في الذكرى الـ16 للحادث.. مصور "محمد الدرة" يستعيد رؤيته الموت على طائرة مصرية
كتبت-إشراق أحمد:
33 عامًا مضت له في الصحافة، عايش طلال أبو رحمة انتفاضات وحروب داخل غزة، سقوط شهداء، قصف منازل وغيرها من الأحداث الدموية المستمرة على الأرض المحتلة، رصدت عدسة المصور الفلسطيني الموت مرات، أشهرها لحظة استشهاد الطفل محمد الدرة، لكنه لم يذقه حقًا إلا مرة واحدة، يحاول تناسيها كلما حل السابع من مايو طوال 16 عامًا انقضت.
كان أبو رحمة أحد الناجين بين ركاب الطائرة المصرية بوينج 737، التي تحطمت عام 2002. حتى ذلك اليوم، ظل ركوب الطائرة بالنسبة له "متعة" كما يقول. يتأمل الأجواء بالخارج، ينتشي بالسعادة حتى بلوغ وجهته، لكنه لم يعد كذلك بعد. أي اهتزاز ولو لمطب هوائي بات نذير خوف، يعيد لذاكرة المصور الصحفي موقف نجاته العصيب.
راح مدير مكتب التليفزيون الفرنسي في غزة ينتظر لحظة الوصول إلى الجزائر لتكريمه والمشاركة في مؤتمر إعلامي، غير أن الوجهة لم تكتمل. توقفت رحلة المصور رقم 843 ضمن 68 راكبًا. قبل دقائق من الدخول في الأجواء التونسية اهتزت الطائرة بشدة، بدا أنها فقدت اتزانها، ثم انقطت الكهرباء "ضربة تانية وبدأت الكراسي تنخلع. وقتها عرفت أن الطائرة خلاص راحت"، يحكي أبو رحمة لمصراوي.
موقع جلوس أبو رحمة في الركن الأمامي للطائرة كتب له النجاة. انشطرت الطائرة نصفين بعد اصطدامها بهضبة، عرف المصور الصحفي بعدها أنها تسمى "جبل النحلي". قفز حاله حال الناجين من الجزء المفتوح -49 شخصًا. كلهم ركضوا فارين: "كنا خايفين الطائرة تنفجر. الكل ملهي ينجي بحاله" فيما تُزيد الأجواء من الرهبة في نفوس الفالتين من الموت.
الجو عاصف والمطر منهمر رغم أن الوقت عصرًا، وبينما يهيم أبو رحمة مبتعدًا. سمع صوت أنثوي يردد "ساعدني. ساعدني". لوهلة شرد لكنه عاد، فإذا بسيدة تحمل طفلاً صغيرًا، طلب منها أن تقذفه إليه من الطائرة ثم تقفز هي الأخرى. قرابة 50 شخصاَ آووا إلى شجرة، جلسوا تحتها حتى تأتيهم النجدة، أمسكوا بفروعها "كنا عاملين زي الأفلام اللي يشلح –يخلع- الجاكيت ويشاور للطيران فوق".
لم يشعر أبو رحمة يومًا برعب أكثر من ذاك، تعلم أقوى درس بالحياة "الواحد ورجليه على الأرض بيضل الشعور بالنجاة وأنا كصحفي أشعر بالأمان لما تبقى الكاميرا على كتفي". في ذلك اليوم فقد المصور الفلسطيني كاميرته، "رفيقة دربه" كما يقول، فانتُزع منه أمانه، وهو صاحب اللقطات الحصرية للتليفزيون الفرنسي لاستشهاد الطفل محمد الدرة في انتفاضة الأقصى عام 2000.
"فيه جزء من الطيارة اتسكر كعلبة سردين معرفناش ننقذ الناس من جواه"، يتذكر صوت إحدى المضيفات وهي تصرخ "أنقذوني.. أنقذوني" وما كان بيد المصور والبقية أي حيلة، فيما كان الموت يرقد بالجوار "شوفنا الطيار طالع تقريبا بالكرسي بتاعه قدام الطيارة بأمتار". التوتر والخوف والصدمة سيطروا على المشهد "حتى كلمة الحمد لله على السلامة ما طلعت منا" بتأثر يواصل المصور الفلسطيني روايته.
بعد قرابة ساعة لمح الناجون شرطيا لمنتزه "النحلي" القريب من مطار قرطاج، حيث المفترض أن تهبط الطائرة. انزعج الحارس كيف وصل هؤلاء لسفح الهضبة. أعلموه بالحادث فأسرع في جلب الإنقاذ. كان أبو رحمة يرى الشارع من أعلى ذلك الجبل، لكنه ومن معه ما استطاعوا النزول. آلامهم ظلت تُلح على أجسادهم حتى بعد أن استقر بهم المطاف في المستشفى.
لا تزال آثار الحادث عالقة في جسد أبو رحمة "عندي انحناء 18 نقطة كما يقال في لغة الطب". أصيب المصور الفلسطيني في الرقبة "عندي تكلس في الفقرات وصل لـ76%". حينها انتظر عملية جراحية تصل لـ14 ساعة، لكن الطبيب المعالج نصحه ألا يفعل، ومنذ ذلك الوقت يتناول علاجًا حتى لا تزيد نسبة التكلس. أما التأمين الطبي الذي استمر عامًا ونصف فانتهي. لزم على أبو رحمة رفع دعوى قضائية لمواصلة الأمر قبل انقضاء المدة.
رغم أسى الذكرى غير أن أبو رحمة يستطيع استعادتها باللفتة، وإن كان كثيرًا ما يتحاشى فعل ذلك حينما يعلم أحد أصدقائه أنه ناج من حادث طائرة ويلح في سؤاله، دوما ما يتجنب ظهور رد فعله في استحضار التفاصيل، فكم كان عصيبًا أن يعلم بمعاناة أسرته في البحث عنه، إذ بقي المصور في عداد المفقودين حتى المساء، بعدما تعرف عليه طبيب بالمستشفى وأخبره أن السفارة الفلسطينية تبحث عنه.
يتوقف أبو رحمة بعضة ثوان عن الحديث ثم يطلق ضحكة؛ لطالما كان هناك شيء ما يخفف من وقع الكارثة. يحكي عن ردة فعل نقابة الصحفيين الفلسطينيين حينما أتاهم خبر سقوط الطائرة واعتباره من المفقودين. "اجتمعوا للتنسيق واعتماد جنازتي. كانوا ينتظرون جثتي ويعملون لإنهاء التنسيقات ومراسم الجنازة". في ذلك الوقت كان السفير الفلسطيني في الجزائر والمشرفين على المهرجان في المطار ينتظرونه.
استمرت تلك الحالة ردهة من الوقت حتى جاءهم الخبر اليقين: أبو رحمة حي.
لم يبق بحوزة المصور الفلسطيني من الحادث سوى جواز سفره، وهو ما عجل برحلة جديدة بعد أيام من إصابته. باعتباره مراسلا لمحطة تلفزيونية أجنبية. انتقل إلى مستشفى للعلاج في فرنسا. لم يكن هناك ما هو أصعب على نفس أبو رحمة من تلك الرحلة. "تشنجت وأنا في الطيارة وجاني الطيار صرخ فيا مش بدي إياك تروح في غيبوبة" بالكاد تخطى أبو رحمة ساعات السفر كرهًا وإعياءً.
بعد شهر لزم على المصور استقلال الطائرة مرة أخرى للعودة إلى غزة، لكنهم انتقلوا به إلى تونس أولاً، للتعرف على حقائبه، التي رفض استلامها "لقيتها مخرمة، كأني جايب مسامير وبدقق فيها". حينها جلس مع عدد من الأطباء النفسيين، هيئوه للرحلة، لكن الخوف ظل كامنًا في نفس صاحب السادسة والستين ربيعًا حتى أنه يكتفي بقول "يعلم الله كيف كانت".
إلى الآن يواصل أبو رحمة السفر بالطائرة، ما بين رحلات عمل واستلام جوائز، لكنه يتجنب تزامن ذلك مع يوم الحادث أو شهر مايو بأكمله، بل بات تتبع الطقس في موعد السفر تقليدًا له، وربما ألغى رحلته. يتصالح مع شعوره بالقلق والخوف كلما صعد إلى طائرة لأنه صاحب تجربة "صارت الهزة بالنسبة لي سقوط أضل أقرأ قرآن وأقول يارب".
في السابع من مايو المنصرف، حلت الذكرى السادسة عشر للحادث، ولم تنقطع عن المصور أمنيته بصحبة كاميرته في ذلك اليوم " كنت هضل فاتحها واللي تلقطه تلقطه"، فيما يوقن أن عيناه ونفسه لا تنسى أنه رأى الموت يوما ما قادمًا إليه ثم ولى.
فيديو قد يعجبك: