لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"رمضان مرجوش".. حكايات "الدقاقين" في نهار الصيام

08:25 م الأحد 27 مايو 2018

حكايات الدقاقين

كتبت- علياء رفعت:

كُلما اقتربت قدماك خطوة منه، تناهي إلى مسامعك صوت "الدق" المتواصل الذي لا ينقطع أو يهدأ حتى في نهار الصيام. ربما يخفت قليلًا لبضع دقائق، ولكنه سيعاودك بقوة كلما تقدمت نحوه؛ شارع "مرجوش" كما يسميه أهله بعد أن كان اسمه الأصلي "أمير الجيوش" ليخففها سُكانه وحرفيوه حتى أصبحت "مرجوش". هنا يقبع النحاسون والدقاقون منذ آلاف السنين، هنا كان الأصل لحرفة قل "صنايعيتها" حتى أوشكت على الاندثار.

بين شذرات نيران "اللحام" والمطرقة الحديدية يُشكل هؤلاء الدقاقون أواني الطعام المختلفة وأدواته إلى جانب تاريخ صَنعة هم أبرز حِرفييها برغم عنائها الذي يتضاعف ويخلق حكايات فريدة مع شهر الصيام.

2

داخل ورشة صغيرة لا تتجاوز مساحتها الأربعة أمتار، كان "أحمد" العشريني يجلس فوق كُرسي له امتدادٍ من عامودٍ حديد، وهو يضع فوق ذلك العامود "حَلة" تزن 10 كيلوجرامات من الألومنيوم، ويمسك في يده بمطرقة حديدية ثقيلة. يدق بانتظام في أماكن مُحددة فوق لِحام القعر لكي يذيل زوائده البارزة. يرفع يديه وهو يُحيي المارة كما استقى العادة من أبيه، ويتلقى الزبائن وهم يضعون البضاعة المنتظر تصليحها بجواره بوجهٍ بشوش.

"رمضان في العادة شغله نار" يقولها الشاب العشريني واصفًا أحوال الصنعة في رمضان فهو بالنسبة لهم "موسم" كما يؤكد، العمل فيه لا يتوقف ولا يهدأ أبدًا كما اعتادوه.

لا تكفيهم مدة 6 ساعات متواصلة لإنجاز المهام اليومية بين الثقل والصب والتشكيل أو عمل "المرمات" الخاصة بـ"قِدر" الفول و"حِلل" الكشري و"خلاطات" الفواكه والعصائر المختلفة.

لكن رمضان هذا العام بدا مُختلفُا كما يوضح أحمد "الشُغل خف مش زي الأول حتى الشارع مفيهوش بهجة ولا موائد رمضان.. بقينا نشتغل 3-4 ساعات بس ودمتم" هكذا سارت الأحوال في شارع مرجوش الذي لا يهدأ، فبحلول رمضان خفت الدق وقل العمل نسبيًا. فيما بقي أصحاب الورش يواظبون على مواعيدهم فيفتحون محلاتهم عقب أذان الظهر ويستعدون لخناقاتٍ يومية مع الزبائن بسبب غلاء الأسعار الذي طال الجميع.

3

لدى الدقاقين، يختلف شهر رمضان عن أي شهرٍ آخر، فمهنتهم التي تعتمد على الوقوف أمام النيران أو الدق بالمطرقة لساعاتٍ طويلة تتطلب جهدًا شاقًا لا يقوى عليه الجميع في نهار الصيام فيعمد القليل منهم إلى الإفطار بسبب الإنهاك من درجة الحرارة العالية والإغماءات المتتالية إثر انخفاض ضغط البعض المفاجئ. "بنصوم وندعي ربنا يقوينا" قالها شِحته الستيني، أشهر دقاقين شارع مرجوش، فبركة رمضان بحسبه لا توجد بأي شهر آخر. وعلى الرغم من مشقة الصيام إلا أنه مُجلبًا للرزق كما يُشير "أوقات الدنيا بتبقى هادية خالص والواحد يستفتح على متأخر، بس ربنا بيجبر بخاطره في الصيام متعرفش منين ولا إزاى".

وتعد مهنة الدقاقين إحدى أصعب المهن التي أصبح الصنايعية ينفرون منها ويبحثون عن غيرها لمشقتها وقِلة عائدها المادي بالنظر للجهد المبذول، ولِما يمكن أن تسببه لصاحبها من تأثير على السمع، ولكن "شِحته" يراها بعينٍ أخرى مختلفة تمامًا.

"مزيكا.. والله مزيكا" بكلمةٍ واحدة تختزل معاني كثيرة لخص الرجل الستيني الأصوات التي يصدرها الدق بالنسبة له "اتعودنا عليها واتعودت عليها، ولفنا على بعض". التقدير هو المطلب الوحيد الذي لا يناله "شِحته" في مصر بحسب ما يوضح، فقبل عشرين عامًا تنقل الرجل الستيني بين السعودية والإمارات، جلبوه بالاسم ليصنع لهم أهِلة المساجد من النحاس وكان يُعلم على يديه عشرات من الهنود والفلبينيين الصنعة فيلقى حفاوة منقطعة النظير لا يأمل معها إلا تدريب بعض الشباب في مصر أيضًا "خايف الـ6-7 اللي باقين في الشغلانة يموتوا ومحدش يورثها وتموت معانا".

4

في الورشة المجاورة لشِحتة، كان "جودة" الثمانيني يدق مطرقته بقوة وصلابة شاب عشريني. يُحيه المارة وهم يرددون "حيلك يا عم جودة بالراحة على نفسك" فيرد التحية وهو يردد "الصيام بيقوي ويعين والله".

سبعون عامًا وهو يعمل بتلك المهنة الشاقة، ولكل عامٍ من السبعين روح وطقوس ثابتة لرمضان يحرص عليها الرجل الثمانيني، بدءًا من العمل عقب صلاة الظهر، مرورًا بتوزيعه العصائر على المارة وقت أذان المغرب، وانتهاءً بالإفطار وصلاة التراويح التي يحرص على أدائها بأحد مساجد شارع المعز.

"رزقه واسع وخيره كتير، الناس ما بتبطلش مرمات" يقولها جودة وهو يطرق هيكل خلاط الفواكه بقوة، مُشيرًا إلى أن أغلب عمل رمضان ينحسر في مرمات قِدر الفول وحِلل الكُشري "موسم للاتنين الفول لرمضان، والكشري للعيد بس بيجهزوله من دلوقتي عشان ميعطلوش". كِبر سِن جودة لم يكن حاجزًا بينه وبين العمل الذي يُصر على النزول إليه يوميًا، "أنا لو مقضيتش رمضان في ورشتي ووسط ناس مرجوش أموت".

5

في زقاق صغير بالقرب من ورشة جودة، وأمام طاولة مربعة؛ وقف "سيد" الخمسيني مُمسكًا في يده بـ"صاروخ التجليخ" وهو يُصقل قطعة من الاستانلس، ستُشكل لاحقًا خلاطًا للفول. تتطاير شذرات النيران ويصدر الاحتكاك رائحة كريحة ولكن سيد يبقى ثابتًا غير عابئ سوى بالانتهاء من تشكيل قطعته.

"رمضان دايمًا جايبلنا معاه البركة رغم التعب، بس الشغل السنة دي قليل" يقولها سيد وهو يقلب قطعة الاستانلس بين يديه باحتراف، غير إن أوضاع البيع والشراء تبقى الشيء الوحيد الذي يشغل باله فيردد "زمان مرجوش ده في رمضان كان ينور من البهجة، الرجل بتدب في كل حتة والشغل كتير مش ملاحقين عليه، والشارع مبيهداش". هدوء الأحوال بمرجوش هي السمة الأبرز التي يقرها أصحابه بينما يجتمعون على أن "روح رمضان وبركته بيعينوا ويقووا".

6

في المواجهة للزقاق الذي تقع فيه ورشه سيد، كان "صبري" الستيني يجلس أمام "طِشت" كبير مُمسكًا في إحدى يديه "أجنه" تزن أكثر من خمسة كيلوجرامات، وباليد الأخرى مطرقةٌ حديدية يدق بها فوق "الأجنه" فيصنع خرمًا في الطشت ليحوله إلى مصفاه تستخدم في محلات الطعام الشعبية والكشري.

أربعين عامًا هي العُمر الذي قضاه صبري في تلك المهنة الشاقة بعد أن تحصل على شهادته الجامعية في كلية التجارة، ليقرر بعدها أن يزاول مهنة الآباء والأجداد ويرثها عنهم فيعمل بالورشة التي أورثها لهم جد الجِد. "بقينا 4-5 صنايعية في الشارع كله واللي يموت مبيتعوضش، مع الوقت المهنة دي هتفنى"، قالها صبري مُتحسرًا على أحوال الدقاقين التي تنتكس بمرور الوقت، موضحًا أن هناك من لا يفضلون العمل بها طول شهر رمضان لمشقتها، ولكن ذلك الاختيار بالنسبة له رفاهية لا يقدر عليها "هأكل منين الـ3 بنات وأمهم لو قعدت!.. صحيح ببقى هموت من العطش والتعب بس ربنا يدينا الأجر".

لرمضان طقوسه الخاصة في شارع مرجوش ولدى الدقاقين بالأخص كما يوضح صبري "زمان كنا نعد نشتغل لبعد الفطار عشان نلاحق. نبل ريقنا ونكمل شغل وناكل لما نروح لكن دلوقتي الشغل خف فبقينا نقفل من بعد العصر بشوية".

ورغم تبدل الأحوال الاقتصادية التي ينعيها "صنايعية" المهنة إلا أن رمضان ما زال بالنسبة لهم يحمل نفس الروح المباركة من كُل عام "بستناه من السنة للسنة ونفسنا نرجع نحس بطعم الرزق فيه زي زمان".

اقرأ أيضًا:

خلي رمضانك مصراوي.. وشاهد كل مسلسلات رمضان 2018 "قبل أي حد"

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان