لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

رغم تدهورها.. صناعة السفن أوقعت "محمود" في شباكها منذ كان في السادسة

04:02 م الخميس 15 مارس 2018

محمود الطرابيلي

كتبت - فايزة أحمد:
على ضفاف النيل أمام طابية عرابي الكائنة بعزبة البرج بمحافظة دمياط، تصطف مراكب عدة من مختلفي الحجم والنوع، صُنّعت بأيدي أهالي تلك القرية الذين لم يعرفوا طيلة حياتهم سوى المراكب والبحر للبحث عن مصدر للرزق، حتى نالوا شهرة واسعة أبحرت خارج الحدود؛ باتت سفن الصيد واليخوت التي تُبنى داخل الورش المُقامة على نحو ستة أفدنة تُطلب خاصة في دولتي اليونان وقبرص، تلك الدولتان اللتان كانتا زبون دائم لدى محمود الطرابيلي الذي جذبته حرفة الصناعة منذ أن كان في السادسة من عمره.

صورة 1

أمام ورشته المُطلة على النيل، يجلس "الطرابيلي" على مقعده الوثير، وسط سفن ويخوت عدة صنعها بيديها التي مازالت تحمل وشوم تلك المراكب، مُتذكرًا كيف كان يلوذ بالفرار من مدرسته حين كان في الصف الأول، إلى ورشة أبيه في الطابية، ليتجول بين العُمال والحرفيين بأعين مشدوهة للمهنة التي عشقها منذ النظرة الأولى "أبويا قعد يتحايل عليا أكمل المدرسة.. بس أنا حبيت صناعة المراكب، ومن يومها ماسبتهاش".

صورة 2

لجأ والد الطرابيلي إلى حيلة لم تُجدِ نفعًا معه، لإثنائه عن رغبته في التواجد معه بالورشة بين باقي النجارين والحدادين واللحامين، بدلًا من الذهاب إلى المدرسة التي لم يكن يهتم لأمرها " نزلني معاه الورشة، وافتكر أني هتعب من وهغير رأي"، لكن الطفل الذي كان في السادسة آنذاك لم يعدل عن قرارها حتى بات اليوم على مشارف عقده السادس رفقة ابنه في الورشة ذاتها يعملون في مهنة والده وجَده "ندمت بعد ما كبرت إني ما تعملتش.. على الأقل كنت مسكت حسابات شغلي".

صورة 3

تشرّب "الطرابيلي" المهنة حتى أرتوى، فمع كل سفينة جديدة يصنعها يحسب العملية بدقة شديدة، اكتسبها بخبرة السنين، بداية من عدد المسامير، إلى نوعية حديد قمرة القيادة في الطابق الأخير من السفينة "كل حاجة بالأرقام.. لو القياس طلع سم واحد ماينفعش يبقى سم ونص، وإلاّ الشغل كله يبوظ"، لكنه على مدار سنوات عمره لم يقع في ذاك الخطأ.

أجبرت الحرفة الطرابيلي" على تكّشُف أسرارها التي يتلمس طريقها في كل مرة بداية من اختيار الأخشاب التي تُستخدم في تصنيع السفن والمراكب الخشبية كـ" الكافور، والتوت، والسنط"، ليضعها على المنشار الكبير الذي يُهيئها للمرحلة التالية "بحطها على المنشار الصغير، وبعدين يتنى"، حتى يتحول إلى أحد العروق الغليظة الذي يُثبت واحدًا جانب الآخر، ليشكلوا في النهاية هيكل المركب.

صورة 4

يقف "الطرابيلي" وسط سفنه التي صنعها كما لو كان مُعلمًا يصف ويشرح عمله خطوة خطوة، بداية بالطابق الأول الذي يحتوي على المخزن وغرفة المحرك ومحرك الثلاجة وغرفة الثلاجة الأساسية وملحق الثلاجة، فيما يحتوي الطابق الثاني على حجرات النوم والثالث على قمرة القيادة وأجهزة السفينة "بعد كدا بيدأ شغل السباكة والدهان ودول أخر مرحلة".

كبر الشاب الشغوف بين عمال والده، تزوج وأنجب أربع فتيات وولدا، بات صاحب الورشة، تبدلت أحوال قريته ذائعة الصيت والحرفة التي أحبها حتى الثُمالة "الخامات اللي بنستخدمها أسعارها ارتفعت مرة ونص"، ما جعله يستغني عن نصف العمالة التي كانت لديه، ليبُدل نظام عمله تمامًا "زمان كنا بنخلص المركب ولا اليخت من مجميعه ونحاسب صاحب المركب.. حاليًا صاحب المركب اللي بيجيب كل حاجة وبيحاسب الصنايعية"، لتتقلص مهمته في عمل يده فقط.

صورة 5

كان لكل هذه التغيرات التي حدثت في أحوال مهنته، أن تصيب أحوالهم الاقتصادية بركود لم تشهدها "عزبة البرج" على مدار تاريخها -حسب وصفه- ترتب عليه "المركب اللي كانت بتاخد6 شهور.. بقى ممكن تقعد سنتين وتلاتة"، يُشير بيديه صوب إحدى سفن الصيد الحديدية "المركب دي بقالها 6 سنين شغال فيها"؛ نظرًا لسوء أحوال الصيادين "الصياد بقي يجي كل 6 شهور يدفع مبلغ ولما يخلص نقف تاني".

تمكن الشيب من "الطرابيلي"، لكنه لازال يُحدث أي وافد جديد عن مجد مهنة أبيه وجده والأيام الخوالي، يفتخر بإتقانه صناعة السفن تلك التي قلما يوجد من يُجيدها الآن؛ حتى بعض المهندسين المتخصصين يأتونه من محافظات عدة، يطلبون خبرته وملاحظاته على مشاريع تخرجهم أو مشاريع بداية حياتهم العملية "بفرح وأنا بقدم لهم أي مساعدة"، تلك الفرحة التي تنسيه بعض من أحزانه العميقة لعدم إتمام تعليمه، زاد من الأمر "ابني كمان طلع زيي وماحبش يروح مدارس"، لكنه يجد السلوى كلها في بناتها "الأربع بنات دخلوا كليات محترمة.. بس هنا البنت مالهاش إلا بيت جوزها".

صورة 6

رغم تدهور أحوال صناعة السفن في عزبة البرج، لم يتمكن اليأس من الرجل الستيني الذي ينتظر بصبر شديد عُرس ابنه الوحيد؛ كي يأتي أحفاده ليُكملوا ما وصل إليه "أنا عندي أحفاد من بناتي.. بس ولاد ابني دول العصب"، هؤلاء الذين يُعول عليهم أن يشهدوا الأيام التي سيعود مجد حرفته من جديد "صناعة السفن مهمة للعالم كله.. ولازم ترجع أحسن من الأول.. إن مكنش دلوقتي يبقى بعدين".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان