الطريق إلى الحرانية.. حلم "رمسيس ويصا" في حفظ النسيج المصري (2)
كتب- محمد مهدي:
تصوير-جلال المسري
بخطوات ثابتة، وابتسامة لا تفارق وجهه، كان الفنان "رمسيس ويصا" يتحرك في أنحاء مركزه بمنطقة الحرانية، يُعدل نظارته وهو يتابع عن كثب انهماك أطفال القرية في صُنع أول أعمالهم من النسيج بعد أشهر قليلة من إعمار المكان في الخمسينيات "كان عنده صبر عليهم، وعارف إنهم محتاجين للوقت وهيطلعوا في النهاية فن" يوفر لهم الخيوط والألوان "ويسيب كل واحد يعافر ويكتشف ممكن يحولها إزاي لسجاد من القطن أو الصوف" يمنحهم الثقة دائمًا وينتظر النتائج بهدوء-كما تحكي ابنته سوزان.
بات المركز هو شاغله الأول، غير أنه لم يتردد كثيرًا على الحرانية "كان عايز يسيب لهم مساحتهم، يحسوا إنهم أحرار ويبدعوا بطريقتهم" يذهب هناك يومين أسبوعيًا، يجلس معهم، يشاهد المنسوجات التي انتهوا منها "النتايج مبهرة، ودايمًا تلاقيه بيشجعهم" دائمًا يملك لغة حوار مريحة وسلسة مع الأهالي ويوجه نصائحه لهم بلطف شديد "دا اللي بيديهم طاقة إنهم يتعمقوا أكتر في شغلهم ويطلعوا فن أحلى" حافظ على اجتماع كُل خميس لتبادل الأراء مع الجميع.
رهان "رمسيس" كان واضحًا من اللحظة الأولى "على مخزون الجمال عند كل واحد فيهم بعيدًا عن التعليم أو الثقافة" بداخل كلا منهم شيء يُمكن أن يظهر في أعمالهم من المنسوجات "عشان كدا سجلوا في السجاد طرق الزراعة وقتها، طريقة الحصاد، الأدوات بتاعتهم" مثل الشادوق والساقية والطنبورة "رسموا عادتهم من مناسبات مختلفة زي الأفراح وغيرها" أضفى ذلك خصوصية على قطعهم الفنية كما أراد ابن "ويصا واصف".
يومًا بعد يوم ذاع صيت المركز، علمت القرية بأكملها بأن هناك من يُعلم الأطفال حرفة مقابل أجور جيدة، ويتعامل معهم برفق فتوافدوا على المكان "ابتدى عدد النساجين يزيد مع الوقت" صار لديه عدد معقول من المنسوجات وداخله شغف بمعرفة أراء الجمهور على التجربة "عمل أول 3 معارض في عام 1956، في المركز الثقافي بالمنيرة وإسكندرية والإسماعيلية" ردود فعل واسعة وبالغة الأهمية جرت في المعارض، إشادة بأعمال بسطاء الحرانية، وإعجاب بالفكرة التي نجح "رمسيس" في تنفيذها، تنفس الصعداء حينما وجد صدى يليق بالحلم.
الحياة لا تخلو من المنغصات، أكثر ما جذب انتباه "رمسيس" إلى الحرانية هو محبة الناس وشعوره بالأمان، لكن ذات يوم انفلت ذلك الشعور من قلبه "عندنا حِلل نحاس كبير بنصبغ فيها، بابا بيسيب البيبان مفتوحة، اكتشفنا في يوم إنها اتسرقت" احمر وجهه من الغضب، اتصل بأحد كبار القرية أبلغه أنه سيترك الحرانية ولن يعود ثانية "قاله قدام اتسرقت يبقى الناس هنا مش عايزاني" غير أن الرجل حاول تهدئته وأخبره أنها حالة سرقة وليست محاولة لإخافته "روح بيتك واستنى تلفوني" بعد ساعات ألقوا القبض على السارق وأُعيدت المسروقات "اتقاله متفكرش تسيب المكان، الناس بتحبك".
اشتهر مركز "رمسيس ويصا" بات محط اهتمام عشاق المنسوجات، كلما ذهب إلى معرض جديد زاد الإقبال عليه، بينما يُفكر في كيفية تطوير مشروعه وتوفير مزيد من سُبل الراحة للنساجين. تقول زوجته-صوفي- "هنا جيه دوري، ننظم لهم حياتهم أكتر، أكلمهم عن الأكل والصحة، نوفرلهم دكتور، نعملهم تموين شهرين" تحول الجميع في المركز بداية من رمسيس إلى أصغر عامل به إلى عائلة كبيرة "نتكلم في مشاكلهم ونحلها، ونتعرف على عاداتهم وتقاليدهم ونحترمها".
توسع الفنان الكبير في الحرانية "بدأ بنص فدان، لحد ما وصل لـ 8 أفدنة" زادت أعداد الغُرف وأيضًا رقعة الأرض الزراعية "استفاد بيها بإنه زرع النباتات اللي بيحتاج لصبغتها" لا يحب الألوان الكيماوية، يُفضل الأصباغ الطبيعية، ولم يعد في حاجة لشرائها من الخارج "كل حاجة يعملها في المكان" كما أن المساحات الواسعة ساعدت النساجون على مزيد من الابداع "بيتمشوا وسط الأرض، بيشوفوا المناظر الطبيعية، وبينعكس دا على شغلهم" كما تروي سوزان.
لم تتوقف عجلة الإنتاج داخل المركز، زادت المعارض داخل محافظات مصر "كنا بنروح مع شغلنا في أي مكان" كما تقول "لُطفية" واحدة من الجيل الأول، انتقلت أعمالهم من مصر إلى خارجها "لفوا دول العالم، أعمالهم بقيت في أكبر المعارض والمتاحف الدولية" التقى النساجون بملوك ورؤساء دول عديدة "عندنا على الأقل 25 لوحة في متحف المتروبوليتان للفنون، والمتحف البريطاني، ومتحف فيكتوريا والبرت بلندن، ومتحفين كباري للنسيج في فرنسا" اسم رمسيس ويصا"وأهالي الحرانية تردد في أكبر المحافل الفنية.
بعد 10 سنوات، فكَر "رمسيس" في أهمية تأمين مستقبل النساجون بالمركز "حب يعملهم تأمينات اجتماعية عشان يضمنلهم معاش لما يكبروا" حينما توجه إلى المسؤولين في الدولة لتنفيذ الأمر "قالوا لازم يكونوا أعضاء في نقابة الفنانين" ذهب إلى النقابة حينذاك "رفضوا لأنهم متخرجوش من كلية فنون جميلة" عطل الروتين الحكومي رغبته، وجعله يشعر بأن الدولة لا تعترف بالفنانين في الحرانية "ناس عندها أعمال في أكبر المتاحف مش معترفين بيهم" يقولها بأسى إكرام نُصحي، مدير المركز الحالي.
الدهشة سيطرت على "رمسيس" لفترة من موقف النقابة تجاه النساجون بالمركز، خاصة أن الدولة بأعلى مستوياتها كانت تستعين به في المناسبات الكبرى وعند التفكير في هدايا قيمة لكبار رجال الدول الأخرى " في محادثات السلام، جيمي كارتر زار مصر، طلبوا من والدي قطعة فنية من أعمال المركز" انطلق بها الفنان الكبير متوجهًا إلى مقر الرئاسة ومنحها إلى "كارتر" في حضور الرئيس الأسبق محمد أنور السادات.
نجاح كبير تحقق خلال عقدين من الزمان في الحرانية، خطوات أكبر للمركز، سُمعة طيبة لدى المعارض الدولية وكُبرى بيوت التصميم في العالم، الأهالي يعملون بطاقة لا تنقطع، لكن "رمسيس" اطمئن أكثر عندما رأى اهتمام أفراد أسرته وانغماسهم في المشروع بداية من زوجته التي رافقته منذ كانت التجربة مجرد فكرة في عقله، أو ابنته سوزان "اللي بدأت جيل تاني في 74" من أبناء الجيل الأول أو أطفال القرية للحفاظ على استمرارية المشروع وتمرير الخبرات بين الجميع.
رحلة مجيدة لـ "رمسيس" في الحرانية، كان لديه آمال كبيرة لها، وأفكار ماتزال في طور التنفيذ، لكن القَدر لم يمنحه الفُرصة، في عام 1974 انطلق إلى الإسكندرية ليترك ابنته "سوزان" لدى عماتها، وعاد إلى بيته استعدادًا للسفر في اليوم التالي إلى باريس "عنده معرض وهيقدم محاضرة مع اليونيسكو" جرى حديث سريع بينه وزوجته، ثم خلد إلى النوم قبل أن يستيقظ في الثانية فجرًا بألم في قَلبه، فزعت رفيقته، استدعت الأطباء، لكن الأزمة القلبية كانت أقوى من الانتظار، مات الفنان الكبير، انكسر قَلب الزوجة، عصف الحزن بابنتيه، غطت سحابة من الحزن الحرانية، خرج الجميع خلفه "مبطلناش عياط عليه طول الطريق" كما تتذكر لُطفية، التيه امتلك المركز بقبضة ثقيلة، قبل أن تستجمع الأسرة زمامها، جمعوا النساجون، طالبوهم باستمرار العمل وفاء لرغبة صاحب المكان "كان فيه شبه اتفاق إنه لا يمكن التفريط في حلم رمسيس ويصا".
تابع باقي موضوعات الملف:
حلم "رمسيس ويصا" بالحرانية.. 66 عاما من الحُب والفن (ملف خاص)
الطريق إلى الحرانية.. حلم "رمسيس ويصا" في حفظ النسيج المصري (1)
كيف تحول أهل الحرانية إلى فنانين عالميين؟.. زوجة "رمسيس ويصا" تروي (حوار)
من الغيط إلى العالمية.. 50 عامًا لـ"ست لُطفية" في عالم النسيج
بالنول والخيوط.. "نجلاء" تُكمل مسيرة الأم في مركز الحرانية للنسيج
مدير مركز "رمسيس ويصا ": حافظنا على التجربة وتلك خططنا المستقبلية (حوار)
فيديو قد يعجبك: