بطل في الغربة.. "موسى" نال الجنسية اليونانية بعد إنقاذ 73 مواطنًا و4 كلاب (حوار)
حوار- شروق غنيم:
30 عامًا قضاها محمود موسى في اليونان، أتاها صغيرًا، ولم يكن قد أكمل عامه السادس عشر بعد.. أغوته بحارها فعمل صيادًا، ومرت الأيام برتابة، فلا أحداث كبرى أو تغييراتِ جذريةَ، حتى الثالث والعشرين من يوليو الماضي.. أخذت حياته شكلًا آخر، كما تُبدّل الرياح من حال الأمواج، كان لهذا اليوم مفعولًا قوياً في مسيرة الصياد المصري.
بفضل ذاك اليوم، مَنح الرئيس اليوناني في احتفالية أقامها- الأربعاء الماضي- صيادين مصريين وآخر ألبانيًا- الجنسية اليونانية، لأنهم أبدوا "تضامنًا وإنسانية" في يوليو من العام الماضي، حين أنقذوا عشرات الأشخاص من حريق هائل اندلع في غابات منطقة أتيكا القريبة من أثينا، لم تشهد اليونان مثله منذ عشرة أعوام. أبلغهم أنهم الآن "مواطنون أوروبيون أيضًا، ويمكنهم أن يعلموا كل شركائنا الذين لا يعرفون القيم الأوروبية، بأن يفعلوا ما ينبغي عليهم فعله".
بدا يوم الاثنين الثالث والعشرين من يوليو العام الماضي عادياً، عقب بزوغ الفجر ذهب الصياد المصري إلى عمله في ميناء قرية نيا ماكري حيث يقطن، ومع التاسعة صباحًا انتهى، لكن قبل أن يعود إلى منزله أخبره اليوناني مالك المركب الذي يعمل به بضرورة حضور عيد ميلاد الأخير في الثامنة مساءً "رُحت قضيت يومي، والساعة 6 لقيته بيتصل، استغربت لأننا كنا في الصيف والنهار طويل والشمس بتغطس 8 ونص بالليل".
غيرت مجرى المكالمة من أجواء الاحتفالات إلى أخرى أكثر رعبًا، كانت نبرة صوت مالك المركب مهتزّة ومليئة بالخوف "قالي إنه في حد كلمه يطلب منه ينزل يدور على مراته عشان خايف تكون غرقت"، طلب اليوناني من الصياد المصري أن يذهب سريعًا إلى الميناء لتفقد الأمر "لإني أقرب من المكان منه وهو هيحصلني".
حين وصل وجد رجلا يونانيا يحكي عن فقدان زوجته كاترينا "كانت بتقضي وقت على البحر وبقالها ساعتين مش لاقيها"، كانت المحادثة أول خيوط القدر، كأنه مُختار لتلك المهمة، شرع هو ومالك المركب اليوناني في البحر بحثًا عن السيدة المفقودة "بقينا ننده في البحر يا كاترينا بصوت عالي" ظلا على هذا الوضع حتى رأيا سحابة دخان كثيفة "لدرجة أنها مغطية على البحر، كان ده في نواحي بلد اسمها ماتي".
لم يكن المشهد متوقعًا بالنسبة للثنائي المصري واليوناني "محدش كان يعرف عن الحريق حاجة لسه، بس البلد كانت زي جمرة النار"، الوقت ضيق، كلما اقترب المركب تجاه "ماتي" تحتبس الأنفاس، ارتبك موسى غير أنه شعر أنه لا تراجع.
حينها شهدت اليونان حرائق انتشرت في غابات شبه جزيرة أتيكا، لكن قوة الرياح جعلت الحريق يمتد إلى قرية ماتي، التي تقع على بعد 29 كيلومترًا شرقي العاصمة أثينا وتعتبر منتجعًا سياحيًا لليونانيين. حاصرت النيران ابناء القرية، التهمت المنازل والسيارات، لم يجد الأهالي مفرًا سوى البحر، ألقوا بأنفسهم في المياه هربًا من جحيم اللهب، منهم من يُتقن السباحة وآخرين لا يجيدون الأمر، لكن المياه كانت فرصتهم الأخيرة للنجاة، وفي تلك اللحظة كان الصياد المصري يدنو بقاربه من المكان.
بحذر أخذ الصياد الأربعيني يراقب الوضع، بينما أقَبل صاحب المركب اليوناني على الانهيار "أعصابه تعبت من الموقف اللي إحنا فيه بس كان لازم نتصرف"، أخبر موسى الأخير أن عليهم إنقاذ سكان القرية، لفعل ذلك يتعين عليهم الاقتراب أكثر "ويا صابت يا خابت"، لكنه علم أنه لن يستطيع فعل ذلك وحده، أخرج موسى هاتفه وأذاع بثًا حياً لما يجري "وبدأ يتشيّر كتير، وقتها أصحاب مراكب تانية اتحركوا عشان ييجولنا، وكمان صحفيين".
توّلى صاحب المركب زمام القيادة، مكث داخل الكابينة ممسكًا بالدومان (الدّفة) "وأنا ثبت إيدي على درابزين المركب عشان البحر كان عالي بسبب الرياح، واضطريت أطلّع الناس بإيد واحدة". يطرق موسى متفكرًا فيما حدث "معرفش لحد دلوقتي إزاي عرفت أعمل ده، أشّد نفر ورا نفر بإيد واحدة بس كل اللي قولته لنفسي اعتبر بتعمل الحاجة اللي تعرفها، إنك بتصطاد".
أدرك لُطف الله "موسى" وقاربه، أخرج المصري واحدًا تلو الآخر حتى وصلوا إلى 23 شخصًا "معرفش إزاي رغم إن المركب صغير"، فيما لم يعلم كيف أتته القوة التي مكنته من حمل الضحايا بيد واحدة "لدرجة ست كبيرة وأنا بشدها قالت لي براحة إيدي هتتخلع".
كان المشهد مؤثرًا، أنفاس متهدجة وأعين حمراء كالنيران المشتعلة، غير أن للأطفال الأثر الأكبر في نفس موسى "بقوا يتعلقوا في رقبتي ويعيطوا ويبوسوا فيا"، في تلك اللحظات كانت المراكب الأخرى وصلت ومعها البحرية اليونانية "ودينا الـ23 شخص للمينا، وبقينا نروح ونيجي لحد ما طلعنا 50 واحد تاني".
انتشل موسى وصديقه اليوناني وحدهم قرابة الـ70 شخصًا "و4 كلاب، أي روح بالنسبة لنا كانت مهمة". كان الحادث صعبًا، انتهى وخمدت النيران لكنها حصدت أرواح 90 شخصًا، اقترب الصياد المصري من الموت، شّم رائحته ورأى الرعب في عيون الناجين، لكن ما جرى فيما بعد محا قليلًا مما حدث.
تصدّر موسى والصياد المصري عماد الخميسي والألباني جاك عناوين الصحف "من يوم وليلة بقينا أبطال"، استضافتهم القنوات اليونانية، بعد أسبوعين ذهب الرئيس اليوناني بنفسه إليهم ليشكرهم ويعدهم بالحصول على جنسية بلاده.
بين تلك الأحداث الكبيرة، ثمة تفاصيل كان لها أثرًا عميقًا لدى الصياد المصري، اليوم التالي للحادث وجد رسالة شكر على الفيسبوك "لقيت واحد بيقولي أنا أبو أول بنت إنت طلعتها من الميّة"، بينما وجد الامتنان في أعين ابناء بلدته نيا ماكري "لما أدخل كافيتريا عشان أشرب قهوة ميرضوش ياخدو مني فلوس، وبعد كام أسبوع من الحادثة في سواق تاكسي رفض ياخد الأجرة".
في بداية العام الجديد استلم الصياد المصري دعوة للاحتفال برأس السنة رفقة الرئيس اليوناني، تهللت أسارير موسى مجددًا، شعر أنه أخيرًا سيحصل على الجنسية "لأنه كان عدى وقت كبير على الحادثة من غير ما حد يقولنا حاجة"، وفي الثاني من يناير الماضي نالها "الرئيس كان بيعاملنا كويس جدًا، حتى بينادينا بكلمة يونانية "بلدياتي" بعدها".
في الاحتفالية؛ كان مسموحًا لكل فرد من الثلاثة صيادين إحضار رفقاء معهم، ذهب المصري عماد الخميسي مع أبنائه وزوجته، الألباني وحيدًا "وأنا خدت صديق يوناني معايا"، غير أن في قلب موسى استقرت أمنية أخرى، تمنى وجود والدته في الحياة لحظتها "كنت هبعتلها تيجي تشوف ابنها وهو بيتكرم والناس بتقدره إزاي"، غير أنه وجد العزاء في ونس أشقائه "بقوا يدعولي ويهللوا للي حصل".
أكمل موسى ثلاثين عامًا في الغربة "مكنش ده في دماغي بس السنين جابت بعضها"، يتذكر حين جاء اليونان لأول مرة عام 1989 "ابن عمي كان بيشتغل على مركب صيد هنا، وأي حد في سني كان بيشوف اللي بيسافر دولة أوروبية إنه في الجنة حتى لو جبلنا منها قرطاس لِب بنعتبرها في البلد حاجة كبيرة" غير أن الوضع كان مغايرًا "الحياة مش وردي كدة، لكن بعد اللي حصل أظن الواحد نفسيته بقت أحسن".
يُخطط ابن مدينة دمياط إلى حياة جديدة بعد الجنسية اليونانية، يشعر أنها ستفتح له أبوابًا كانت موصدة، أولها السفر إلى أي دولة أوروبية "عاوز أبدأ حياة جديدة حتى بفكر أشتغل في التجارة وأسيب الصيد"، لكنه لا ينسى أن البحر سيظل له مكانة خاصة في قلبه "عشت معاه تلت أربع عمري، وكان سبب الخير اللي جالي".
فيديو قد يعجبك: