مكتبة مجانية في منزلها.. هند تجمع أطفال سوهاج لقراءة الكتب
كتب- عبدالله عويس:
تبحث أعينهم عن كتب بعينها، يختار أحدهم واحدا أعجبه غلافه، ويختار آخر ما راق له عنوانه، وتطلب أخرى من مشرفة المكتبة أن تختار لها كتابا، ثم يتخذ كل واحد منهم مكانه للقراءة.. مشهد ربما يكون اعتياديا داخل أي مكتبة، غير أنها هذه المرة كانت داخل منزل، قررت سيدته أن تفتح أبوابه لأطفال بقرية بني واصل، التابعة لمركز «ساقلته» بمحافظة سوهاج، ليكون بديلا لهم عن مكتبات لم يروها، وموفرا لكتب لم تخدمهم الظروف أن يطالعوها.
في طفولتها، تفتحت عينا هند عبد السلام على مكتبة داخل منزلها بالإسكندرية، قرأت بنهم كل ما فيها، ثم صارت لها بعد ذلك كتبها الخاصة، وشيئا فشيئا تحولت إلى «دودة قراية» كما تصف نفسها، ولم تنقطع قراءتها تحت أي ظرف، وحين انتقلت إلى محافظة سوهاج منذ 4 سنوات بعد الزواج، أزعجها أن ترى أطفالا لا يقرأون، فلا مكتبات هناك ولا اهتمام ملحوظ بتوفير كتب للأطفال، في قرية تعد ضمن 100 قرية هي الأكثر فقرا في مصر، وفق ما أعلنه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقررت هند أن تجمع كل أطفال سكنها للقراءة عندها، في مكتبتها المؤلفة من 500 كتاب: «بدأت بالأطفال اللي عايشين في نفس البيت، وهما 6 أطفال وكانوا مبسوطين جدا، وبعد كده الفكرة كبرت».
حين رأت هند السعادة التي غمرت الأطفال بالكتب، شجعها ذلك على توسيع فكرتها، فأخبرت أطفال بيتها بأن لهم الحق في دعوة أصدقائهم كذلك إلى المنزل، ويستطيعون قراءة ما يريدون، خلال يوم الجمعة، الذي تستضيفهم فيه: «ابتدى أطفال تانية تيجي، وأسرهم بتتواصل معايا، وبيفضلوا عندي فترة يقروا ويتبسطوا ويروحوا» لكن منزل هند لن يتسع لأطفال القرية كلها، البالغ عدد سكانها 3975 مواطنا، وبالتالي لن يستفيد العدد الأكبر من التجربة، وتبلغ نسبة الفقر فيها 77.83%، بينما تتصدر محافظة سوهاج التي تتبعها القرية، المرتبة الثانية للمحافظات الأكثر فقرا في مصر بنسبة تصل إلى 59.6 %، لكنها تأتي في المرتبة الأولى من حيث تعداد القرى الأكثر فقرا، إذ تضم 236 قرية من أكثر قرى مصر فقرا.
3 ساعات من كل جمعة، للأطفال أن يقرأوا فيها ما يرغبون، بعض هذا الوقت يخصص لمناقشة كتاب بعينه تحدده هند، ويذهب بعض الوقت في مشاهدة بعض الفيديوهات لتطوير لغتهم الإنجليزية، أو للتدريب على صناعة أشياء يدوية، «أنا لما كنت في الإسكندرية كان مكتبات وخدمات وأقدر أنزل أماكن اقرأ فيها زي ما أحب، هنا لا مفيش الكلام ده، فقلت أجرب أساعد».
داخل المنزل عدد من القواعد: لا صخب ولا شقاوة، الالتزام بالقراءة والهدوء سيدا الموقف، والمشاريب والحلوى مجانًا، وهناك متسع للجميع للجلوس داخل غرفة المكتبة، ويحدث نقاش وأسئلة عامة وجوائز، على بساطتها إلا أن لها مردودا إيجابيا على الأطفال، وحين كانت هند تخشى زيادة العدد، شجعها زوجها على توسيع الفكرة وقدم لها الدعم، وتنوي شراء عدد من الكراسي في حال زيادة العدد أكثر من ذلك: «ولما بيكونوا قاعدين بيقروا أنا بعمل حاجات البيت، أو بشوف ورايا إيه، لإن عندي طفلين، لكن مشرفة عليهم طول الوقت».
تعلمت الشابة خريجة كلية الحقوق والتي تدرس الآن علم النفس بجامعة سوهاج، صناعة بعض المواد يدويا، وهو ما تحاول تعليمه للأطفال الذين يحضرون إليها، ورغم أن فكرتها تلك لم تتجاوز بضعة أشهر بعد إلا أنها تتمنى لها نجاحا أكبر متمثلا في زوار أكثر للمكتبة: «لإنه مينفعش أطفال ميقروش كتب، ولا يبقى ليهم احتكاك بيها، اللي بنعمله معاهم وهما صغيرين هيفضل ملازمهم طول العمر». ووفقا لبحث الدخل والإنفاق الذي أعده الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن متوسط إنفاق الأسرة المصرية الكلي، يبلغ 51 ألفا و399 جنيها، يتم إنفاقها على الطعام والشراب ثم المسكن ومستلزماته، فالخدمات والرعاية الصحية، ثم التدخين، وكانت أقل نسبة إنفاق للأسرة المصرية، على الثقافة والترفيه بنسبة 2.1%.
زاد عدد الأطفال الذين يحضرون إلى منزل هند إلى 35 في غضون أسابيع قليلة، يدفعهم الحماس وحب المعرفة والإطلاع، وتدفعهم أمهاتهم كذلك إلى الذهاب كل جمعة، وكان ذلك بالنسبة إلى هند دافعا أكبر للبحث عن مصادر كتب أخرى، حتى أسست صفحة على موقع التواصل الاجتماعي، فيس بوك، وتواصل معها البعض طلبا في إمداد مكتبتها بكتب أخرى، تنتظر وصولها إلى المنزل. كانت واحدة من الذين تواصلوا مع هند سيدة من أسيوط كان بحوزتها عشرات الكتب الخاصة بأطفالها الذين كبروا ولم يعودوا في حاجة إليها، فهي تناسب الأعمار الصغيرة فحسب: «وجابتلي كراتين مليانة كتب، ضفتها للمكتبة، وحسيت بإن ده فيه كل معاني المشاركة المجتمعية لفعل الخير» ووصلت أعداد الكتب في مكتبة هند الصغيرة إلى نحو 1000 كتاب، بينما يتواصل معها آخرون لإرسال كتب أخرى، وتتمنى الشابة مزيدا من تلك الكتب، لتكون هناك خيارات عدة أمام زوار مكتبتها من الصغار.
شكلت هند مجموعة من الأطفال الصغار، ممن لا يستطيعون القراءة والكتابة، وتحاول تعليمهم بطرق شتى، واحدة من هذه الطرق تحفيظهم القرآن الكريم، فمتى أتقنوا كتابة كلماته فإن من السهل عليهم قراءة وكتابة أي نص آخر، وفي القريب ستجلب لهم معلما خاصا بالقرآن الكريم لمن شاء منهم إتمام الحفظ بعد ذلك، على أن يكون ملما بقواعد التلاوة ومشهود له بحسن الخلق والتعليم بشكل حسن مقبول لا ينفر الأطفال منه: «وجنب ده أنا بقرأ ليهم قصص عشان ده مفيد ليهم، ولما يتعلموا قراءة وكتابة هيقدروا يقروا بنفسهم».
إضافة إلى الكتب العامة، وتوفيرها بالمجان، كانت هند تذاكر لإحدى قريباتها مادة العلوم، ولما استحسنت الصغيرة شرح هند، دعت صديقاتها للاستماع إلى شرحها، فلم تعترض هند وصارت تقدم لهم مراجعات في تلك المادة، على أن تحاول دراسة بقية المواد لمذاكرتها للصغار، ففي المقام الأول تهتم الشابة بتعليم الصغار موقنة أن ذلك له كل التأثير الإيجابي في مستقبل حياتهم: «أي حاجة ممكن يستفادوا منها أنا هعملها ليهم، وكله مجانا».
أسماء وآيات وفرحة وولاء وأحمد ويوسف ومؤمن وياسمين وعمر وآية ومنة ومحمد.. بعض الأطفال الذين يحضرون أسبوعيا إلى منزل هند، وسعادتهم بالتجربة كبيرة. طلبت منهم هند ذات مرة كتابة شعورهم الشخصي بالتجربة فدونت أسماء «الحاجة اللي بنعملها دي كويسة، وبنستفاد منها ونتمنى كل شخص يعمل زي اللي بنعمله ويخلي كل الناس اللي حواليه يتعلموا».
وكتبت ولاء: «رأيي أننا نستمتع، وكل كتاب بنقراه بنستفاد منه، و ياريت كل الناس تعمل كده». بينما كتبت آية: «لو كل الناس عندها مكتبات تفتحها لكل الأطفال هيبقى عندها معلومات كتير، وهنستفاد منها».
وعبرت آية عن رأيها بعبارات: «نفهم ما تقوله لنا، سواء معلومات سهلة أو صعبة، وتسألنا في معلومات عامة حتى نكون قادرين على الجواب». وكانت تلك الكلمات دافعا لهند لاستكمال ما بدأت.
يتواصل عدد من أمهات زوار مكتبة هند، يخبرنها بعظم ما تفعل، وكيف أثر ذلك في سلوك أولادهن، وانتظارهن يوم الجمعة تحديدا ليذهبوا إليها عائدين وفي رؤوسهم علم ومعرفة ونور، سيضيء لهم على مدار سنوات قادمة مستقبلهم، وتتلقى هند تلك المكالمات وذلك التواصل بمحبة بالغة، وتتمنى أن تصير فكرتها أكبر مما هي عليه الآن، وأن تنتشر كذلك، فمع كل مكتبة جديدة مجانية، أطفال سيحبون القراءة، ومع الوقت وكبر السن سيبحثون بأنفسهم عن كتب بعينها، وسينشرون تلك الثقافة لأجيال أخرى قادمة، مؤمنة بأن التغيير دوما للأفضل يبدأ من القراءة ومن المبادرات الخاصة بها.
فيديو قد يعجبك: