30 عاما من المحاولة.. رحلة أفضل ممثل بمهرجان القاهرة السينمائي
حوار-محمد مهدي:
كانت الأمسية سعيدة، حفل ختام الدورة الـ40 من مهرجان القاهرة السينمائي، نجوم لامعة وصناع الأعمال المشاركة في القاعة الرئيسية لدار الأوبرا، الوجوه مشدوهة إلى خشبة المسرح، في الصَف العاشر يتبادل الفنان شريف الدسوقي، بطل فيلم "ليل خارجي" الأحاديث مع زملائه، لم يكن لديه توقعات عن الفائز بأفضل ممثل بالمهرجان، حين صعدت الفنانة "أمينة خليل" إلى المسرح لإعلانه، لحظات صمت قبل أن تهتف باسمه، ليدوي التصفيق، يقف الجميع من أجله، يصرخ بفرحة الفنان أحمد داوود بينما يلتقط بكاميرته تلك اللحظات "رائع يا شرررريف" بينما يخطو نحو المنصة، شعر بخَفة كأنه لا يسير على الأرض "شوفت شريط حياتي، كل تعبي".
الموهبة لا تظهر من العدم، ولد الدسوقي منذ 51 عاما لأب يعمل مديرًا لمسرح فرقة إسماعيل يس في الإسكندرية "لما بدأوا يشتغلوا بنوا لوالدي بيت في ضهر المسرح" لا يفصل البيت عن المسرح سوى باب، كان الأب يفتحه فيدلف إلى المكان "كنت بشوف وأنا صغير عمالقة الفن، إسماعيل يس، زينات صدقي، سيتفان روستي، وغيرهم" يتابع البروفات، تدريباتهم على النصوص، يشاهد مسرحياتهم من الكواليس، زُرع حُب الفن في قلبه فبات متيمًا به لكن واجهته أزمة كبيرة.
رفض الأب أن يعمل شريف في مهنة التمثيل "كان بيشوفه وسط خطر واحنا أسرة بسيطة وهتعب بسببه" ظل بعيدًا عن الفن رغم أن ما يفصله عن المسرح والنجوم مُجرد باب "ومقدرتش أدخل المجال إلا لما والدي توفى" خوفًا من مجاملته من أجل والده فضل شريف شق طريقه بنفسه "روحت على قصور الثقافة" انهمك في تعلم كل شيء بنهم "بقيت بمثل وبكتب وبخرج" وصار واحدًا من أشهر ممثلي المسرح في عروس البحر المتوسط، لكن بُعده عن العاصمة جعله بعيدًا عن عيون مُخرجي السينما.
المسرح لا يمنح الفنانين الكثير من المال لذا اضطر الفنان الكبير إلى العمل "في شغلانات بسيطة" حتى يوفر مصدر رزق لا يعطله عن هوايته وموهبته "اشتغلت ميكانيكي، كهربائي، حلواني، بياع الورد" كأنه شخصين في النهار عامل وخلال المساء "بروفات ومسرح" مع السنوات تُصقل موهبته "حصلت على 16 جايزة ما بين تمثيل وكتابة وإخراج" سافر إلى دول عديدة منها ألمانيا وإيطاليا وبلاد المغرب العربي.
حصل على وظيفة في وزارة الثقافة لكنه لم يستطع الصبر "كنت منشغل بالتمثيل وإني أطور نفسي طول الوقت" حين يعتلى المسرح يملك زمام الأمور، يشد الانتباه، يصول ويجول دون ملل أو تعب، وحين يُصاب بالاحباط لعدم الوصول للمراد "أساتذتي نصحوني جلد وصبر" يذهب إليهم كثيرًا في كلية آداب قسم مسرح جامعة القاهرة، أو أكاديمية فنون جميلة، خاصة أنه كان يملك قناعة كبيرة بامكانياته وأنه لن يُفلت الفُرصة عندما تأتي إليه.
ما بين الإسكندرية والقاهرة ينتقل شريف كثيرًا خلف أدواره وأعماله المسرحية، تمر السنوات والعقود ولا يجزع "لحد بداية الألفينيات الدنيا اتغيرت مع ظهور السينما المستقلة" عندما شعر المخرجين بأنه فنان جاد استعانوا به في أعمالهم بداية من فيلم الحاوي للمخرج إبراهيم بطوط "ثم فيلم "حار جاف صيفًا" لشريف بنداري "وعملت دور في مسلسل زي الورد ليوسف الشريف" ثم انشغل بتجربته كحكاء مع صندوق التنمية الثقافية "عملت مشروع اسمه مسرح في كُل مكان" قبل أن يتلقى اتصالا هاتفيًا من المخرج أحمد عبدالله يحوي مفاجأة.
"قالي على دور مصطفى، سواق التاكسي في فيلمه الجديد ليل خارجي" حين قرأ سيناريو الفيلم "حسيت إن عندي مخزون كبير جوايا شبه الشخصية" جولاته على مدار سنوات في الشوارع والمناطق الحيوية والأسواق منحته عشرات الشخصيات في جعبته "كنت بنزل أقعد في اسواق الخضار وحلقة السمك وعلى الكورنيش عشان أجمع كاركترات بني آدمين" فأدرك أنه يملك القدرة على تحويل شخصية مصطفى من الورق إلى الحقيقة.
خلال التحضير للشخصية، ذهب شريف إلى منطقة "إمبروزا" بمحرم بك "منطقة فيها زخم من الناس والدراما والكوميديا مش طبيعي" من بين هؤلاء لفت انتباهه سائق في سن الـ 60 "عم عادل، تحس إنه موظف في وزارة كبيرة من كُتر ما الناس بتتلم حوليه ويسألوه في مشاكلهم" كان الرجل سائق تاكسي "عنده رصيد من الحكمة خلاني أتاثر بيه وأنا بمثل الدور".
لأشهر عكف الجميع من صناع الفيلم على التدريب والبروفات والتجهيز للتصوير "نصيحة المخرج دايمًا إنه متحفظش، عندك منطقة ارتجال بس بدون الخروج عن المضمون" تلك لعبة شريف المفضلة كونه حكاء لديه عروض للحكي يُجيد التأليف والارتجال "عشان كدا كنا طالعين حقيقين مش بنمثل في الفيلم" ثم بدأت المتعة الحقيقة بتصوير مشاهده في "ليل خارجي".
التصوير في شوارع القاهرة يضع صناع الفيلم في أزمات أحيانًا، يلوح المارة أحيانًا أمام الكاميرا، يلتفون أمام نجوم العمل "بقيت بتعامل بسرعة عشان التصوير ميحصلوش مشكلة، الناس مكنتش عارفاني فكنت بكلمهم على إني سواق حقيقي" يطلب منهم الابتعاد حتى لا يتعرض "أكلة عيشه" للضرر، وأحيانًا "بستخدم الجمهور في الشارع كأنهم كومبارس، جزء حقيقي من المشهد بتاعنا، من خلال خبرة السنين".
بعد الانتهاء من تصوير الفيلم، كأنه حلم وانقطع، انتظر الفنان الكبير عرضه بفارغ الصبر "عايز أعرف رد فعل الجمهور" عُرض أولًا في مهرجان "تورنتو" السينمائي، قبل أن يتم اختياره في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ 40.
في ليلة العرض الأولى لليل خارجي حضر شريف برفقة فريق العمل، جلس قلقًا وسط الجمهور، وعدد من كبار الفنانين وصناع السينما بمصر، كانت الدهشة حاضرة، الإعجاب بادي في العيون "كلام مهم سمعته من نجوم كبار بعد الفيلم ما خلص" بدا أن هناك شيء سار سيحدث لهذا الفيلم المميز "وقبل حفل الختام كلمني أحمد عبدالله قالي لازم تحضر، مكنتش عارف ليه، بس كان مصمم" حتى جائت لحظة الإعلان عن فوزه.
بابتسامة كبيرة وقلب يخفق من السعادة ويد لا تترجف كونها تستحق الجائزة، وقف شريف على المسرح يُحيي الحضور، عيناه تمتليء بالدموع "بكيت من الموقف ومحبة الناس ودعمهم" لم يُلقِ كلمته "بس لو كنت هتكلم كنت هأهدي الجايزة لوالدي ووالدتي" يعتبرها تتويج لسيرة ومسيرة طويلة ومرهقة وممتعة في الوقت نفسه "ناس كتير شككت في فني وموهبتي لكن عمري ما وقعت بسبب الإحباط".
بعد أيام قليلة يُعرض فيلم ليل خارجي تجاريًا "عايز أشوف رأي الجمهور في السينمات وعارفه إنه هيعجبهم" كُل ما يتمناه هو إعجاب الناس بالعمل فقط، فيما لا يخطط لأي شيء قريبًا، مايزال الفِكر منشغلًا بعمله الأخير، وما جرى في مهرجان القاهرة السينمائي " بحد دلوقتي مش عارف اشكر ربنا إزاي على اللي المكافأة دي".
فيديو قد يعجبك: