خاص- "فتيات النهار".. عاملات جنس بكينيا تركن "الدعارة" لحياة أفضل
كتب- محمد مهدي:
رسوم- سحر عيسى:
حين تستيقظ جوليا -اسم مستعار- داخل منزلها الصغير بكينيا، تتطلع الفتاة العشرينية إلى ابنتها الرضيعة، تتأمل وجهها جيدًا، تمسح على رأس الطفلة فتضحك الأخيرة، تلك سعادة لم تشعر بها منذ سنوات، إذ اعتادت على الغياب عن البيت لساعات طويلة منشغلة بعملها كفتاة ليل في الملاهي الليلية داخل المدينة التي تعيش بها -جلجل- ضمن أكثر من 15 ألف فتاة يعملن في الدعارة بكينيا، "وفق اليونيسيف".. كانت حياة مُرة تخلصت منها أخيرًا: "كنت في يومٍ من الأيام عاملة جنس، وقد بدأ كل شيء بعد موت والدتي"، تقولها جوليا لـ"مصراوي".
6 معلومات عن "جلجل" الكينية
الصدمة الأولى
دون أب تربت "جوليا" في بيت فقير وسط 4 أشقاء، ماتت الأم التي تعمل في بيع الخمر وتركتهم لدى الجدة: "تملكتني الحيرة؛ لأن جدتي لن تستطيع أن ترعانا"، تركت المدرسة في الصف الثامن وهي لا تزال ابنة الـ12 عامًا، اضطرت إلى استكمال مشوار الأم في المهنة ذاتها، وسرعان ما تلقت العديد من الصدمات: "كان الزبائن ينادوننا ليملسوا أثداءنا"، خضعت لهم، وافقت لحاجتها الشديدة للمال، لم تكن قادرة على إغضابهم: "كان ينبغي علينا أن نواصل حياتنا، وأن أعول أختي وجدتي".
كان الفقر الذي طال نحو 36.1 % من الكينيين -وفق المكتب الوطني الكيني للإحصائيات-هو عدو "جوليا" الأول الذي تحاول محاربته دون جدوى، قبل أن يزداد الوضع سوءًا بمهاجمة قوات الشرطة لهم ذات ليلة: "بسبب عدم قانونية بيع الخمر"، هربت رفقة شقيقتها، قضت أيامًا عديدة في قلق ويأس، فكرت في العودة مرة أخرى لتجارة الخمر لكن السجن كان يلوح أمام أعينها، حتى عرضت عليها صديقة أن تعمل رفقتها في ملهى ليلي في "جلجل".
رفضت "جوليا" العَرض، حاولت البحث عن عمل دون جدوى، تعرفت على الجوع، تجرعت مرارة الفَقر، ارتجف قلبها بينما تتابع الشحوب يلتهم وجه شقيقتها، لم يكن لديها باب تطرقه سوى اقتراح صديقتها، دفعها القدر لخوض التجربة المريرة، ذهبت إلى الملهى الليلي بخطوات مرتبكة وعينين ذائغتين، حاولت التماسك وسط الزحام والصخب والإضاءة الملونة في المكان، اقترب منها رجل ضخم الجثة، همس في أذنيها: "طَلب مني الجنس مقابل المال، لم أكن أستطيع الرفض"، مضت خلفه كطفلة تائهة عن ذويها، جذبها إلى غرفة مُظلمة، دلفت إليها ومن يومها صارت عاملة جنس: "كنت أشعر بالإهانة ولم أعرف ما العمل؟!.. أردتُ فقط منح أختي السعادة بدلًا من الشقاء".
كيف النجاة؟ مقطع صوتي لجوليا (مدبلج)
عاشت "ماكينا" المأساة ذاتها، أحبت منذ صغرها الدراسة، حلمت بأن تُصبح ممرضة لمداواة آلام الناس، لكن أسرتها المكونة من 7 أفراد لم تقوَ على المصاريف اللازمة، كان الكثير من الفتيات يلجأن للعمل في الدعارة، لا يحتاج إلى شهادة أو حِرفة؛ لذلك اندفعت الطفلة للطريق المعتم: "مارست الجنس؛ لتوفير نفقاتي حتى تخرجت في 2008"، لم تحصل على وظيفة جيدة، فعادت إلى حياة الليل "الخيار الأمثل؛ لأنها وظيفة لا تستوجب رأس مال أو أوراقًا حكومية".
مرة واحدة لا تكفي
طوال ساعات النهارة تنام "ماكينا" وفي المساء تخرج للبحث عن زبائنها، تضطر مثل الأخريات لممارسة الجنس لأكثر من مرة يوميًا للحصول على مبلغ كافٍ إذ تتكلف المرة الواحدة 100 شلن كيني- ما يعادل دولارًا أمريكيًا، تعرضت للعنف في أوقات عديدة، كان البعض يرفض الدفع بعد الانتهاء من فعلته، كثيرًا ما شعرت بالمهانة والرغبة في إنهاء تلك الحياة غير العادلة من وجهة نظرها.
الأزمة الكُبرى لـ"ماكينا" هي عزوف الرجال عن استخدام وسائل الوقاية اللازمة "لأنها ستؤثر على متعتهم وبالتالي سيقل عدد الزبائن"، يجعلها ذلك عُرضة للإصابة بالإيدز الذي ينتشر بين 1.5 مليون مواطن كيني، تشير التقديرات إلى أن انتشار المرض يرجع لممارسة الجنس دون الاهتمام بوسائل الحماية والوقاية، جحيم مستعر ازدادت وطأته حينما اكتشفت أنها تحمل داخلها جنينًا: "لم أكن أعرف من هو والد الطفلة؟!".
لم تتوقف "ماكينا" رغم آلام الحمل، استمرت في الخروج ليلًا للعمل، حتى اقترب موعد الولادة، أنجبت طفلة جميلة، بقيت رفقتها لأشهر قليلة ثم عادت إلى تجارة الجنس من جديد: "لا بد من استكمال عملي لكي أرعاها"، في تلك الفترة كان عليها مواجهة نظرة العالم لها، ابتعاد أسرتها رفضهم التواصل معها أو استضافتها في البيت، الجميع في شوارع المدينة لا يتقبلها، صارت منتهكة طوال الوقت: "كنت وزميلاتي مكروهات من المجتمع بسبب ما نفعله، ويطلقُون علينا أبشع الألقاب"، صارت إنسانة محطمة، تفعل شيئًا لا تطيقه، وتسير في مدينة تلفظها دائمًا.
5 أرقام عن "الدعارة" في كينيا (إنفوجراف)
رؤية ضبابية
كانت الرؤية ضبابية، شعرت بذلك الفتاة التونسية "نور المناصرية"- صاحبة مبادرة (نسرية لمساندة النساء في كينيا)، حينما استمعت لحكاياتهن من السيدة الستينية "ماما جين" صاحبة دار للأيتام بجلجل، ملاك الرحمة لفتيات المدينة، التي تستقبل الجميع في بيتها، تفتح لهن قلبها، تنصت إليهن دون وصم مجتمعي أو التقليل من شأنهن، تأثرت نور كثيرًا ورغبت في مدن العون لهن: "أردت دائمًا أن أصنع شيئًا للنساء في كينيا"، طلبت على الفور لقاء الفتيات، لم يكن لدى الفتاة التي تسافر كينيا لمساعدة الأطفال الأيتام خطة واضحة لكنها أرادت المحاولة.
رجفة سرت في قلب "نور" حين أجرت مقابلة مع "جوليا" بدا على الفتاة الكينية انعدام الثقة نظرًا للمعاملة السيئة التي اعتادت عليها، ترتدي شعرًا مستعارًا وتضع الكثير من المساحيق على وجهها لطمس هويتها الحقيقية "رأيتها تتكلم بخجل شديد وتقول دائمًا إنها ليست جميلة ولا تشعر بأي وجود لها في الحياة"، حاولت الفتاة التونسية منحها الدعم اللازم، تهدئتها ومنعها عن جلد الذات المتواصل "رغبت في أن ترى الحياة بطريقة مختلفة وأن تكتشف ما بداخلها أكثر"،ـ يوم جيد انتهى بوعد بلقاء آخر. لم تنمْ "نور" ليلتها وفي الصباح كان لديها حل ناقشته مع ماما جين.
جلسات "نور"
بقيت "نور" لأسابيع في كينيا وضعت خطة لدعم الفتيات نفسيًا -وفق حديثها لمصراوي- التقت بـ"جوليا"، ثم "ماكينا"، ومع الوقت توافد عليها المزيد من النساء اللائي يعملن في الدعارة، كانت النقاشات خلال لقائهن تدور حول كُل شيء، تُركت المساحة لهن من أجل إخراج ما في جعبتهن من مشاعر ومخاوف وحكايات سيئة، فيما تستقبل الفتاة التونسية ومعها "مام جين" كل ذلك بصدر رحب ومحاولات للتخفيف عن معاناة عاملات الجنس: "كنا نريد إعادتهن للحياة ولم نُفكر في مسألة تركهن للدعارة، هذا لم يكن يعنينا في ذلك الوقت"، كما تؤكد "ماما جين" لـ"مصراوي".
بعد تحولهن إلى أسرة كبيرة، وقع الاختيار على 10 فتيات لخوض برنامج تأهيلي على مدار 3 أشهر "أحيانًا نتحدث بصورة مباشرة عن الوصم المجتمعي لهن وأحيانا نظرتهن الخاطئة عن الرجال؛ بأن الجميع إما مغتصبون، أو طامعون في أجسادهن، أو تعليمهن صنعة جديدة" وفرت لهن الفتاة التونسية أدوات بسيطة من الأقمشة والخرز يمكن من خلالها عمل منتجات يدوية أو أدوات تجميل: "حتى يُصبح لديهن عمل بديل عن الدعارة إذا رغبن في تركها"، انخرطت "جوليا" رفقة "ماكينا" والأخريات في التجربة بسعادة بالغة.
رويدًا رويدًا شعرت "جوليا" وباقي الفتيات بالتعافي: "لقد غيرن حياتنا، كنا نشارك قصصنا في جلسات ولم يحكمن علينا بل أحبننا وأطفالنا بدون مقابل"، بحسب الفتاة الكينية- بعد أشهر من لقاء "نور" تعلمت الكثير من الحِرف، باتت تتغيب لأيام عن الملاهي الليلية، ثم مع الوقت تركت العمل في تجارة الجنس نهائيًا، وبدأت في بيع أدوات التجميل ومرطبات الشفاة: "سعيدة جدًا بعملي الجديد؛ لأنني أجد وقتًا أقضيه مع فتاتي الصغيرة، الآن أستيقظ وابنتي بجواري، نصلي معًا ونغني معًا وندعو الله سويًا".
كان لـمبادرة "نور" فعل السِحر أيضًا في حياة "ماكينا" لم تكن الخطوات التي اتخذتها الأخيرة سهلة، ترددت كثيرًا في الابتعاد عن مهنتها "لكن نور وماما جين أثبتنا لنا أن أمامنا حياة أخرى يمكن أن نعيشها، وأن لدينا مستقبلًا جيدًا إن أردنا".
-
النور في قلبي.. مقطع صوتي لماكينا (مدبلج)
حلم أكبر
أحلام أكبر تحلم بها "نور" رفقة "ماما جين"؛ لذلك نجحت في إقناع الفتيات بفكرة بسيطة لكنها قادرة على مساعدتهن: "في كل شهر يجتمعن وتتبرع كل واحدة بمبلغ صغيرة تحصل عليه إحداهن على أن يتم تدوير الأمر بينهن" نتيجة لذلك بات لدى كل واحدة مشروعها الخاص وأتت المبادرة ثمارها على مدار عامين "خرجت 10 فتيات من هذا العالم المعتم بمساعدة فريق صغير، إنه لأمر عظيم" كما توضح نور.
السعادة البادية على الجميع، دفعت الفتاة التونسية إلى توسيع دائرة الفتيات التي ترعاهن المبادرة: "في مايو الماضي وفرنا قروضًا صغيرة لشراء إكسسوارات وأدوات تجميل لبيعها تصل إلى 500 دولار"، وصل عدد السيدات من كينيا اللائي حصلن على التأهيل النفسي وصار لديهن مشروعات إلى 100 سيدة.
كانت التجربة لها بالغ الأثر في نفس "جوليا" و"ماكينا" وباقي الفتيات، تركن العمل ليلًا وصرن من "فتيات النهار" يخرجن مع شروق الشمس لحياة جديدة؛ لذلك باتت "جوليا" إحدى اللاتي يحاولن مساعدة النساء الجُدد في المبادرة، حين تلتقيهن تخبرهن بـــ:"أن هناك دائمًا ضوءًا في نهاية النفق، وأنه يجب أن تؤمن كلا واحدة منهن ويثقن بأنفسهن وأن كل شيء سيصبح على ما يرام".
فيديو قد يعجبك: