في ذكرى "مدرج زامورا".. شهود "الفاجعة" يروون الكواليس
كتبت- فايزة أحمد وميرهان أبواليزيد:
في العام التالي لحرب أكتوبر، بدأت الأحاديث تدور حول احتمالية عودة الدوري المصري بعد فترة توقف للظروف السياسية التي مرت بها البلاد آنذاك، جماهير نادي الزمالك تحتفل بعودة حسن شحاتة من نادي كاظمة الكويتي استعدادًا لخوض مباراة ودية تجمع فريقه بنادي "دوكلا" التشيكي الذي سُلطت عليه الأضواء منذ مجيئه القاهرة، لاسيما بعد ملاقاته للنادي الأهلي في الزيارة نفسها، الأمر الذي حفز مشجعي الأبيض على حضور لقاء فريقهم في ستاد "حلمي زامورا"، فيما خبأ لهم القدر "فاجعة"، حين شهد المدرج أولى الكوارث الرياضية في مصر والتي راح ضحيتها (48 مشجعًا).
وكأن فبراير شهر الأحداث الرياضية المؤلمة؛ كان ذلك في السابع عشر من الشهر نفسه عام 1974؛ حيث تحول ستاد "زامورا" من رمز لتخليد ذكرى أحد أبناء النادي المُخلصين "محمد حسن حلمي" الشهير بـ"زامورا"، إلى أثر واضح لهؤلاء الذين أودى بهم عشقهم للفريق الأبيض والحرص على حضور مبارياته إلى نهاية موجعة.
في ذلك اليوم الذي مازال يتذكره بعض جماهير نادي الزمالك بمشاعرٍ مختلطة، استيقظ السيد هلال من نومه مبكرًا، استعدادًا للمباراة التي حرص على حضورها رفقة بعض أصدقائه في منطقة ميت عقبة، عقب شرائهم تذكرة للدخول والتي بلغ ثمنها جنيهًا واحدًا، لكنه فوجئ بالمدرجات مُمتلئة عن أخرها فلم يجد موطأ قدم له، كما يحكي نجله محمد السيد لـ"مصراوي".
رغم أن "هلال" كان وقتها لم يتعدِ عمره الـ(16عامًا)، غير أنه اعتاد أن يروي لأبنائه ما حدث داخل استاد زامورا إلى أن وافته المنية عام 2007 "والدي كان بيحب يروح ماتشات الزمالك من صغره لحد ما مات"، ذلك الحب الذي استوطن كيانه، ونقله إلى أبنائه جعله يُصر على التواجد في تلك المدرجات رغم الأعداد الكثيفة التي تواجدت في ذلك اليوم "حاول يتصرف فدخل من تحت المدرجات وطلع وقف على السور".
قبل بداية انطلاق المباراة التي كُتب لها ألا تنطلق من الأساس كان خالد حسين يحاول اللحاق بزملائه الذين سبقوه من منطقة شبرا إلى الاستاد، وذلك بعدما نجح في مباغتة والده الذي كان يخشى عليه من الذهاب إلى المدرجات بمفرده "وقتها كان عندي 12 سنة لكن قررت أحضر الماتش علشان حسن شحاتة وفاروق جعفر وخدتها مشي من شبرا لميت عقبة".
"والدي حكالي إن الماتش كان المفروض يتلعب على ستاد القاهرة، لكنهم فوجئوا أنهم نقلوه ستاد زامورا"، يقول هشام عبد الوهاب، نقلا عن رواية والده لما عاشه يوم الحادث. اتخذ عبد الوهاب وشقيقه مقاعدهما المُقابلة للمقصورة الرئيسية التي تواجد بها نائب رئيس الوزراء ممدوح سالم، ووزير الداخلية، ورئيس نادي الزمالك وقتها محمد حسن حلمي، فيما علت الأصوات فجأة هاتفة بأسماء لاعبين الزمالك الذين ظهروا لإجراء عملية الإحماء، ما دفع الجماهير إلى التكدس حول السياج الحديدي الفاصل بين المدرجات وأرضية الملعب "ستاد حلمي زامورا وقتها مكنش ياخد أكتر من 30 ألف.. دخل 80 ألف مشجع"، يُرجع هشام هذا إلى سوء التنظيم.
صخب كبير عم أرجاء الاستاد، الأنظار بدأت تتجه أسفل المدرجات، أصوات الاستغاثة أخذت تتعالى في الوقت الذي كان يحاول عبد الوهاب وشقيقه فهم ما يحدث "أول لما شافوا السور الحديدي بيقع عرفوا أن الجماهير وقعت فوق بعض"، الأمر الذي جعلهما يُفتشان عن حيلة يستطيعان عن طريقها النجاة من الموت الذي كان قريبًا منهما للغاية.
"والدي شاف ناس ميتة من كتر التدافع كانوا بيعدوا لأرض الملعب من الفتحات الضيقة بتاع السور الحديدي"، مما حدا به الصعود أعلى سور المدرجات للقفز في الخارج، تلك الطريقة التي اتبعها "هلال" للنجاة بنفسه أيضًا، مثلما يحكي ابنه محمد "لاقى الناس بتدوس على بعضها من كتر التدافع.. فنط من على السور في الشارع"، ما تسبب في إصابته بكسر في قدمه.
حُمل هلال على أكتاف أصدقائه إلى الخارج، حيث كان وصل "حسين" ليفاجئ بالعديد من جماهير الزمالك تهرول وعلى وجوهها فزعًا لم يعتده من قبل "مكنتش فاهم إيه اللي بيحصل.. الناس بتجرى وهم مرعوبين وبيقولوا الناس ماتت"، لم يفهم من عساهم هؤلاء الناس الذين ماتوا، ولا كيف حدث لهم ذلك "أول مرة ناس تروح تشجع فتموت".
وقف حسين خارج السور يتابع أحاديث المارة المختلفة "فيه ناس قالت دول بيقولوا كدا علشان محدش يدخل لأن الأعداد كانت رهيبة"، فقرر أن يقترب أكثر من الأسوار "لقينا عربيات الإسعاف بتنقل الناس، وناس تانية خارجة متصابة"، لم يمُكنه صغر سنه من إدراك حجم المأساة التي ألمت بـ( 48أسرة) فقدت عزيزًا لديها بسبب مباراة كرة قدم.
نصف ساعة فقط؛ مدة وقوف الطفل -الذي أصبح في الخمسينات من عمره الآن- بالخارج يتابع ما يحدث، حتى وصلت قوات الأمن التي سرعان ما طالبت الجميع بالانصراف، ليعود أدراجه إلى منزله "لقيت والدي في حالة حزن شديدة لأنه كان زمالكاوي جدًا.. ومكنش يعرف أني هناك"، لم يتفهم سبب حزن والده العميق وقتذاك على أناس لم يعرف منهم أحدًا سوى أنهم يشاركوه تشجيع الزمالك، إلاّ بحضوره حادثة الدفاع الجوي التي راح ضحيتها 20 مشجعًا عام 2015.
تشابهت الأجواء والوجوه المُكفهرة التي هرولت خارج الدفاع الجوي هربًا من الموت، لكن المشاعر التي سيطرت على خالد حسين في تلك الأثناء كانت مختلفة للغاية " في الدفاع الجوي كنت مدرك حجم اللي بيحصل ولو كنت أقدر أدخل أنقذ حد من اللي ماتوا كنت هروح انقله في عربيتي لأي مستشفى.. لكن في زامورا كنت خايف فبعدت عن المكان وروحت".
لم يبكِ حسين ضحايا زامورا لكنه بكى من رحلوا في "الدفاع الجوي"، بينما بكى هلال أصدقائه الذين دُهسوا تحت الأقدام في زامورا "والدي قعد فترة زعلان جدًا جدًا على أصحابه اللي ماتوا"، فيما ظل عبد الوهاب يحكي لأبنائه عن الحادثة التي أفجعته وكيف أفلت بشقيقه من تلابيب الموت.
فيديو قد يعجبك: