الإرهاب أفقد "مبارك" ساقيه.. سائق إسعاف العريش يحلم بأطراف جديدة
كتبت-إشراق أحمد:
ما إن يحل الظلام أو يختلي محمد مبارك بنفسه، تطارد الأفكار رأسه "هدخل إزاي البيت لعيالي، هرجع اشتغل تاني، مين هيطلع معايا؟". يبكي حينًا، ويبلل الحمد لسانه أحيانًا أخرى، فيما يخيل له الشعور أنه لم يفقد أطرافه، "بليل بحس أني عايز أحك رجلي لكن باجي أمد إيدي فأحك في السرير" يقول سائق الإسعاف بعينين دامعتين.
في الثامن والعشرين من أغسطس الماضي، استهدف إرهابيون سيارة الإسعاف التي يقودها مبارك بعبوة ناسفة، أثناء نقله لمريض في شمال سيناء، فلحقت به إصابة بالغة أفقدته ساقيه.
يرقد مبارك في مستشفى الشيخ زايد، في القاهرة، يتذكر السائق السيناوي تفاصيل ذلك اليوم؛ تمركز مبارك صباحًا في نقطته، على طريق العريش-بئر العبد. نحو 500 مترًا كانت تفصله عن بيته، يراه على مرمى البصر، فاقترح عليه زملائه أن يتناول الإفطار مع أسرته ثم يعود. ذهب الرجل الثلاثيني لمنزله، وما إن وضعت زوجته الطعام حتى جاءه الهاتف "محمد معلش زميلك بنته عيانة تعالى اطلع مكانه". غادر مبارك أسرته مودعًا.
جاء بلاغ من غرفة عمليات الإسعاف، بالتحرك إلى منطقة المحاجر-جنوب العريش، لنقل أحد الضباط في حالة إعياء. قاد مبارك سيارة غير التي اعتاد العمل عليها، وصاحب مسعف يدعى أحمد سلام، تم استدعاؤه من تمركز آخر لتلبية النداء، فاجتمع الرفيقان في أول رحلة لهما معًا، على ذلك الطريق الذي لم يكن مبارك على دراية جيدة به كما يقول.
ساعة إلا ربع حتى وصل الإسعاف إلى مكان الحالة المرضية "ضابط كان عنده مغص كلوي" وما هي إلا أمتار قطعتها السيارة على الطريق الدائري، حتى صاح المسعف الذي ركب في الكابينة الأمامية "محمد محمد.. طير يا مبارك".
كاد أن يضغط السائق على إنذار الإسعاف "سارينة"، لكن الانفجار كان أسبق إليهم "لقيتهم طاروا -المسعف والحالة- والعربية كمان طارت" يحكي مبارك لمصراوي عن لحظة استهداف مركبتهم بعبوة ناسفة من قِبل الإرهابيين، وهو ما أسفر عن إصابته وزميله المسعف بشظايا متفرقة لكن الأخير نجا بسلام هو والحالة.
لحظات قليلة احتفظ بها مبارك قبل أن يغيب عن الوعي في مستشفى العريش "كنت قاعد مكاني وشايف رجلي.. فضلت اتشاهد وأقول يارب خليني لعيالي يوسف وأحمد وآية". ظل السائق مدركًا ما حوله، انتقاله على ظهر مدرعة، حديثه مع مسعف زميل، ودخوله غرفة العمليات.
في 31 أغسطس الماضي، وصل مبارك إلى مستشفى الشيخ زايد، في القاهرة، أجريت له عملية جراحية لبتر قدميه بعدما أصابها التفجير بالتهتك. وتلقى علاجًا ليده اليمنى التي أعياها الانفجار.
حتى قبل نحو 15 يومًا كان صاحب الثامنة والثلاثين ربيعًا لم يزل مصدومًا، لا يستوعب أنه فقد ساقيه، إلى أن أزاح الغطاء عن جسده، حينها تأكد أنه لم يعد بإمكانه الحركة كما كان.
وعود تلقاها مبارك بتركيب أطراف صناعية ليمشي على رجليه مرة أخرى، منذ كان في مستشفى العريش أخبره محافظ شمال سيناء السابق بذلك قبل مغادرته لمنصبه، وكذلك رئيس هيئة الاسعاف قبل أن يتولى آخر مكانه، لكن إلى الآن لم يأت له خبر أكيد كما يقول.
لا يهتم مبارك لشيء في الحياة سوى زوجته وأولاده، من أجلهم طالب بنقله قبل ثلاثة أشهر من نقطة كمين الميدان لتمركز آخر، ظن أنه سيبتعد قليلاً عن الأذى ويواصل أداء واجبه في الوقت ذاته، كما أخبر رفيقه لأربعة أعوام من العمل، المسعف أحمد جمال، لكن صدقت كلمة الأخير له "اللي مكتوب لنا هنشوفه"، فكان لمبارك أن يودع جمال "شهيدًا" في يوليو، ويلحق به بعد شهر مصابًا.
وبينما يجلس سائق الإسعاف في المستشفى، يحمد الله على ما أصابه، يتذكر القدر الذي سيق إليه؛ في الأول من أغسطس الماضي، عاد مبارك لعمله بعد الإجازة "كانت رجلي بتقدم وتأخر وأنا رايح، حتى ابن عمي سألني قلت له الشغل مش على هوايا ولولا المصاريف كنت سبته". غصة أصابت نفس مبارك، ومع ذلك طلب أن يعمل الشهر كاملًا ولا يحصل على إجازة 15 يومًا كالمعتاد، حتى أنه كان ينتظر اليوم التالي لإصابته، الموافق 29 أغسطس لتبدأ إجازته بعد دوام العمل دون انقطاع.
450 جنيهًا أول مرتب لمبارك في الاسعاف عام 2008، فرحة عارمة ذاقها السائق المتزوج حديثًا حينها بهذا المبلغ، رغم أنه لم يكن يبقى له منه سوى 150 جنيهًا بعد دفع إيجار المنزل والجمعية كما يقول، كما كانت الغبطة تطارده أينما حل في دائرة المعارف. ترك ابن سيناء العمل على الميكروباص ولبى ما يتطلبه مهمة سائق الإسعاف لأجل البقاء على الراتب، والرغبة في حياة أفضل لأولاده.
زاد راتب مبارك على مدار عشرة أعوام عمل، ومعه تضاعفت الأعباء، لاسيما في السنوات الأربع الأخيرة، بعدما بدأت الحرب على الإرهاب، يقف سائق الإسعاف مثل زملائه على خطوط النار كالجنود "بيبقى في انفجار وتعامل بين الجيش والتكفيريين وأنا في النص". اعتاد الرجل الثلاثيني أصوات الرصاص والتفجيرات وحمل الجثث بل والأشلاء حال ما فعل في واقعة مسجد الروضة، حتى أصبح يرجو مع كل إشارة خبر مختلف "كنت بتمنى أطلع على خبر ميكروباص مقلوب.. حادثة عادية يعني".
لم يكن يُحزن مبارك سوى الظن أن العاملين في إسعاف سيناء "مرفهين" كما يصف، فلا يكف عن تفصيل مدخرات راتبه "مرتبي كله 4500 بيفضل في البنك 1900 بعد خصم الضرايب والقرض اللي واخده عشان نفسي ابني بيت ليا ولعيالي" يقول السائق بينما يتألم بالتفكير في كيفية تدبير الديون بعدما أصبح القادم غير معلوم.
شهر انقضى على بقاء سائق الإسعاف في المستشفى، يخشى مبارك أن يُنسى مع الأيام. يتألم لكلمات ابنته الصغيرة آية بينما تهاتفه "بابا تعالى وأمشي بقى". يومًا تلو الآخر يثقل عليه حِمل الرجوع إلى منزله في سيناء، فيما يُمني نفسه بأمل لقاء أسرته بينما يمشي على أطراف جديدة ليعود إلى عمله وليس طريحًا للفراش كما هو حاله الآن.
فيديو قد يعجبك: