بالصور والوثائق.. كيف تحول محمد خالد من "زينة الحتة" لـ"سفاح الساقية"؟
كتب - علياء رفعت ومحمد شعبان:
تصميم الغلاف- أحمد كامل:
كمحترف يبحث عن الشهرة بملاحقة وطعن فتيات منطقة "ساقية مكي" .. هكذا تصدر"محمد خالد" المشهد في أذهان الجميع، فبدأ اسمه في الانتشار حتى حصل على لقب "سفاح الساقية" إلى أن ألقي القبض عليه وبدأت محاكمته، ليواجه العديد من الاتهامات فتدور حوله قصص غريبة.
بين جموعٍ تصفه بالمتطرف، وآخرين يطالبون بتوقيع عقوبة رادعة عليه ليكون عِبرة؛ كانت لأسرة الشاب والجيران والأقارب قصة أخرى."مصراوي" تقصى حقيقة المتهم بالاعتداء على فتيات بآلة حادة ليصبح حديث الساعة في منطقة ساقية مكي، الواقعة بالجيزة.
في شارع "عدوي سليم"، تحديدًا حارة "نجا"، نشأ وتربى "محمد خالد إسماعيل" الشهير وسط أهل المنطقة بـ"محمد كشري". عِند ناصية إحدى البنايات المُتلاصقة في الشارع، وقف شابان في أواخر العشرينات أمام عربة للبطيخ، تعلوها زينة رمضان التي تُضيء شارعًا ضيقًا، يظهر على وجوه أهله الحزن بعد القبض على من يصفونه بـ"ابننا".
"سفاح إزاي!، ده زينة شباب الحارة والمنطقة كلها، مكنش فيه حد في طيبته" يقولها "عمرو" وهو يتحرك من خلف عربة البطيخ لدى سؤاله عن محمد، مؤكدًا أنه "صديق عُمره" الذي نشأ وتربى معه، وأنه كان واحدًا من أشهر الحدادين في الساقية، حيث كان يُطلب بالاسم لمهارته في الصنعة: "بيعمل فورم سقف مفيش أجمل منها، محمد ده فنان لولاش بس العيا اللي صابه كان فضل أحسن واحد فينا."
قبل 14 عامًا، كانت أعراض إضرابات نفسية بدأت بالظهور على "محمد كشري" ابن الـ32 عامًا، حسب بطاقة الرقم القومي خاصته، ووفقًا لأحد أقاربه، ظهرت عليه في ليلة زفافه، والتي أصر فيها على عدم حضور الفرح واصطحاب عروسه من بني سويف حتى مسكنهما بشارع التعمير في العمرانية.
5 أيام، هي عُمر تلك الزيجة التي انتهت بالطلاق وأخفت أحداثا كثيرة مريبة، بدأت بذهاب الشاب لوالده في اليوم الذي أعقب زفافه، ليؤكد له أنه لا يطيق المكان ولا زوجته التي ضربها لاحقًا بـ"الملاوينا" -أداة تستخدم في الحِدادة- ما أدى لكسر عظام ساقيها، ليصعقها عقب ذلك بالكهرباء ويعلقها في سقف إحدى الغرف، فيتم الطلاق بعدها بيومين، بحسب الوالد.
عقب تلك الحادثة ازدادت اضطرابات الشاب النفسية. كان يترك منزل أهله بالشهور فلا يعلمون عنه شيئًا، بينما يسير يرسم رسومات غير مفهومة على جدران شوارع المنطقة، يتحدث إلى الطيور، وينام داخل "التوتوك" المركون بالحارة، أو في مداخل البيوت تحت السلم.
لم تفلح محاولات الأب في ردع الابن عن أفعاله، فأضحى يضربه بقسوة -كُلما عاد للمنزل- حتى نبهه أحد الجيران إلى كون الابن مريضًا نفسيًا يستوجب العلاج، فكانت تلك الإشارة هي بداية رحلة الأسرة المريرة في محاولة علاج ابنهم.
في عام 2009، كان مستشفى "أبوالعزايم" للطب النفسي هو المحطة الأولى في الرحلة، حيث تم إدخال الشاب إليه على يد والديه -ما يعد دخولا إلزاميًا- ليتمكن من الهرب عقب دخوله بـ(15) يومًا، دفع خلالها الأب ما يقارب 18 ألفًا للإدارة التي ما إن علمت بقصة هروب الشاب حتى ترجت الأب أن يودعه لديهم مرة ثانية أو أن ينهي الموضوع بشكل ودي كي لا يُفصل الموظفون.
"إذا هرب المريض الخاضع لنظام الدخول الإلزامي وجب على إدارة المنشأة إبلاغ الشرطة أو النيابة العامة للبحث عنه وإعادته إلى المنشأة لاستكمال إجراءات العلاج الإلزامي" هكذا نصت المادة 21 من قانون 71 بشأن رعاية المريض النفسي.
لكن ذلك لم يحدث مع محمد، فلم يبلغ المستشفى الشرطة ولا النيابة، بينما رفض الشاب العودة مرة أخرى، وقفز من الدور الثالث بالمنزل الجديد الذي انتقل إليه أهله -بسبب ضيق بعض أهالي منطقته القديمة بتصرفاته- كي لا يأخد الدواء.
بعد هروبه من المستشفى، استمرت أحوال "محمد" في التدهور بل ازدادت سوءًا عن ذي قبل. عرف الجميع بمرضه النفسي فأصبح حديث الساعة في منطقته القديمة التي كان يتردد عليها بين الحين والآخر -بعدما ترك عمله- ليأكل لدى أيٍ من سيدات الحارة، ويتخذ أموالًا من رفاقه القدامى، بينما يرتدي ثيابًا بالية وينام بالشارع أو فوق إحدى "المساطب".
رغم ذلك لم ييأس الأب أو الأم منه، حاولا استقطابه ليعود إلى حضنهما مرة ثانية، ولكن مرضه النفسي في ذلك الوقت جعله أكثر عدوانية، فأخذ يرفع السكين على والدته وإخوته ويهددهم بالقتل إذا ما ضايقه أحد.
كانت أوضاع محمد تنذر بانفجاره كـ"قنبلة موقوتة"، حسب وصف والده، والذي توجه به مرة أخرى لمستشفى قصر العيني ليعالجه ولكن ما حدث كان عكس ذلك.
حُجز محمد بالمستشفى مدة أسبوعين فقط عام 2010، ورغم إقرار الأطباء لمرضه إلا أن الأب فوجئ بمن يتصل به هاتفيًا في أول الأسبوع الثالث "تعالى خُد ابنك بقى كويس وزي الفُل".
توجه الأب لتسلمه على أمل أن يكون قد شُفي تمامًا: "قلت ربنا كرمنا والواد هيرجع كويس" غير أنه لدى عودة الشاب للمنزل فوجئ به الجميع وقد عاد لما كان عليه بعد فترة وجيزة، ليستمر في تهديدهم وإيذاء أبناء منطقته ورميهم بالحجارة، إلى جانب افتعال أي مشكلة دون سبب.
وتنص المادة 12 من قانون 71 بشأن رعاية المريض النفسي على أنه "يجوز لأي من الوالدين أو الوصي تقديم طلب لفحص المريض النفسي ناقص الأهلية لعلاجه بإحدى منشآت الصحة النفسية، على أن يستشار الأخصائي الاجتماعي بتلك المنشأة في هذا الطلب وعلى أن يُبَّلغ المجلس الإقليمي للصحة النفسية في خلال يومي عمل من تاريخ الدخول، كما يجوز لأي من الوالدين أو الوصي تقديم طلب للخروج في أي وقت إلا إذا انطبقت على المريض شروط الحجز الإلزامي وفى هذه الحالة تتبع الإجراءات المقررة في هذا الشأن ."
لم يقدم والد محمد طلبًا لخروج ابنه، ولكن بخروجه استمر مسلسل ذعر الأسرة من أفعاله غير المفهومة حتى قرر الأب ألا يستقبله بالمنزل مرة أخرى، خاصة وأنه كان قد بدأ يظهر عداءً واضحًا لأى فتاة غير محجبة حتى أن والدته وأخته كانتا ترتديان الحجاب أمامه خشية أن يقوم بإيذائهما.
ثلاث سنوات استغرق فيها محمد وحيدًا بين الشوارع: "قلبي كان مهري من الحِزن عليه" تقولها الأم بحسرة، لكنها في نهاية المطاف استطاعت أن تستميله مرة ثانية وأقنعته دموعها بضرورة العلاج الذي كان يرفضه بشدة وعدائية: "خدته وروحت كشفت عليه في قصر العيني تاني.. قالولي ده عاوز كام جلسة كهربا وهيكمل باقي العلاج بأقراص دوا" هكذا استكمل محمد رحلة العلاج مع أمه، فكانت تتوجه به ثلاث مرات أسبوعيًا لجلسات الكهرباء التي كان يخرج منها منهك القوى تمامًا غير قادر على الاستيعاب أو التركيز.
بعد أسبوعين أخبرها الأطباء أن ابنها أنهى جلسات الكهرباء لأنه قد شُفي، وهكذا كتبوا في التقرير الطبي الذي حصل "مصراوي" على نسخة منه، بينما أمروها أن تواظب على إعطائه أقراص الدواء، فأبدى الشاب تحسُنًا ملحوظًا في تصرفاته وتعاملاته مع الآخرين.
وبعرض التقرير الطبي على الدكتورة "هبة فتحي"، نائب مدير مستشفى الطب النفسي بقصر العيني، أكدت أن الشاب خضع لعشر جلسات كهرباء، وتم تشخيصه بالفصام، ووصفت له العديد من الأدوية التي تساعد في السيطرة على حالته، ليواظب عليها مدى الحياة. ولكن اللافت للنظر كان خلوّ التقرير الطبي الخاص بالخروج من ختم المستشفى وإمضاء النائب المشرف.
"أنا قلت هيرجع كويس تاني" قالها سعد شقيق محمد الأصغر واصفًا تلك الفترة التي كان يعدها "ذهبية" في حياة الأسرة حيث استقرت أوضاعهم بها بعض الشيء بسبب تحسن حالة أخيه مع العلاج، حتى أتى العائلة ما وصفته الأم بأنه "نذير شؤم".
طرقات متوالية على الباب أفزعت الأم "فين ابنك يا حجة عليه قضية وكان ممسوك بسيجارة". نزلت الكلمات عليها كالصاعقة، وأخذت تترجى رجال الشرطة أن يتركوه ليستكمل علاجه، لكن ذلك لم يُغير من الوضع. قُبض على محمد وحوّل للنيابة.
بين نيابة الاستئناف، ومستشفى العباسية؛ قضى الوالدان 9 أشهر يحاولان إثبات مرض ابنهما النفسي ليوضع في مصحة ويتم علاجه "قدمنا لهم كل الورق اللي يقول إنه عيان فبعتوه على العباسية قعد هناك شوية ورجع الحبس تاني"، يقولها الأب.
ترجى "محمد" والدته لتمده بالأدوية كي لا ينتكس ويعود طبيعيًا مرة أخرى، ولكنها خشيت أن يزداد الأمر سوءًا إن فعلت "خفت يعملوله قضية تعاطي ويفكروها مخدرات مش أقراص علاج."
"المحكمة لا تسلم بصحة الأوراق والشهادات المقدمة لها دون التأكد منها" هكذا أوضح الدكتور "أحمد مهران"، مدير مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية، مُشيرًا إلى أن المحكمة تعتد فقط بالأوراق التي تصدر بناءً على طلب منها دون الأخذ بأي أوراق أخرى أيا كانت المستشفى التي تصدر عنها، مُضيفًا أن المحكمة في حالة "محمد كشري" ستنتدب طبيبا وتحيله إلى لجنة ثلاثية، وقد يحتاج الأمر لبعض الوقت.
وأشار مهران إلى أن المتهم لم يخرج لحصوله على "البراءة" بل بسبب وقف تنفيذ الحكم الصادر ضده؛ لوجود موانع للعقاب والتي يعد أبرزها (المرض - الموت)، مؤكدًا أن وقف التنفيذ لا ينفي عن المتهم المسؤولية أو صفة التجريم.
بعد قرابة العامٍ، خرج "محمد" للنور مرة أخرى دون علاج، فبدأ يعتدي على الناس بالضرب والسُباب، ويهدد بضرب الفتيات المسيحيات دون أن يفهم منه أحد شيئًا، حتى أصبح أبوه يُعير به، فكبله بالـ"جنزير" وذهب به لمستشفى قصر العيني للمرة الثالثة على التوالي عام 2014 "قلت لهم خدوه أنا مش عاوزه غير لما يتعالج".
استمع الطبيب لوالد محمد، وبدت أمارات المرض النفسي على الشاب متسقة مع كلام والده، فحجز الشاب أسبوعين فوجئ الأب بعدها بمن يتصل به، ويطلب منه أن يأتي ليتسلم ابنه.
وتنص المادة 13 من قانون 71 بشأن رعاية المرض النفسي على أنه "لا يجوز إدخال أي شخص إلزاميا للعلاج بإحدى منشآت الصحة النفسية إلا بموافقة طبيب متخصص فى الطب النفسى وذلك عند وجود علامات واضحة تدل على وجود مرض نفسى شديد يتطلب علاجه دخول إحدى منشآت الصحة النفسية وذلك في حالتين، الأولى وجود احتمال تدهور شديد ووشيك للحالة النفسية. أما الثانية أن تمثل أعراض المرض النفسي تهديدا جديا ووشيكا لسلامة أو صحة أو حياة المريض أو سلامة وصحه وحياة الآخرين."
"قعدنا سنتين منعرفش عنه حاجة يروح ويجي علينا كل فين وفين" قالتها الأم باكية، بينما التقط منها الأب طرف الحديث مُعلقًا "مكنش حد يعرف له طريق والساعتين اللي كان بيجي لنا فيهم البيت كان بيقول كلام غريب ويعمل حركات أغرب". ساعاتٌ طويلة قضاها الأم والأب في البكاء على ما وصل إليه نجلهما دون أن يجدا سبيلًا لعلاجه.
"كنت هتجنن من اللي بيحصل لابني وأنا مش عارف أعمل إيه" تلك الحالة دفعت الأب لحافة الانهيار حتى عانى من الاضطرابات النفسية ليخضع هو الآخر للعلاج النفسي في قصر العيني عام 2016.
وتوضح الدكتورة "هبة فتحي"، نائب مدير مستشفى العباسية للطب النفسي، أن أي مريض فصام في حال توجهه لمستشفى قصر العيني يتم تشخيصه على الفور، وحسب درجة المرض يتم التعامل معه إما عن طريق المتابعة بالعيادة الخارجية أو الحجز بالقسم الداخلي للسيطرة على الحالات الطارئة في مدة تتراوح بين 4 إلى 6 أسابيع، وعقب انقضاء تلك المدة يكتب للمريض على الخروج بصحبة الأهل مع ضرورة الالتزام بالعلاج الدوائي.
"خايف يخرج يجيب لنفسه مصيبة تاني ويبهدلنا معاه، بقيت مطمن عليه طول ما هو في الحبس" يقولها الأب وقد اغرورقت عيناه بالدموع، فهو لا يتمنى سوى أن تتم مُحاسبة ابنه الذي يعترف هو بخطئه ولكنه يرجو أن تقوم الدولة بعلاجه قبل أن تحاسبه، بينما يتساءل في حيرة وهو يضرب كفًا بكف "مش عارف مين السبب في اللي إحنا فيه، المستشفيات اللي كانت بتخرجه ومبتعالجهوش ولا إنه مرض غصب عنه فتحول لمجرم في عين الكُل!".
"نظام المستعمرات انتهى من زمان في كل دول العالم المتقدمة" بهذه الكلمات أكد الدكتور عارف هويدات، رئيس مستشفى الطب النفسي بقصر العيني، أن نظام العلاج في الطب النفسي قد تغير كثيرًا عن ذي قبل، مُشيرًا إلى أن متوسط الفترة التي يقضيها أى مريض نفسي بالمستشفى هي "18 يومًا" يُكتب له على الخروج عقبها بعد استقرار حالته الصحية على أن يواظب على الأدوية، لأن المرض النفسي بشكل عام والفصام خاصةً هو مرض مزمن يتسبب عدم الانتظام في علاجه إلى تدهور الحالة وانتكاسها.
"سيخضع للمحاكمة أيا كانت حالته الصحية" ذلك هو المصير الذي سيواجهه "محمد كشري" بحسب مدير مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية، حيث سيتم إيفاد لجنة ثلاثية للكشف على قواه العقلية وإعداد تقرير مفصل بحالته، وفي حال ثبوت مرضه سيودع مؤسسة علاجية "مصحة نفسية" يقضي فيها فترة العقوبة، أما إذا ثبتت سلامته سيتم ترحيله إلى مؤسسة عقابية "السجن" فالهدف هو التأهيل وليس العقاب.
وفي حال إيداع المتهم أحد مستشفيات الصحة النفسية، وانتهاء فترة العقوبة دون تحسن حالته الصحية، يوضح "مهران" أن مسؤولي المستشفى سيخاطبون الجهات المختصة لاستكمال علاجه.
بنظراتٍ زائغة كان والد "محمد" ينظر ساهمًا، يُسيطر الحُزن على ملامحه، ولا تفارقه أمنيته الوحيدة التي يرددها بين الحين والآخر: "ياخدوا نور عينيا بس يعالجوه، الضنا غالي والله."
*اعتمدت هذه القصة في مصادرها على العديد من الشهادات والوثائق كالتالي: شهادات أسرة محمد خالد، أقاربه، وجيرانه، التقرير الطبي الخاص بالعلاج في مستشفى الطب النفسي والإدمان بالقصر العيني، تقرير يفيد بعلاج محمد خالد في مستشفى جمال ماضي أبو العزايم للطب النفسي، استمارة الفحص الطبي الخاصة بوزارة التضامن الاجتماعي لطالبي المعاشات، أوراق مُترخة لدخول مستشفى الطب النفسي بالقصر العيني لدى الانتكاسات المتكررة، كارت المتابعة الطبية للعلاج النفسي الخاص بوالد محمد خالد في مستشفى الطب النفسي بالقصر العيني*
فيديو قد يعجبك: