4 أيام من يناير.. كتاب يجمع "أهل الثورة" على الورق
كتب-دعاء الفولي وإشراق أحمد:
تصوير-أحمد جمعة:
صورة الغلاف-فريد قطب:
كل حرف مهم. كلمة تُرافق أخرى فتخرج الحكاية. ليست لامعة كأفلام السينما، لكنها حقيقية؛ لحمٌ ودماء وهتاف ورصاص وقنابل مسيلة للدموع. حيّة كدعاء الأمهات للمتظاهرين. قويّة كسقوط أول شهيد في السويس. وراسخة كهتاف "عيش حرية عدالة اجتماعية". ثورة يناير ليست سوى تفاصيل صغيرة تنسج صورة أكبر. قصاصات ستعيش طالما رُويت، بالضبط مثلما فعل كتاب "4 أيام من يناير" الصادر عن دار المحروسة، منذ عدة أسابيع.
مازال الصحفي محمد العريان يذكر شرارة الكتاب؛ عام 2012 حاصرته ذكريات الثورة، دُهش بالتفاصيل التي رواها أصدقاؤه، علق الأمر في ذهنه "كنت عايز نعمل مشروع نوثق فيه الحكايات.. مش حكايات الثورة، لكن حكايات كل واحد فينا معاها".
عام بعد آخر اضطر الصحفي لتأجيل المشروع "الناس صابها الإحباط ومكنتش عارف لأي درجة هتطلع الحكايات معبرة عن الثورة والتنوع اللي فيها"، ومع بداية 2017 حسم قراره "كتبت على فيسبوك ودعيت صحابي إنهم يكتبوا ويقولوا لأصحابهم".
حين استقبل العريان الحكايات؛ ذاب قلبه، تنقّل عقله بين الدهشة، اللهفة، الحماس، خانته عيناه بالبكاء، بينما ظل منتشي بالكنز الذي وقع تحت يديه.
"من حق المكتبة العربية والمصرية يكون فيها كتاب موثق من ناس حقيقيين عن الثورة" لهذا السبب اندفع رامي صيام مستجيبًا لدعوة العريان إلى المشاركة بقصته مع 25 يناير، قبل أن يتحول إلى شريك في تحرير التجربة ككل، والتي يصفها بأنها "إنسانية في المقام الأول".
لثلاثة أيام استعاد صيام أيامه مع الثورة، وكتب القصة بعنوان "هاؤم أقرأوا كتابيه". لم يعبأ بحدود 1200 كلمة المتفق عليها "حكيت عن نفسي أكتر ما حكيت عن الثورة، لأن الثورة بالنسبة لي هي البني آدمين، مش قطر عدى وأحنا واقفين في المحطة".
أخذ المحاسب يمارس هوايته في تدوين التفاصيل، يُضيء نقطة تحوله من سنوات لازم فيها أهل التحرير، وأول تظاهرة شارك فيها عام 2005 في منطقة شبرا، ثم السفر والعمل بالخارج، والعودة للوطن مرة ثانية عام 2009، ليستقبل الثورة بعد قرابة عامين، في المكان ذاته؛ فحين سأله أصدقائه عن وجهة انطلاق مشاركتهم في المظاهرات، دون تردد أخبرهم "شبرا"، وأما مبرره "لأن شبرا مكان يحسن استقبال المتظاهرين".
كتب صاحب الأربعة والأربعين ربيعًا قصته، قبل أن يعيش لعام كامل مع حكايات مختلفة لرفاق للثورة أثناء تحرير الكتاب رفقة العريان "كنت بلتحم مع المكتوب. ممكن أبكي وأضحك. أتوحد مع الشخصية، أتصور ممكن الشخص يكون عامل ازاي". كان ذلك أصعب ما في التجربة، إذ يتطلب منه التغلب على مشاعره حتى لا يجامل شخصًا أو يقسو على قصته.
قُسّمت حكايات الكتاب من داخل الميدان للخارج "غرب وجنوب وشمال وشرق الميدان ثم جت حكايات المحافظات ثم الناس الي كانوا برة مصر وقت الثورة" حسبما يقول العريان، فيما اقتصرت الحكايات على الأربع أيام الأولى "عشان حجم الكتاب ميبقاش ضخم".
لم تكن ثمة شروط للمشاركة في التجربة "الحاجة الوحيدة إني أبقى عارف الشخص أو من دايرة معارفي عشان أتأكد إنه الحكاية حقيقية"، فيما عدا ذلك ترك العريان الحرية للمشاركين، بعضهم لم يكن هائمًا في حب الثورة "ده كان مقصود.. إنه ميبقاش الكتاب كله واخد وجهة نظر واحدة، حتى أنا بحثت عن ظابط يكتب شهادته بس ملقيتش".
58 قصة جمعها "4 أيام من يناير"، بين سرد أدبي محكم، ولهجة عامية بسيطة. ضمت الروايات كثيرين انتظروا الثورة، وآخرين لم تمر بخاطرهم، حال محمد حسين، أصغر الكتاب عمرًا. كان في الصف الثاني الثانوي. "يوم التلات ميعاد درس التاريخ" كذلك يحفظ ابن منطقة المطرية ميقات الـخامس والعشرين من يناير.
التحق حسين بالجامعة، بلغ السنة النهائية في كلية حاسبات ومعلومات المنصورة، لكنه يُبقي على جميل الذكرى لمعرفته بالهتاف، التظاهرات، الغاز المسيل للدموع، اللجان الشعبية، وحتى بالجديد عن أسرته "والدتي كانت تقول لي أنزل هم اللي في الشارع أرجل منك" يحكي حسين، الذي لم تكن التفاصيل عصية عليه، فسردها كأنها وقعت بالأمس القريب.
لم يكن يدرك الشاب معنى كلمة تغيير وثورة، لكنه شارك مدفوعًا بحماس أسرته "وأنا راجع بعد ما الدرس اتلغي لقيت أمي في ميدان المطرية بتهتف" يتذكر مبتسمًا. لكن بعد 28 يناير ذاق جدوى المشاركة "اتنين من جيراني ماتوا في جمعة الغضب. واحد منهم 14 سنة إبراهيم كنا صحاب. أخد 3رصاصات في صدره".
عرف حسين معنى جديدًا للدم، باتت أمنية الاستشهاد تراوده "يمكن لو كان عدد اللي ماتوا أكتر كنا غيرنا أكتر بدل ما هو مفيش حاجة اختلفت واللي عملناه زي ما يكون مالوش لازمة".
كانت الإحباطات قريبة من العريان طوال أشهر العمل على الكتاب "جزء منها إحباطات عامة في البلد وبعضها مرتبط بارتفاع أسعار الورق اللي خلت نسخة الكتاب بـ80 جنيه"، في المقابل انفرطت كلمات الحكايات من بعض المشاركين "كان مفروض متوسط القصة ألف كلمة لكن مقدرناش نتحكم في العدد وده قلل عدد القصص".
لكن الأمر لم يكن كله مُرهقًا لصاحب الفكرة؛ ثمة لحظات سعادة؛ يذكر العريان حين أعطى المسودة لصديق ليريها بدوره للأديب صنع الله إبراهيم "مكنش في حد في بالي ممكن يعمل لنا مقدمة تشبه الكتاب زي صنع الله إبراهيم"، لم يستغرق الكاتب سوى يومين ليأتي رده سريعا "قال إن الكتاب عظيم وده كان أول رد فعل بسطني من التجربة وحسسني إنها كويسة".
قرابة نصف ساعة استغرقها الصحفي أشرف جهاد في كتابة قصته التي شارك بها في "4 أيام من يناير"، غير أن استدعاء تفاصيلها لم يكن يسيرًا. كأنها ولادة للمرة الثانية، تألمت ذاكرة ابن محافظة الشرقية لسرد ما حدث، ولم يعنه سوى الرجوع لمقالات سبق له تدوين بعض المشاهد بها.
كتب جهاد عن الثورة كما استشعر حينها، ذاب مع كلمات الشاب الذي اعتقل معه يوم 28 يناير، حينما سأله الضابط عن سبب مشاركته في التظاهرات "قاله أبويا متوفي وعندي خمسة أخوات بنات وأنا بقيت متجوز أمي، أنا صنايعي بقبض 30 جنيه في اليوم، فأنا نازل عشان سندوتش الفول يبقى بنص جنيه عشان أكل سندوتشين".
يتذكر الصحفي كيف تبدل أفراد الأمن وكذلك المحتجزين داخل سيارة الترحيلات "واحد من الأمن قاله همشيك وهديك 30 جنيه"، غير أن الشاب واصل قذف رده السريع "المشكلة مش النهاردة ولا بكرة ولا بعده ولا بعده".
لم يتخلص الصحفي من إحساس أنه يدون قصة "عبثية" حسب وصفه "كأننا شلنا حجارة وطلعنا الجبل ونزلنا بيها وحاطيناها مكانها تاني"، فالثورة بالنسبة له اقتسمت لحظاتها ما بين النصر والهزيمة، حتى في زمرة أحداثها.
يستعيد جهاد مشهد يعتبره "الأقسى إيلامًا"، إذ رأى أحدهم يحطم "كشك" ليأخذ الناس ما فيه "حسيت وقتها أن دي ثورة حرام"، كان الصحفي مستوعبًا لأخذ شيئًا من قسم شرطة أو الحزب الوطني باعتبارهم رموز للسلطة "لكن أننا نسرق من بعض.. فقير يسرق من فقير مكنتش فاهمها".
رغم صدور الكتاب بعد سبع سنوات من الثورة، غير أن جهاد يرى في ذلك نفعًا لـحالة "تشويه" الحدث كما يقول، ففي نظره ليس هناك أفضل من نشر شهادات مَن عايشوا الأمر بما فيه من جيد وسيء، كما أن النظر لـ25 يناير بعد تلك الفترة صار مختلفًا بالنسبة له "كان في تبدلات جبارة وده خلاني أحس أننا عملنا الثورة مش في وقتها.. لا الشعب عنده قدرة إنه ياخد قرار ولا اللي ثاروا عندهم قدرة أنهم يخاطبوا الشعب، أحنا كنا بنتعالى ولسه بنتعالى في وجهة نظري، فلازم ندفع التمن".
في 364 صفحة جاء الكتاب، شغلت أميرة سليمان منها أربعة صفحات لكتابة قصتها. دائما ما كانت الثورة حاضرة في أحاديث السيدة التي تعيش في سويسرا، حتى جاء اقتراح العريان "أكتر حاجة بسطتني إن الكتاب مفهوش نظرة بانورامية.. هي حكايات من ناس مختلفين عشان كدة الصورة طالعة أوسع".
حضرت السيدة 17 يومًا من يناير في جنيف عاصمة سويسرا، خرجت هناك في مسيرات عديدة، شعرت بالزهو، ثم جرفها الحماس فعادت لمصر يوم الحادي عشر من فبراير.
"لما كتبت استعدت المشاعر المختلطة اللي مريت بيها".. السعادة الغامرة مع انطلاق مظاهرات يناير، الترقب، الخوف، ثم الإحباط "الموضوع كأن فكرة جميلة جت على بالي وانا بحكي حكايتي"، لم تتذكر أم الطفلتين المشاعر فقط، بل المشاهد أيضا.
"الجالية المصرية كانت بتعمل مسيرات لدعم المتظاهرين"، الاحتجاج في جنيف يسير "من غير تصريح، في أماكن مخصصة لده". ظلت الجالية تدعم الشعب "بس لما حصلت موقعة الجمل عرفنا إنه مينفعش نكتفي بالوقفات".
شاركت أميرة للمرة الأولى في تنظيم مظاهرة ضخمة بالعاصمة "احتاجنا تصاريح عشان نتحرك بين اكتر من ميدان"، حتى أن محطات الإذاعة أعلنت عن غلق بعض الشوارع أمام حركة المواصلات "هتفنا وغنينا ودخل معانا سويسريين وأفارقة وتوانسة".
تلك اللحظات هي الأسعد في حياة أميرة. والآن حينما تطالع نسخة الكتاب "ببقى سعيدة.. الثورة في قلب كل واحد فينا، مش ذكرى وحشة عشان تضايقني"، لكنها رغم ذلك تفتقد ترابط الجالية المصرية، الذي حل مكانه التفكك وعودة كل شخص لقوقعته الخاصة.
كان عام 2017 ثريًا. أنجز فيه العريان خطوة يراها مهمة لتوثيق الثورة، يلقى الصحفي ردودًا جيدة على التجربة "ناس بتقول لنا إنه ياريت يكون فيه جزء تاني"، يسعد لما يسمعه، لا يمل أبدًا من تفاصيل الثورة بلسان من عايشوها، يوقن أنهم الرواة الحقيقيين، يبتسم ثغره إذ يسترجع حكايات جده الذي شارك في حرب 73، وكيف كانت تترك لمعة في أعين العائلة، يعرف أن "4 أيام من يناير" ليس كتابًا للتاريخ، لكنه حيوات متفاوتة تقاطعت في 18 يومًا، يسردها أشخاص ربما لم ولن يلتقوا يومًا إلا بين ثنايا الورق.
فيديو قد يعجبك: