إعلان

محل "عبدالحميد" من عُمر السد العالي.. حكاية "صديري" و"جلابية" يصارعان للبقاء

04:46 م الأربعاء 31 أكتوبر 2018

محل عبدالحميد

كتبت- رنا الجميعي ودعاء الفولي:

تصوير-كريم أحمد:

مع الوقت، زحفت المباني الحديثة على شارع محطة السكة الحديد بأسوان، اختلفت الملامح والألوان، إلا محلًا عتيقًا، إضاءته ضعيفة، يجلس فيه شقيقان بمنتصف العُمر، بابه مفتوح، ومُعلق عليه أقمشة ونماذج لـ"صديري" و"جلباب" اعتاد أهل أسوان والصعيد ارتداءه، ما زال المكان مفتوحا منذ حوالي ستين عاما، مر بأوقات ازدهار وأخرى انخفض فيها الطلب، وبين هذا وذاك يأبى عبدالقادر ومحمد عبدالحميد إغلاقه.

__ 1

على الأرض جلس عبدالقادر صاحب الخمسين عاما. يحيك جلبابا مُخططا، يخلط درجات اللون الأخضر على صدر الجلباب مستخدما الحرير، يُقرب عينيه من القماش ليرى جيدا، ظهره منحني ولديه إصابة بالغضروف "لكن مضطر أشتغل".

ما زال عبدالقادر يتذكر تلك الأيام، حين كان صغيرا يلهو في أرجاء المحل، كان صيت والده ذائعًا في الستينيات "إحنا فاتحين من أيام السد العالي، أبويا كان مشهور في كار القماش.. ومن كتر ما اتشهر في أسوان طلبوه في القاهرة عشان يعمل كسوة الكعبة"، لا يُحب الابن الأكبر المهنة كثيرا "بس اتعلمتها بالضرب.. مكنش فيه مجال للغلط.. كنت بتضرب عشان حاجة الزبون متبوظش".. يروي كيف كان والده يتعامل بجديّة "مرة سامية الإتربي جات له عشان تطلعه في برنامج حكاوي القهاوي، قالها أنا مش فاضي".

__ 2

لأعوام طويلة ظلت مهنة الأقمشة تعتمد بالكامل على يد الصنايعي "بنقص القماش على إيدينا ونخيطه وبعدين نبدأ نشتغل على تطريز الجلاليب"، يقول محمد الأخ الأصغر لعبدالقادر، لم يكن الأمر سهلا "لو ضربة إبرة جت غلط الدنيا تبوظ، كنا بنعمل الجلاليب للبهوات ولازم تبقى ألاجة".

__ 3

مع الزمن تفاوت شكل الجلباب "الكُم الواسع بقى أضيق شوية" حسبما يقول محمد، فيما بدأ آل المحل يصنعون الجلاليب مختلفة الجنسيات "بقينا نغير فيها شوية فتلائم أهل المغرب والجزائر ونغير في الصديري شوية فيبقى شبه بتوع بدو سينا أو حلايب وشلاتين"، لم يُنشئ الأب الراحل فروعا أخرى سوى في الإسكندرية "بيشتغلوا في الجلاليب والصديري برضو بس الحاجات بتاعة بورسعيد وبحري".

يعتبر عبدالقادر نفسه فنانا "الـ200 لون بتوع العالم لازم أعرفهم كلهم"، يقولها بينما يحيك خيطًا حريريًا لونه أخضر فاتح، بجانب خط آخر أغمق "الجلابية ممكن تاخد أسبوع وممكن شهر، حسب الشغل فيها"، خاصة إذا كانت مصنوعة من الصوف كما يضيف محمد "الصوف متعب في العمايل بس بيطلع حاجة تعيش"، كذلك تتفاوت الأسعار، فالمصنوعة من الصوف هي الأغلى "بتبدأ من 2000 جنيه وممكن توصل لـ5 آلاف"، إذ أن سعر متر القماش يصل لـ1200 جنيه.

__ 4

قبل عشرين عاما تُوفي الحاج عبدالحميد، بات على الأشقاء العمل بمفردهم، لكن الإقبال على الصناعة تغير ككل شيء "الناس فلوسها بقت قليلة، محدش بقى معاه يفصل حاجة بـ300 جنيه ولا 400"، يتذكر عبدالقادر ذلك الزبون الذي أتى له بالقماش وتم أخذ مقاساته، ثم ترك الجلباب عنده لحين يتوفر لديه المال، انعكس ذلك على حال المحل "هنشتغل إزاي بفن وإحنا ضهرنا مش متأمن؟" يسأل الشقيقان بضيق.

__ 5

لعبدالقادر 4 أبناء، بين الجامعات والمدارس الحكومية، لا ينوي هو أو شقيقه إدخال أولادهم في نفس المجال "لازم تبدأ فيه وأنت معاك فلوس لأنه مبيكسبش في الأول"، لكنهما مضطران في نفس الوقت للإبقاء على المكان مفتوحا، ليس فقط لأنه إرث والدهما "إحنا مبنعرفش نشتغل حاجة تانية"، فحتى تجربة عبدالقادر مع نزول القاهرة كانت متعلقة بالأقمشة، يصف تلك الفترة من حياته بالأفضل "كان فيه فلوس كتير ورزق، بس اضطررت إني أرجع عشان عيلتي هنا".

__ 6

يحاول الشقيقان التعايش مع الوضع، بداية من ارتفاع سعر الأقمشة والخيوط للضعف في السنوات الماضية، وحتى كساد الشراء بسبب سوء الأحوال المعيشية وبُعدهم عن القاهرة، تساعدهما الزوجتان في رتق الملابس والكيّ، يتحاملان على بعضهما، يستعيدان بين حين وآخر ذكريات الزمن الجميل "أبويا كان حظه أحسن مننا، إنما الزمان ده محدش رايق يلبس ولا يتشيك واحنا شغالين بس عشان نعيش".

فيديو قد يعجبك: