لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"الشكك ممنوع".. لماذا غَيّر أصحاب محلات عاداتهم في البيع؟

06:51 م السبت 08 ديسمبر 2018

كتب - محمد زكريا:
تصوير - أحمد طرانة:

بداخل محل بحي المطرية في القاهرة، يتراص على جانبيه منتجات وأغذية مصنعة، كان محمود عبد الله يناول واحد من زبائنه علبة من الجبن، بينما يسأله عن خمسة جنيهات في المقابل، ليطلب منه الجار إرجاء الأموال إلى اليوم التالي، فيهز البائع رأسه بالرفض، قبل أن يلفت نظره إلى لافتة علقها على الباب، ونصها: "الشكك ممنوع لأي حد بلاش تحرج نفسك".

في العام 2011، قدم عبدالله من صعيد مصر، استقر في القاهرة، واستأجر محل يكسب منه الرزق، وفيه ينام ليلًا. منذ البداية، أراد الشاب توطيد علاقته بأهل الحي الشعبي، لذا سمح بالبيع "شكك"، بمعنى أن يشتري الجار ما يحتاجه من منتجات والسداد وقتما تسمح ظروفه بذلك، واستمر على هذا لسنوات، إلى أن واجهته مشكلات كبيرة.

"الزبون يشكك عادي، لكن تطالبه باللي عليه يضايق".. لذا أعاد صاحب "سوبر ماركت أولاد أبو الحاج" النظر في ميزته تلك، ليقتصر بيع "الشكك" على أشخاص معدودين ولشهور قصيرة، قبل أن يُلغيها تمامًا، بعد عجزه عن تحصيل ما يزيد عن ثلاثة آلاف جنيه من مستحقاته نهاية 2016، العام الذي فقد الجنيه حوالي 48 % من قيمته بحسب إحصاءات رسمية، بعد قرار حكومي بتحرير سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية (التعويم) في نوفمبر.

من وقتها وأسعار منتجات عبدالله تتضاعف، قَلّ الطلب عليها لحوالي النصف، وضعف مكسبه بنفس النسبة تقريبًا، فبات البيع بالآجل رفاهية لا يقدر عليها، كأنه إن فعل يقتطع من رأس المال، يشرح هو ذلك: "لما أشكك في منتج مكسبي فيه حوالي 10%، وتقعد فلوسه عند الزبون 5 أيام و10 أيام وشهر، يبقى بخسر"، بتعبيره صار "السلف تلف والرد خسارة"، لذا لم يُغير تزايد الطلب على "الشكك" في الشهور الأخيرة من نظرة الشاب الجديدة، صار شعاره الآن: "اللي يصعب عليك يفقرك".

لكن إحساس محمود حسين بمعاناة جيرانه، أهل منطقة عزبة النخل بالقاهرة، كان سببًا لأن يبيع منتجاته قبل سنوات "شكك". قبل أن يمتنع عن هذا تمامًا في الوقت الحالي. وللقرار في نظره ما يُبرره.

في عام 2009، سمح حسين بالبيع الآجل لجيرانه، وكانت زبائنه في وقتها بالعشرات، منهم محامي يدفع ثمن منتجاته بنهاية الأسبوع، ورجل على المعاش يُحاسب آخر كل شهر، قبل أن يتخلف شاب عن دفع مستحقاته، اختفى الشاري دون أن يُسدد مبلغ 600 جنيه، ما أضطر البائع إلى السؤال عن بيته والذهاب إليه، ليكتشف مغادرته الحي إلى مكان لا يعلمه الجيران، في هذا الوقت دار القرار بعقل حسين، وبعد سلسلة من مواقف مشابهة بات "الشكك ممنوع" في محله الآن.

لا يُعلق حسين على محله لافتة بقراره، لكن يُطبقه بحزم شديد، ومبرره أن "اللي جاي على أد اللي رايح"، إلى جانب اعتقاده بمحاصرة ضغوط المعيشة لزبائنه "يجي الزبون يقبض، يلاقي المرتب طار، فيأجل حسابي أنا"، لذا يتغلب على شعوره بالتعاطف مع طالبي "الشكك"، يعتذر لهم في بعض الأحيان، لكن لا يُخالف عهده في كل الأحوال، خاصة أنه يتصور أن سلوك زبائنه لم يعد كما كان في السابق.

تتفق سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، مع اعتقاد حسين، وتقول إن السبب في تغير سلوك الإنسان المصري هو التغير الذي مسّ ثقافته، فصار معتبرًا الغدر واللؤم طباع تميزه، وهذا في رأيها نتيجة شحنه على مدار عقود بالسلبيات دونًا عن الإيجابيات، وسوء مستوى التعليم، وابتعاده عن الفكر والفن والأدب، مترحمة على زمن الدراما التي زرعت قيم مجتمعية باتت غير موجودة الآن، لذا ترى الحل في إعادة تربية سلوك المجتمع.

وتستبعد أستاذ علم الاجتماع أن تكون سلوكيات كالتنصل من الوفاء بالدين أو الاستغلال الذي ينتهجه عددًا من البائعين سببه ارتفاع الأسعار في السنوات الأخيرة أو حتى عجز المواطن عن مجاراة ما تتطلب المعيشة، ودليلها كان بالرجوع إلى 1967، عام النكسة، الذي طُلِب فيه المصريين بـ"شد الحزام"، واستقبال مهاجري مدن القناة، دون أن تنتشر سلوكيات كـ"السرقة ومد الأيد".

قبل عام واحد، فوجئ حسين بزبونه القديم، يقف أمام محله، يسأله عما يدان به، ليطلب منه البائع جواب عن سبب غيابه الطويل، ويرد الزبون بمرض ابنته الشديد، وضيق يده في حينها، ما دفعه السفر إلى الخارج، دون أن يتناسى ما عليه من ديون، عزم الشاري على ردها حيثما تسمح ظروفه بذلك، هكذا أخبره، ليستلم صاحب الـمحل مستحقاته، ويشكر زبونه على أمانته، فيما لم ينس إخباره بامتناعه عن بيع "الشكك" منذ بعيد.

نفس الأسلوب انتهجه محمد سالم. رجل خمسيني، يجلس أمام جزارته، الموجودة بحي الزيتون في القاهرة، مرتديًا عباءة، ويُنفث دخان الشيشة، ووراءه صبي صغير يقطع اللحمة على مائدة خشبية ضخمة، لكنه يرفض تعليق لافتة "الشكك ممنوع"، ليس لأنه يسمح ببيع الآجل، لكن لأنها تذكره بجزاري الثمانينات والتسعينات، صورة كان عليها أبيه، قبل حوالي 40 عامًا، أما هو فابن زمان "الزبون يا يشتري يا ميشتريش.. أنسى زبون النص نص ده" قالها سالم بصوت أجش، أتبعه بضحكة متهكمة.

وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن نسبة الأسر التي تعيش تحت خط الفقر تبلغ 27.8% من إجمالي عدد سكان مصر في عام 2015. فيما توقع تقرير لبنك كريدي سويس المتخصص في تقدير الثروات في ديسمبر 2016، أن تتقلص الطبقة المتوسطة نتيجة زيادات الأسعار المتوالية.

لم يتوقف الأمر عند حدود محال البقالة فحسب؛ فداخل صيدلية بحي المطرية في القاهرة، كانت لافتة تنزوي على يمين كل سائل عن دواء، ورقة مطبوع عليها ما معناه أن "الشكك ممنوع".

اتخذ محمد جمال، صاحب الصيدلية، قراره هذا بعد أن هرول إليه رجل يحمل طفل صغير، ليسأله عن عبوتين من لبن الأطفال، واعدًا إياه برد المبلغ وقتما تسمح ظروفه بذلك، لكن الشاري لم يفي بوعده ولم يراه الصيدلي مرة أخرى، لذا قرر الامتناع عن بيع الآجل، حتى لأكثر زبائنه وأقرب جيرانه، خاصة أن طلبات "الشكك" زادت في السنة الأخيرة، بعد سلسلة قرارات رسمية رفعت من ثمن الدواء، بما يفوق مقدرة ناس من الحي الذي يعمل جمال وسطه، بحسب قوله، مما عرضه لأكثر المواقف حرجًا، فلم يعد الآن يمانع التنازل عن "الجنيه وحتى الخمسة جنيه"، حتى لا يفقد جيرة الوسط الشعبي، لكن أيضًا لا ينوي التغافل عن مستحقاته.

نفس الصعوبات، والتي ربما يتعرض لها أحمد فوزي، تمنعه عن تعليق لافتة تمنع "الشكك"، لكنه يطبق فحواها على زبائنه بحي منشية ناصر في القاهرة، وضع الشاب خطة تمكنه الإفلات من فك القانون الشعبي، والذي يقضي بمساعدة الجار تحت أي ظرف ومهما كانت العوائق، حتى وإن كان العائق هو أن يتحمل صاحب المحل مزيدًا من الخسائر، التي شهدها محله أصلًا مع الموجة الأخيرة لارتفاع الأسعار، كما يقول.

يعرف فوزي تلك المنتجات التي يزيد طلب "الشكك عليها"، لذا يلجأ إلى إخفائها في ركن قصي بالمحل، فإذا حضر واحد من طالبي شراء الآجل ممن يُعرف عنهم عدم السداد، يُخبره بعدم حوزته للمنتج الذي يحتاجه، مما يُجنبه أي حرج أو يسبب له خسارة جديدة.

وسط النهار، داخل سوق بحي الزيتون شرق القاهرة، كانت حركة الزبائن خفيفة، ولا تعلو أي لافتة مكتوب عليها: "الشكك ممنوع"، لكن محمد بكري يوضح أن بيع الآجل ليس أمرًا مطروحًا في الأسواق، فلا لافتة تسمح به ولا أخرى تمنعه، لكنه كان يسمح ببيع الآجل لزبائنه الدائمين قبل سنوات، قبل أن يضطر إلى التوقف عن ذلك، بعد أن تناسى زبونًا عن دفع 250 جنيه، فما كان من البائع الخمسيني إلا أن تحمل الخسارة، لكن صار بعدها يعتذر لأي زبون يطلب منه الأمر نفسه.

لم يعد بكري يشتري الخضروات بكميات كبيرة، بات يتحصل في المتوسط على 10 كيلوجرامات من الصنف الواحد، قلت مبيعاته في السنوات الأخيرة، ولم يعد ما يكسبه يكفي متطلباته وأسرته، فلدى بائع الخضروات ولدين، واحد في الثانوية العامة والكبير يدرس في الجامعة، ومصروفاته يوميًا لا تقل عن 40 جنيهًا، 14 منهم محجوزة لمترو الأنفاق، ودروس الأصغر تكلفه شهريًا مئات الجنيهات، لذا يقول ساخرًا: "شكك إيه بقى؟.. ده أنا عايز اللي يشككلي".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان