بعد 4 شهور في "الغربة".. فلسطينية اختارت الوطن على "اللجوء"
كتبت-إشراق أحمد:
أن ترفض الإقامة في مكان يبدو أفضل مما أنت فيه ليس قرارًا يسيرًا. اختارت نيفين أبو هربيد العودة كما يفعل أغلب الفلسطينيين حينما يُفاضلون بين موطنهم والغربة. لفظت حلم الخروج من غزة بعد 4 أشهر من السفر إلى ألمانيا، فضلت حضن بيتها على انتظار الأمل بلقاء أبنائها، وحمل اسم "لاجئ".
أصبح السابع والعشرين من نوفمبر ذكرى. يوم أن وثقت معدة ومقدمة البرامج الفلسطينية مشاعر عودتها لأرض غزة المحاصرة. مر عام ونصف ولم تَعدُل السيدة صاحبة التاسعة والثلاثين ربيعًا عن قرارها.
"الأهل والأحباب هم الوطن وإذا الإنسان أحبابه معه بيشوف الدنيا جنة وإذا بعاد بيشوف الجنة جحيم" هذا ما خلصت إليه نيفين من فترة إقامتها في ألمانيا برفقة أحد أبنائها دون بقية أسرتها.
كان الخروج من غزة حلمًا يؤرق مضجع نيفين لسنوات، خاصة أوقات القصف والعدوان الإسرائيلي. شعور بالألم يعتصر قلب الأم "كنت أحس أني السبب أمام أولادي لأنه بإمكاني الاستقرار في مكان تاني وتجنيبهم الخوف اللي بيعيشوه". رغبت نيفين في الأمان وطمحت لكرامة تنالها وأبنائها.
لدى نيفين صبيان وفتاتان، أكبرهم في الـ17 عامًا وأصغرهم 10 أعوام، فيما تعمل في تليفزيون فلسطين منذ نحو 18 عامًا. رغم الحصار تصف السيدة وضعها الاجتماعي والمادي في غزة بـ"الممتاز"، لهذا حينما اتخذت قرار الرحيل عن ألمانيا، حدثت نفسها متسائلة "يمكن لحدا ظروفه مش مستقرة يكون السفر خيار مناسب لكن في حالتي إذا ما كانت الظروف أفضل ليش أعيش الغربة؟". لم يكن ثمن الاغتراب هينًا ويستحق بالنسبة للسيدة.
بعد محاولات عديدة حصلت نيفين على "فيزا تشينغن" لألمانيا، سعدت السيدة أيما فرحة "تخيلت وقتها أني ملكت الدنيا لأني كنت أعتقد أن الوضع في غزة الأسوأ في العالم". فعلت ابنة المدينة المحاصرة حال جميع الفلسطينيين في غزة؛ رسمت الغربة بالألوان وحذفت اللون الأسود من أي وجود إلى أن ذهبت للواقع بقدميها.
ظنت نيفين أن ممارستها للإعلام طيلة 18 عامًا ودراستها له، وللسياسة ستجعل فرصتها أسهل في الحصول على عمل في محطة فضائية ألمانية. لكن الصدمة وقعت حينما تقدمت إلى وكالة "دويتش فيله"، وهي المؤسسة العالمية الناطقة بالعربية في ألمانيا إلا أنها قوبلت بالرفض.
وجدت نيفين نفسها مضطرة أن تتعامل كأنها "مولود جديد" تتعلم لغة وحرفة لا تتناسب مع شهادتها "حسيت أني مضطرة ألغي نفسي علشان حياة مش هتكون أفضل من حياتي في غزة".
سبق أن طوّعت نيفين حلمها حين حصلت على الماجستير في العلوم السياسية، وطمحت أن تكون يومًا ما سفيرة أو دبلوماسية فلسطينية، فرأت في الإعلام نافذة بديلة تطل منها على ملامح أمنياتها العصية على التحقيق، لكنها لم تستطع أن تكرر الأمر في ألمانيا.
4 أشهر خاضت فيها نيفين وحدها الحياة الجديدة، من تعلم لغة جديدة والتكيف مع التعاملات، واعتياد البعد عن أسرتها حتى تلقاهم، لكنها لم تستطع التأقلم رغم محبتها للبلد الجديد؛ ما إن ترى مكان يسّر نفسها حتى تقول "لو أولادي معي كان استمتعوا فيه". وحينما مرضت طاردتها الهواجس بأن الضر يمسها وهي في غربتها وحيدة.
كانت صورة الأبناء والأهل تجذب نيفين للعودة، فيما عجلت الأحداث من قرارها؛ ذات يوم استيقظت العاملة في تليفزيون فلسطين على خبر تشكيل السلطة الفلسطينية للجان حصر الموظفين، من أجل تسجيل المتواجدين داخل القطاع المحاصر، وتسوية المعاش المبكر للمسافرين.
شعرت نيفين أن الحياة باتت على المحك، المستقبل ضبابي والماضي يوشك على الانهيار "حسيت أني في مغامرة مش محسوبة صح ممكن أضيع عملي واستقراري في سبيل شيء مجهول" تستعيد السيدة أوقات الصراع النفسي العصيبة.
أما لحظة الحسم فأعلنتها نيفين عندما رأت التوزيع النهائي لكشوف اللاجئين التي كانت من بينهم. في منطقة فريدنغن التابعة لولاية بادن فورتمبيرغ –جنوب غرب ألمانيا- حُدد مكان الاستقرار الدائم، وجدتها نيفين "منطقة سيئة ولا يوجد فيها خدمات ولا عرب زي كل المناطق اللي بيفرزوا اللاجئين عليها"، وتأزم الأمر بعدم وضوح مدة الإجراءات التي من شأنها تسهيل لم شمل السيدة وأسرتها، وأبصرت في تجارب المحيطين أن الحلم ليس كما رأت؛ فقررت الرحيل.
في جلسة اختلت فيها نيفين، طرحت على نفسها ثلاثة أسئلة، بعد إجابتها رتبت السيدة حقائبها للعودة "أنا إيه اللي جابرني أعيش هالحياة؟ علشان شو؟ أنا في غزة وضعي ممتاز أنا ليش جاية هنا؟".
رجحت كفة الوطن رغم مرارتها "حسيت الحكاية بهدلة أنا في غنى عنها. أعيش بكرامتي في بلدي أفضل مهما كانت الظروف". اختارت نيفين الحصار ومعاناة انتظار المعبر، وانقطاع الكهرباء لساعات طوال وسقوط الشهداء والجرحى، رأت أن فلسطين تستحق إذا ما وُضعت أمام مغامرة غير مدروسة.
عادت نيفين إلى أرضها، لاقت عتابًا مستمرًا من الأبناء "لليوم بيحملوني الذنب أني سبب وجودهم في غزة". يظن الصغار أن حياتهم في الخارج أفضل، وتعتقد الأم أنهم لو كانوا معها في ألمانيا لضغطوا عليها للبقاء لهذا كان قرار رجوعها أيسر، لأنه من الصعب أن تنقل أسرة حياتها لمكان ثم تتراجع.
لا تأسى نيفين على ما فات، فيما يقدر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أعداد اللاجئين بنحو 8 مليون فلسطينيًا عام 2017. ذاقت السيدة الثلاثينية الغربة فحدثت نفسها أن "خبزنا ألذ وبساطتنا أجمل". لم تطرد ابنة غزة فكرة السفر، لكنه ما عاد حلمًا، بل استمرار تنفس هواء الوطن في حضرة الأحباب أصبح أمنيتها الأبدية.
فيديو قد يعجبك: