لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

حياة مدفونة في الأتربة.. حكاية معرض مصور عن أهالي وادي القمر

03:20 م الخميس 13 سبتمبر 2018

كتبت- شروق غنيم:

كان عبدالرحمن مرضي يستعد لحياة جديدة، صار الشاب على أعتاب خطوبة، جهّز "تحويشة" سنوات من عمله كسائق نقل لشراء شقة جديدة، بات أقرب لحلم اختمر داخله منذ ولد؛ الخروج من منطقته السكنية في وادي القمر بالإسكندرية، غير أنه واجه مصير هدد حياة أفراد من عائلته، جاؤه المرض ذاته، حساسية شديدة أفضت إلى تليف الرئة. توقفت تجهيزات الشاب الثلاثيني وقتها، وحياته أيضًا.

الحكاية بدأت منذ عام 1948 حين تم بناء مصنع للإسمنت، لم يلمس الأهالي الأذى ذاته وقتها، غير أنه في السنوات الأخيرة توسع المصنع في النطاق السكني، وأصبح على بُعد عشرة أمتار فقط من المكان، يلفظ المخلفات من الأتربة والعوادم في منازلهم وشوارعهم.

في معرض "تراب القمر" تراصت الصور التي التقطها المصور والمخرج الوثائقي محمد مهدي، تحكي قصة عبدالرحمن وأهالي سكان وادي القمر بغرب الإسكندرية. على مدار عامين كان يجوب المصور الشاب بكاميرته المنطقة، يرصد كيف جثمت الأتربة على صحتهم وأحلامهم.

افتتح المعرض في الأول من سبتمبر الجاري وانتهى بالأمس. يوم الافتتاح حضر الأهالي بنفسهم المعرض، سردوا قصتهم مع التلوث البيئي الذي يغمر منازلهم، بينما تحيطهم صور المشروع على الجداريات من خلفهم. قرر المصور محمد مهدي أن يهدي العائلات أي عائدات مالية ناتجة عن بيع أعماله المصورة للمشروع لشراء أجهزة طبية.

منذ اللحظة الأولى شعر مهدي أن هذا المشروع مختلف عمّا سلفه، يهوى الشاب الذي بدأ التصوير منذ سبعة أعوام، التنقيب في الثقافات المجتمعية أو حكايات من المجتمعات المدفونة كما يوصفها، لذا أسرته قصة وادي القمر، وعلاقة الأهالي بالمكان "إن دوري مش بس مصور أّد ما أوصل المجتمعات ببعض، ومن هنا جت فكرة المعرض، عشان يحضر الأهالي وصحفيين وناس مهتمة بالمشاكل البيئية".

اقترب مهدي ورأى كيف تتصدّع المنازل من اهتزازات المصنع، أو كيف تغمر الأتربة ملابس ومنازل الأهالي بمنطقة وادي القمر، يعاني المصور الشاب هو الآخر من الحساسية، لم يكن يتخيل كيف يحيا الأهالي في هذا الوضع بشكل دائم "الأوقات اللي كنت بروح فيها كنت بتعب".

من بين الأهالي الذين حضرو الافتتاح، تواجد قدري وزوجته علا، أحد أبطال مشروع مهدي المُصوَّر، يحكي الطرفان لمصراوي رغم سعادتهم بالمعرض إلا أن غُصة تتملك نفوسهم. منذ ولد قدري والمصنع يقابل منزلهم، لم يلعب في الشارع قط خوفًا من الأتربة، يقول الأب لابنة وحيدة إنه لم يعش طفولته كما ينبغي، يحزن لأن هذا الوضع استمر 49 عامًا حتى صارت ابنته شهد تواجه الأزمة نفسها.

في منزل قدري لا تُفتح النوافذ ولا يمكث أحد في البلكونة، حتى أن "نور ربنا مبنشوفهوش"، تحكي علا عن الأبواب والنوافذ الموصدة دائمًا خوفًا من تسلل الغبار إلى منزلها، لكن رغم ذلك "برضو التراب بيدخل البيت حتى لو مقفلين الشقة، من حِدته بلاقيه في الدولاب".

ضربت الشروخ جدار منزل الأسرة الصغيرة، تحايلت علا على الأمر بوضع ورق حائط محاولة تخبئته "نفسي أبص على البيت أشوفه جميل"، لكنها لم تجد حيلة حين سقط سقف إحدى غرف المنزل "البيت كله أوضتين.. قررنا نلغي الأوضة اللي وقعت لإن مفيش تكاليف نرممها، وبقينا نقعد كلنا في أوضة واحدة، يعني بنتي شهد حقها زي أي بنت يبقى ليها أوضة منفصلة، لكن الحلم البسيط ده حتى بقى صعب".

تزحف الحساسية على صدور أهالي وادي القمر، تعاني علا منها بشكل قاسي هي وزوجها قدري وابنتهم الوحيدة شهد صاحبة الأحد عشر عامًا، لا يفارق السُعال حناجرهم في فصلي الصيف والشتاء "وبقول ربنا ساترها معانا مجلناش حاجة تانية، ولو إننا لو كشفنا يمكن نتفاجئ إننا عيانين بمرض تاني، لكن الواحد مبيدورش". يقول رب الأسرة الخمسيني.

تعاقبت مجالس محلية وسُلطات مختلفة منذ نشبت أزمة المصنع وانبعثاتها الضارة في وادي القمر، بحسب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فإن الأهالي حرروا أكثر من قضية على فترات مختلفة، حيث أقامو دعوى قضائية ضد الشركة أمام محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية عام 2010 طالبوا فيها بإلغاء الترخيص الصادر للمصنع لعدم قانونيته.

وتقول المبادرة التي ساعدت الأهالي قانونيًا إنهم أقامو دعوى أخرى عام 2012 بسبب "استيلاء الشركة على 60 مترًا من الطريق العام أمام المصنع وبناء سور حديدي أمام البوابة الرئيسية للشركة"، كما كان آخرها عام 2016 حيث أقامو دعوى ضد رئيس الوزراء والشركة وآخرون بخصوص استخدام المصنع للفحم في يناير 2016، لكن ذلك لم يحرك ساكنًا من وضع المصنع أو الأذى الواقع على الأهالي.

حين يرتدي عبدالرحمن ملابس قاتمة اللون مساءً فإنها تتلوّن "بتبقى منقطة بأبيض بسبب الغبار اللي في الجو"، لا يزال يذكر يوم مرضه، تحفظ ذاكرته التاريخ بدقة 17/3/2013 "عرفت وقتها بسبب الآشعة إني عندي تليف على الرئة".

تغيرت معالم حياة الشاب الثلاثيني من وقتها، أصبح حلم تكوين أسرة سراب بالنسبة له، طيلة الخمس الأعوام الماضية توقف تمامًا عن العمل "أخويا اللي بيصرف على البيت دلوقتي"، تهدأ أحوالته الصحية فترة ثم تثور بعد ذلك "كل 6 شهور بروح المستشفى، ولحد دلوقتي لو الجو حر مبنزلش من بيتنا، بأجل أي مشوار لبليل عشان الرطوبة بتحمى عليا".

خلال عامين كان مهدي شاهدًا على ذلك، يحكي أنه وقت عمل فرن المصنع تصبح درجة الحرارة في وادي القمر لا تُطاق "بيكون في انبعاثات كتير، لإن المصنع شغال بالفحم، وطريقة هدمهم للمخلفات من خلال تطييرها في الجو، فلو إنت موجود في الشارع في الوقت ده هتشوف تراب إسود كتير على جسمك".

لم ينتهِ المصور الشاب من القضية، لا تزال أفكار كثيرة تسكن عقله تجاه قصة أهالي وادي القمر "أنا قطعت شوط كبير من خلال المشروع الحالي بس لسة في حاجات تانية أقدر أقدمها عنهم"، يتمنى أن يؤتي المعرض ثماره، أن يحدث تشابك بين المنظمات المعنية بالبيئة والأهالي لإيجاد حلًا "لإن صعب إن الأهالي يفضلوا يتكلمو ومحدش يسمع لهم أو يساعدهم" يقول مهدي.

أما الأهالي فضجروا من حياتهم المهددة بشكل دائم "يا المصنع يتنقل يا إما ناخد فلوس وننقل إحنا من المكان"، فيما يسكن الحزن قلب قدري وزوجته علا، بعد أن صار منزلهم آيل للسقوط "أنا اتظلمت ولغاية دلوقتي مخدتش حقي، ودلوقتي بنتي اللي طالعة مش عارف اعملها حاجة ومش عاوزها تشوف المصير".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان