بسمة عبد العزيز: "هنا بدن" أصابتني بالاكتئاب.. والمثقف الحقيقي لا يمرر القمع الفكري (حوار)
حوار- دعاء الفولي وإشراق أحمد:
تكتب لأنها تُقاوم بالكلمات. تواجه كل ما يسلب الإنسان حرية الاختيار. تكتب لأن ذلك يفتح لها مساحة للحديث عن قهر السلطة بمختلف أشكاله. لا تضع الجوائز نُصب عينيها، ورغم ذلك حصدت عددا لا بأس به؛ جائزة ساويرس للآداب، اختارتها مجلة فورين بوليسي ضمن 100 شخصية قائدة للفكر عام 2016، وكرّمها مجمع اللغة العربية.
بين الطب النفسي، الكتابة، والفن التشكيلي تحيا بسمة عبد العزيز. تكتب القصة القصيرة، الدراسات العلمية، الكتب والروايات. تشغلها علاقة الفرد بالسلطة أيا كانت، ولم يحد عملها الأخير عن الدرب. صدرت روايتها الثانية "هنا بدن" وظهرت طبعتها الأولى في معرض الكتاب.
مصراوي التقى الكاتبة ودكتورة الطب النفسي، للحديث عن موضوع روايتها "هنا بدن"، لماذا اختارت أطفال الشوارع بطلا لها؟ وما التحدي المختلف في عملها هذا عن روايتها الأولى "الطابور"؟ توضح الخطوة القادمة لترجمة الرواية لغير العربية، وتعلق على موقف المثقف من السلطة، ولماذا أضافت فصلا جديدًا لكتابها إغراء السلطة المطلقة في الطبعة الرابعة له.
- جاءت فكرة رواية الطابور بعد رؤيتك صفًا طويلًا من المواطنين أمام بوابة في وسط البلد.. فما الذي ألهمك لكتابة "هنا بدن"؟
"مفيش حدث بعينه، هي مجموعة من الأحداث وبعض المشاهدات أثّرت فيّ"، منها أطفال الشوارع الذين يتم تطويعهم لخدمة أهداف معينة، أو إخلاء بعض الأماكن من أشكال احتجاجية. وبشكل عام ثمة فرق بين الروايتين، فالطابور بها قدر عالٍ من الرمزية، عكس الأخيرة التي تتصف أكثر بالواقعية.
- تدور أعمالك حول علاقة الفرد بالسلطة، سواء السياسية أو الدينية.. لأي مدى تتعمدين ذلك؟
لا شك أن أي كاتب يتأثر بما حوله، وأنا لست استثناءً، فما أمر به أطرحه على الورق، أحيانًا بشكل غير واعِ في الأعمال الأدبية؛ إذ لا أتعمد مثلًا الكتابة عن أحداث الثورة وإلا سأكتب تاريخًا ولا أدبًا. ويمكن القول إن تلك العلاقة هي مشروعي الكتابي.
-إذًا هل ذلك المشروع قد ينتهي بعد فترة معينة لتخوضي آخر؟
لا يمكن تأكيد أو نفي ذلك. "أنا مش من الناس اللي بتضع خطة كتابية وتلتصق بيها بشكل تام". أكتب حسب ميولي واهتماماتي وما أعايشه. أحيانًا الالتزام بفكرة معينة أيضا يُحجّم الخيال والأفق. من الممكن أن أبدأ في مشروع آخر الفترة القادمة أو لا أبدأ. هذا منوط بما أود الكتابة عنه
- صدرت "الطابور" يناير 2013 ورغم ذلك تُعاد قراءتها حتى الآن.. هل توقعتِ ذلك؟
لا، "بالعكس أنا بتخض إنها لحد دلوقتي مسمّعة عند الناس"، ولكن حينما فكّرت في الأمر وجدت أنه مرتبط بعدة أشياء؛ أولًا خيال الرواية ينطبق على أحداث عديدة "أنا مبحبش أحدد زمن ولا مكان، وبالتالي كل شخص بيقرأ بيسقطها على فترة مختلفة"، فحين صدور الرواية كان الإخوان المسلمون يحكمون مصر، ثم تبدلت الأحوال بعد ذلك "ورغم كده الناس لسة بتشتريها".
- تم ترجمة "الطابور" لأربع لغات.. إلى أي مدى أثرت الترجمة في روايتك الأولى؟
أعتقد أن تلقّي الناس لها بأشكال مختلفة هو ما أثراها فعلاً؛ فبالإضافة لتوزيعها في كندا، بريطانيا، أمريكا ودول أخرى، فالقراء الأجانب حللوا العمل بشكل مغاير عن مصر "شافوا إنه معبر عن الانتظار بلا نهاية ووصل لهم إزاي السلطة القمعية قادرة على تحويل البشر لنسخ متشابهة وتنميط الأشخاص والجماهير وربطهم بأمل زائف، كل واحد استقبلها وفقا لمعطياته".
- هناك أربع سنوات بين صدور روايتك الأولى والثانية.. لماذا؟
لم أتعمد ذلك. ففي تلك الفترة أنتجت كتاب "ذاكرة القهر"، "سطوة النص"، وشاركت في كتاب لتحليل الخطاب بعنوان "بلغت جمهوري". أما الروايات فتنساب كلماتها حين تأتيني الفكرة، وقد يكون عملي القادم روائيًا أو لا يكون. حسب الموضوع.
- كم استغرقت في كتابة "هنا بدن" لتخرج في شكلها النهائي؟
8 أشهر من العمل لمدة 12 ساعة يومياً.
-وما التحدي الذي واجهك في "هنا بدن"؟
تحديات عديدة. الرواية تتحدث عن عالمين يبدوان متنافرين تمامًا، فأردت القول إنهما ليسا بعيدين لتلك الدرجة، وأن ثمة تقارب بينهما، ربما في القهر الذي يتعرض له الأبطال.
أما الصعوبة الأخرى، فهي اختياري لطريقتين مختلفتين في السرد، ففي أحد العالمين اخترت الراوي لكل شيء بمنطق العلم المطلق، وفي الثاني فضّلت ترك الشخصيات تتحدث عن نفسها، ولم يكن ذلك سهلاً، خاصة أنهم أطفال شوارع، لهم أحاديثهم "وأنا مكنتش اتعاملت مع أطفال كتير فمصطلحاتهم مش معروفة بالنسبة لي"، ومن ذلك المنطلق مررت بالتحدي الثالث المتمثل في اللغة العربية، حيث أصررت على عدم وجود جُمل عاميّة في الرواية على لسان الأبطال "أنا مقتنعة إن الأطفال يقدروا يقولوا اللي أنا عايزة أقوله بس بلغتهم وبالتالي أنا زودتهم باللغة العربية".
- لأي مدى كان الانتقال من عالم لآخر صعباً؟
لم يكن بتلك الصعوبة، ففي بداية العمل أخذت قرارًا بتقنية الكتابة "وبعدين لما جه وقت التنفيذ كنت مستمتعة".
- لماذا اخترتِ أطفال الشوارع ليكونوا أبطال "هنا بدن"؟
كان ذلك أحد التحديات أيضًا؛ البعض يتعامل مع أطفال الشوارع كأنهم "أشياء" يجب التخلص منها "في حين أنهم ليهم أفكارهم وأحلامهم وخبراتهم"، وبالتالي كان الهدف أن يراهم الناس شخصيات لها حق اتخاذ القرارات، حتى تجاه سلطة تقهرهم أو تهددهم.
- بما أن الرواية أقرب للواقعية.. هل قابلت أيًا من الشخصيات التي كتبتِ عنها؟
بالطبع. قابلت بعضهم بشكل شخصي، وسمعت عن آخرين ممن يعرفونهم.
- ما الذي تعطيك إياه كتابة الرواية دون الكتب والأبحاث؟
الخيال، المرونة، تُعوضني عن الالتزام التام بالمصادر البحثية وموضوع الكتاب أو الرسالة. تمنحني الانطلاق.
- ما الانتقادات التي وُجهت لكِ في رواية الطابور، وهل حاولت تفاديها في "هنا بدن"؟
"لأ محاولتش".. بالطبع وُجّهت لي انتقادات في الطابور، ولكنها كانت نسبية بين شخص وآخر. فالبعض قال إن الشخصيات مُسطّحة ولغة الرواية تقريرية، بينما ذلك الانتقاد رآه آخرون عنصر قوّة، لأن الطابور في الرواية هدفه تسطيح الشخصيات وجعلهم بلا ألوان، مجرد نسخ صماء متشابهة، وفي الحقيقة تعمدت ذلك مع الشخصيات لتؤدي الغرض من الرواية، وكذلك اللغة التقريرية لتعبر عن ذلك.
-في كتاب إغراء السلطة المطلقة أضفت أجزاءً جديدة بعد ثورة 25 يناير.. ما سبب هذا القرار؟
صدرت 4 طبعات من الكتاب، وأضفت فصلاً كاملاً في الطبعة الأخيرة، وذلك للتغير النوعي الذي حدث للشرطة منذ 28 يناير. الانسحاب من الشوارع والانكسار الحقيقي، ثم الانكسار الذي لم يعقبه تطهير أو هيكلة، بعد ذلك العودة للحس الانتقامي. كلها أشياء لزم رصدها حتى يكون الكتاب متكاملاً، فلا يجوز أن تصدر ثلاث طبعات وتنفد من مكتبة الأسرة، ثم تصدر طبعة جديدة عقب كل ما حدث بعد 25 يناير دون رصد ذلك وإلا كان الخيار عدم الطبع مرة أخرى.
-ومتى يمكنك كتابة جزء ثانٍ من الكتاب؟
إذا حدث تغير نوعي في أداء الشرطة مرة أخرى، أو تحولنا من شرطة في خدمة السلطة إلى شرطة تحمي المجتمع والشعب فعليًا أو تنظم الحياة. وقتها يمكن التفكير بالأمر.
- خرجت روايتك الأخيرة في معرض الكتاب.. إلى أي مدى يشكل ذلك فارقًا بالنسبة لك؟
أرى أن معرض الكتاب يكون به عدد كبير من الكتب "وهيصة وربكة"، وإذا لم توجد عوامل سياسية ومعطيات مختلفة "مش هفضل أنزل في معرض الكتاب".
- حصدتِ العديد من الجوائز الأدبية.. هل تخططين للأمر بأي شكل من الأشكال؟
لا أفعل ذلك نهائياً، بل غالبًا ما يأتي محض صدفة. على سبيل المثال كتاب إغراء السلطة المطلقة، لم أعلم بأمر جائزة أحمد بهاء الدين إلا قبل ثلاثة أيام من انتهاء موعد التقديم. لم تكن هناك دراسة في الأساس، المطلوب كان إرسال خطة بحث، وفي الحقيقة كان يشغلني موضوع تتبع أداء الشرطة، فكتبت خطة البحث وتقدمت بها.
- آخر الجوائز كانت من المجمع اللغوي.. كيف استقبلتِ ذلك التكريم المختلف عن غيره؟
العلاقة بالمجمع من فترة طويلة، أحضر ندوات فيه، خاصة في اللقاء السنوي ليوم اللغة العربية، كما أن الشيخ حسن الشافعي –رئيس المجمع- ممن استعنت بشهاداتهم في كتاب سطوة النص، فلست غريبة عن المكان، لكن فكرة التكريم مفاجأة بالنسبة لي وشيء مشرف، وأظن أنني أقل من أن يكرمني مجمع اللغة العربية.
ورغم أن تفكير المجمع في مسألة التكريم شيء عظيم، لكنه محزن في الوقت ذاته، لأننا أصبحنا نكرم مَن يكتب بلغة عربية سليمة وهو شيء طبيعي، بينما أكرم "لما مثلا أعمل فتح لغوي".
-ذكرتِ استعانتك بالشيخ حسن الشافعي في كتاب سطوة النص.. حدثينا عن ذلك؟
استعنت بشهادته عن الفترة التي كان فيها كبير مستشاري شيخ الأزهر. أمدني بكل المعلومات الناقصة، وحين شعرت بالخوف من أن يتم التنكيل به أكثر، أرسلت له ما كتبت على لسانه وأخبرته أن يقوم بحذف ما يريد، بعدها اتصل بي مكتبه يخبرني أن الشيخ حسن ترك مجموعة ورق. توقعت حينها أن أجد فقرات أو سطورًا مشطوبة، لكن الورق كان كما هو وكتب عليه: "أوافق على نشر كل ما في هذه الأوراق على مسؤوليتي الشخصية".
-بعض المثقفين والكتاب يتعاملون مع اللغة بمنطق "عقدة الخواجة".. كيف تحاولين التخلص من ذلك وأنت تكتبين في بعض مقالاتك بالتشكيل؟
أحاول الكتابة عن ذلك، كتبت بالفعل العديد من المقالات، منها ما يتعلق بكتابة اللافتات باللغة الإنجليزية، وعن مناطق تسن قوانين ولوائح للحفاظ على اللغة، لكن الفكرة أننا أصبحنا أمة لا تنتج معرفة، والأمة التي لا تنتج معرفة لغتها تندثر، وتموت.
كما أن المسألة ليست "لازم تتكلموا وتكتبوا عربي"، إنما التشجيع لإنتاج معرفة حقيقية باللغة العربية. على سبيل المثال مترجمة أجنبية طلبت مني ترجمة كتاب سطوة النص، المهم أن ننتج معرفة وهم يترجمون، هذه وسيلة من وسائل المقاومة والحفاظ على وجودنا. إذا أردنا أن نقوم من كبوتنا فلا مناص من إنتاج المعرفة بلغتنا، خاصة أنه لا يجوز ألا نكون متمكنين من اللغة ونتخيل أننا نستطيع الكتابة والوصول للآخر.
-هل المثقف أو الأديب يجب أن يكون له موقف من السلطة سلبًا أو إيجابًا؟
هذا سؤال صعب جدا.. معروف طوال الوقت وجود مفكر سلطة وآخر معارض، لكني أرى أن هناك مبادئ لا ينبغي لأي مثقف أن يتجاوزها، وهي ما تتعلق بحرية الفكر والتعبير والعدالة والإنصاف. وفي النهاية "أنت شخص شايف أن السلطة تمثلك بأي شكل من الأشكال معنديش مشكلة لكن لا يصح أبدًا أن تستخدم أدواتك في إضفاء مشروعية على أفعال مشينة ترتكبها".
لا يمكن أن تكون مثقفًا أو مفكرًا حقيقيًا، وتمرر القمع الفكري. يمكن أن نختلف في أرضية الثقافة، نختلف على الاشتراكية والرأسمالية وأسلوب إدارة الدولة، لكن لا يجوز الاختلاف "في أنه ينفع نقتل خارج إطار القانون ولا لا" هذا ليس خلافًا فكريًا "ده خلاف أنا بني آدم ولا لا".. وفي تقديري لو تحدثنا عن المثقفين والمفكرين فالأمر يختلف نوعًا ما عن الأدباء.
-ولماذا فصلتِ الأدباء عن المثقفين؟
القصد هنا عن الإنتاج وليس الشخص؛ لأنه في الأدب لا أستطيع أن أطلب من شخص يكتب خيال الدخول في إطار معين، لكن مَن يكتب مقالٍا أو دراسة موقفه معلن.
-إلى أي مدى تتأثرين بما تكتبين؟
أتأثر أثناء الكتابة. لكن ذلك ينتهي بانتهاء العمل، خاصة أني أدخل عملًا آخر مباشرة، لا أترك وقتًا طويلا.
-ماذا عن "هنا بدن".. حدثينا عن تأثرك بها أثناء الكتابة؟
كتابة "هنا بدن" كانت من أصعب الفترات في حياتي. بالنسبة لي كانت باعثة على الاكتئاب، خاصة الفصلين الأخيرين، من الممكن ألا أرد على الاتصالات، بعض الفقرات القليلة فقط التي كنت استشعر فيها بالسعادة.
-هل تعرضين أعمالك الأدبية على شخص بعينه قبل نشرها؟
في العادة لا أفعل ذلك. ولكن في "هنا بدن" عرضتها على الدكتور عماد أبو غازي.
-وهل ستتجهين لترجمة "هُنا بدن" أيضا كالرواية الأولى؟
وقّعت بالفعل عقدا مع وكالة أدبية بريطانية تُسمى Curtis brown وذلك حتى قبل صدور الرواية في مصر، ومن المفترض أن تُسوقها الوكالة في أكثر من دولة.
فيديو قد يعجبك: