"محابيس" باص المدرسة بسبب المطر.. حكاية عودة الأطفال لمنازلهم في 6 ساعات
كتبت- شروق غنيم:
تصوير- علاء أحمد:
طيلة ست ساعات، تعلقت هبة علي بالأمل أن تعود ابنتها إلى المنزل بسلام، من الثالثة عصرًا وقد استقلت حافلة المدرسة، لكن الساعة وصلت للتاسعة مساء وابنتها لم تصل. خلال نفس المدة حاولت الطفلة مريم ورفاقها التمسك، الأهالي ينقبون عن أي وسيلة للوصول لذويهم، أحدهم استعار الدراجة النارية من صديقه، وأخرى سارت على الأقدام وسط برك المياه لعدد من الكيلوات، الأطفال يفكرون في حل معضلة دخول دورات المياه، والمارة يسهمون في إنقاذهم من جحيم الجوع والعطش.
مع كل اتصال من هبة لابنتها، مساء أمس الثلاثاء، كانت الصغيرة تطرد عن نفسها الشعور بالقلق فتخبرها بعفوية "ماما متعيطيش أنا كويسة"، لكن الأم كانت تعلم جيدًا، أن الوضع لم يكن بخير على الإطلاق.
داخل حافلة المدرسة كانت الأجواء محتقنة، الأمطار في الخارج والأطفال خنقهم شعور "الحبسة" والاستمرار في مكان مغلق لمدة ساعات طوال، وآخرون لم يقدروا على كبح شعورهم الفطري بالخوف فانفتحوا في البكاء والصراخ، آخرون انقسموا بين من يشعر بخواء الأمعاء وامتلاء المثانة، كان وضع الأطفال داخل حافلة إحدى مدارس التجمع الخامس.
في الصباح أعدّت هبة علي نفسها لليوم، توقعات الطقس تقول إنه يوم ممطر، فمنحت ابنتها بعض الوصايا خوفًا من تكرار ما يحدث كل عام "مدرستها في التجمع الخامس فكل مرة يحصل مطر تتأخر شوية بس بحد أقصى ساعتين"، أعادت الأم النصائح على ابنتها صاحبة الأحد عشر عامًا "زي إنها تدخل الحمام قبل ما تركب الباص"، ومنحتها أموالًا إضافية في حالة هاجمها الجوع، لكن أي من تلك النصائح لم تفلح.
في خط سيره المعتاد تحركت الحافلة من التجمع الخامس في الثالثة عصرًا، وبعد ساعتين ونصف الساعة توقفت في شارع خضر التوني بمدينة نصر، في تلك النقطة تحديدًا، تفصل مدة زمنية قدرها ربع الساعة فقط بين الطفلة مريم ومنزلها في كوبري القبة، لكن الصغار ظلوا عالقين في تلك المنطقة لساعات امتدت بالنسبة لبعضهم لسبع وأكثر، في البداية ابتهج الأطفال بسقوط الأمطار، الأيادي تُطل خارج الشباك للمسها، لكن انقلب الحال حينما امتلأت الشوارع بمياه الأمطار وباتت عائقًا أمام تحرك أي عربة في المنطقة.
أمام الحافلة تراصت مئات العربات الأخرى، لا مخرج من هُنا، أخبرتهم مشرفة المدرسة "المياه قدام عالية جدًا ومحدش عارف يتحرك"، في الحافلة تتفاوت أعمار الطلاب "اللي موجودين اللي خط سيرهم الطريق ده، من كي جي لحد ابتدائي"، الأعمار الأصغر لم يستطعوا صبرًا "ابتدوا يجوعوا ويبقوا عاوزين يدخلوا الحمام"، تحكي الأم التي تابعت رفقة باقي أولياء الأمور أحوال أبنائهم عبر الهاتف والمجموعات المشتركة على حسابات التواصل الاجتماعي.
كان الموقف مُربكًا بالنسبة للمشرفة والمدرس المرافق بالحافلة، فكر الأخير في النزول والتجول حول المنطقة حتى يجد مطعمًا أو محلًا يبيع مأكولات "جاب من كشك قريب كيك وبسكوت ووزع على العيال"، فيما بدأت اقتراحات الأهالي بضرورة لحاق الصغار "كلمت المشرفة قولتلها تاخد الأطفال في أي بيت قريب تستأذنهم يستخدموا الحمام"، لكنها خشيت من الرفض فما كان منها سوى البحث عن مسجد قريب "بقت تاخد 4 أطفال وترجع تاخد غيرهم، لكن للأسف كان في أطفال مش قادرين يستحملوا فعملوا حمام على نفسهم في الباص".
في تلك الساعات رأى الأطفال وجوهًا أخرى لمعلمهم والمشرفة "متعودين عليهم بيزعقوا لهم عشان ميعملوش هيصة في الباص، لكن إمبارح وجه الأمومة والأبوة هو اللي ظهر، كانوا حنينين على الأطفال وبيحاولوا يهونوا الوقت"، كذلك المارة كان لهم دور، تحكي الصغيرة لوالدتها "ماما في ناس من الشارع منعرفهمش جابوا لنا ميه وعصير". كانت تلك التصرفات تمنح بعض السكينة لقلب الأم.
حانت الساعة التاسعة مساء، قلوب الأمهات تتقلب على جمر القلق، من السادسة والنصف صباحًا خرج أبناؤهن وما زلوا في الشارع لا يعرفون مصير عودتهم "بدأنا نفكر في حلول، في أمهات قريبة من الأتويبس عرضوا علينا يستضيفوا عيالنا بس إحنا مقدرناش كنا عاوزين نطمن عليهم بأي شكل".
مع كل ساعة جديدة تمر على أطفال الحافلة، تزداد درجات الجنون والتعب، أحد الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، تفتت قلب الأم على الصغير، فيما هو لم ينقطع بكاؤه "اتفقت مع 3 أمهات تانية إنهم يتقابلوا في نقطة وياخدوها مشي للأتوبيس عشان يخرجوهم"، وهو ما حدث.
فيما ذهبت أم وحدها مشيًا على الأقدام حتى الحافلة، أخذت ابنتها سريعًا، حملت الصغيرة التي هدها التعب على كتفها "وبقت تمشي في حين المياه واصلة لركبها والبنت شايلاها"، كانت تلك المواقف والحكايات التي تنهمر على "جروبات الأمهات" تزيد من قلق هبة "كلمت جوزي وقولتله مش هينفع كده لازم نتصرف".
هاتف الأب صديقه الذي يمتلك دراجة نارية "وراحوا للبنت، قلبي مهديش إلا لما كلمني وقالي مريم معايا خلاص"، حاولت هبة أن تهوّن التجربة على صغيرتها "بقيت أقولها الأكل اللي بتجبيه جاهز، وأنا كلمتلك المدرسين عشان يلغوا كويزات بكرة، افرحي مفيش مذاكرة النهاردة"، فيما كانت مشاعرها تلتهب مع كل فيديو جديد تراه على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك "بقيت أتجاوز أي فيديو أو أخبار عن بنت ماتت صعقًا بالكهرباء عشان ما أتجننش".
قرابة العاشرة مساء؛ أخيرًا وصلت مريم إلى المنزل، كذلك بعض الأطفال الذين تحرك أولياء أمورهم لإنقاذهم، فيما ظلت الحافلة عالقة لما بعد ذلك ببعض الطلاب، وقبل أن تعلن رئاسة الوزراء تعطيل الدراسة بالمدارس والجامعات اليوم لسوء الأحوال الجوية، كان الأهالي قد اتخذوا القرار "مش عاوزين نعيش لحظات الرعب دي على عيالنا تاني".
فيديو قد يعجبك: