعرف مدى عشقها لفريق ريال مدريد "كنت بهزأها، بفكرها إن احنا-برشلونة- فوزنا بكل بطولات الموسم وهما طلعوا زيرو" تضحك الأخت الأكبر، تتفاعل معها في مشاجرة طفولية فتنسى ما يدور من حولهما من خَطر ومخاوف "كان بدي أقولها إن كل حاجة هتمر على خير، وإحنا هنفضل نعاكس في بعض ميهمناش أي وضع".
حين لاحت اليونان في الأفق الأزرق، شهقت الأسرة سعادة، من هناك بدأت رحلتهم البرية صوب ألمانيا، مروا بحدود دول مختلفة، كانت تترك الفتاة مقعدها، وتصعد إلى عربات تشّق طريقها إلى الحدود.
عند الحدود الهنجارية، تلّقت نوجين أول صدمة في رحلتها، انطفأ حماسها بعد المعاملة التي تلقتها هي وأسرتها "كانو خايفين مننا كلاجئين وما كان مرحب فينا، وكإننا حاجة مضرة للبلد، وكنت مضايقة عشان كان طريقنا طويل وإحنا عملنا كتير إشيا عشان نوصل لللمرحلة دي"، لكن الحال تبدّل حين فتحت أبواب حدود كرواتيا فيما بعد.
لا تنسى نوجين ليلة قاسية عايشتها في مبنى تابع للشرطة في سلوفيينا، كان كابوسًا مزعجًا أكثر من شّق البحر "مكنش مسموح نعمل تليفونات أو نستخدم أي شي، كنا معزولين على العالم، كنت حاسة إني معتقلة، وتوترت جدًا، خففت الضغط من على نفسي بالتفاؤل" تبدد القلق حين سمحت الحكومة بعبورهم حدود النمسا، ومن هناك كان الوصول إلى ألمانيا أسهل.
تحول مفاجئ أصاب حياة صاحبة الـ19 ربيعًا، الفتاة المنطوية التي لا تعرف كيف تكون شوارع مدينتها، عبرت البحار والحدود، باتت تتحدث أكثر من ذي قبل، طافت رفقة مقعدها في شوارع ألمانيا، يشهدان سويًا على نمط جديد من الحياة لم يألفاه من قبل، لكنهما أحباه.
لأول مرة تستيقظ نوجين من أجل هدفٍ ما في الحياة "غريب بالنسبة لي إني أفيق حتى أروح المدرسة"، بذلت ما بوسعها حتى تعتاد الأجواء "الموضوع مكنش سهل في المجتمع الألماني بأول فترة" لكن مدرستها ساعدتها كثيرًا، تقبلوا الحديث معها بالإنجليزية حتى تتعلم الألمانية "وأكتر شئ بيساعد إنهم ميبستخفوش بقدراتك".
تأقلمت نوجين في حياتها الجديدة، ساعدها على ذلك إجادتها للغة الإنجليزية، لم تتعلمها في مدارس أو تلتقطها من أسرتها "بقيت أقدر أمارسها وأتحدثها من المسلسلات والأفلام والبرامج" في البدء تابعت الأعمال الفنية مع الترجمة كونها مغرمة بالمسلسلات والأفلام الوثائقية والبرامج الطبية "بعد فترة حسيت إني مبقتش محتاجة ترجمة زي الأول" تعلمت الإنجليزية العامية، حتى صارت تتحدثها بطلاقة.
مرت أشهر قبل أن تتلقى اتصالًا من صحفية إنجليزية التقت بها أثناء وجودها على الحدود الهنجارية "كانت معجبة برحلتي مع الكرسي المتحرك، واقترحت إعداد كتاب عن تجربتي" كان رأس نوجين ممتليء بأفكار عدة أرادت تمريرها إلى المجتمع الألماني والشعوب الأوروبية عن اللاجئين فوافقت على الفور.
دَفعة كبيرة تلقتها الفتاة السورية بعد نَشر الكتاب وانتشاره، لم يعد للعزلة مكانًا، تحرر جسدها حتى وإن لايزال أسير المقعد المتحرك "فجأة بطلع في التلفزيون والصحافة لحتى أتكلم مع الناس وأشارك تجربتي"، كسرت ذلك من أجل نفسها، أسرتها، ووطنها "حكيت رحلتنا ليهم عشان يفهموا إن اللاجئ مو خطر، هو إنسان عاوز يعيش وأد إيه صعب عليه إنه يسيب بلده، وأد إيه كنا زيكم في حياتنا، كان لينا بيتنا وشارعنا وثقافتنا، اتعرفوا علينا وشوفوا إننا مبنختلفش كتير".
خلال إحدى ندوات الكتاب في أسبانيا "وأكيد لما هكون هناك لازم حد يتكلم عن الكورة" تحدثت بحماس شديد عن متابعتها الدائمة للدوري وعشقها لنادي برشلونة، التقط ذلك أحد الحضور "بيعمل في مؤسسة برشلونة الخيرية" أخبرها في نهاية اليوم أنها سيحاول بقدر إمكانه إتاحة فرصة لها لحضور إحدى المباريات ولقاء نجوم الفريق، بعدها بأشهر حضر إليها برفقة حافلة من أجل مشاهدة مباراة لبرشلونة في "كامب نو".
شيء لا يصدق، هكذا شعرت "نوجين" فرحة غمرت قلبها وهي تستقل الحافلة برفقة كرسيها المُترحك لتقطع نحو 18 ساعة للحاق بمباراة الفريق "عمري ما أتخيلت أروح كامب نو، ودي أول زيارة ليا لملعب كورة" حين وصلت كان الاستقبال جميلًا "قابلت الفريق وأهدوني تي شيرت النادي" واتفقوا معها على حضور حفل الفريق في الكريسماس "أجمل هدية اتقدمتلي.. حسيت إني جزء من عيلة برشلونة مش زي أي مشجع".
في الكريسماس، كانت حاضرة "قابلت ميسي واتصورت معاه، اتكلمنا كأننا معرفة قديمة" كان حديثًا دافئًا مع نجم الفريق "كنت بكلمه في حاجات عادية، زي واحد صديق مشفتوش من فترة طويلة" يرد الأخير بتواضع شدي وهدوء "بيتكسف، اللي بيشوفه وهو قاسي في الملعب مش هيصدق" تلك لحظات منحتها الكثير من الحب والرعاية لم تكن تتوقعها يوما ما.
تغيرت حياة نوجين كثيرًا في وقت قصير، التَجربة منحت روحها السلام والأمل، باتت تملك فلسفة خاصة رغم سنها الصغير تُمررها لمن حولها وفي كُل مكان تذهب إليه "ضروري نفكر دايمًا في فُرصة تانية في الحياة، ولا نستسلم للإحباط"، تغمرها السعادة خين يعتبر الكثير ما جرى لها دافعًا قويًا لهم "لو الناس من خلال قصتي، مفقدوش الأمل وضلوا يامنوا بنفسهم، دا شيء كبير ليا".
فيديو قد يعجبك: