"كسر العزلة".. مشوار أول طالب "توحد" في الجامعة الأمريكية (قصة مصورة)
كتابة وتصوير-إشراق أحمد:
17عامًا انقضت على العهد "مروان هيبقى زي أي حد وأفضل كمان". منذ شُخص مروان وحيد أنه مصاب باضطراب "التوحد" وهو بعمر عامين، وحمل والديه على عاتقهما أن يكون مثل أشقائه، محمد وماجدة، ولا يشعر يومًا أنه دون غيره؛ أخلصا التربية، صدقا ما عاهدا أنفسهما عليه، وشاركا فيه أبنائهما، لتحصد أسرة وحيد عبد الله ثمار غرسها هذا العام مرتين.
الأولى في يوليو المنصرف، حين تفوق مروان بالثانوية العامة 2019 بمجموع 405 ونصف درجة، وأصبح الأول على رفاقه في شعبة العلمي"دمج"، وأما الثانية بعدما حصل على منحة الجامعة الأمريكية بالقاهرة لدراسة الهندسة، منذ سبتمبر الماضي، ليصبح أول طالب جامعي مصنف بـ"التوحد" في مصر، ويبدأ مشوار جديد بعيدًا عن منزله بالشرقية، يتم فيه عامه الثامن عشر، في الثاني من يناير المقبل، وقد تغير مسار رحلته، إلا عن أمل يعطيه للكثيرين.
"السفر من البيت للجامعة بياخد ساعة وربع بس الطريق في بدايته وعر" مروان وحيد.
تغيرت حياة مروان؛ أصبح على موعد مع رحلة أسبوعية يبدأها يوم السبت بالوصول إلى الجامعة في منطقة القاهرة الجديدة، ثم العودة كل خميس إلى منزل أسرته في الشرقية.
لا ينشغل طالب الجامعة الأمريكية بتساؤلات من حوله. كيف لمن لديه "توحد" أن يبلغ هذه المرحلة؟ كيف يتكيف؟
فقط الفضول وروح الطفل التي لا تغادره. تدفع مروان للمضي قدمًا والاعتياد سريعًا مع ما يظنه البعض أنه عصي عليه.
"العيلة أهم شيء لأي طفل عنده توحد.. والأب عليه دور كبير في الرعاية والإهتمام" وحيد عبد الله، والد مروان.
في منزله بمركز مشتول السوق، التابع لمحافظة الشرقية. يدور فلك أسرة مروان حول أصغر أبنائها. حينما يعود إليهم يتلقى الدفء والاحتواء، وقبلهما محبة مطلقة تشمله منذ ولادته.
عام كامل استغرقه مروان ليتعلم نطق اسمه وهو بعمر الثالثة، وجاءت نتيجة أول اختبار عقلي له بنسبة 50% قبل التحاقه بالمدرسة، أحبط البعض أبيه "ابنك أخره صنايع علمه مهنة أو حطه في مدرسة احتياجات خاصة"، فيما أمسك الأب خيط انتصاره حينما تفوق مروان في المرحلة الابتدائية بمجموع تجاوز 95%.
"كنت عايز أخليه متميز عشان محدش يبص له بنقص ولو حد ضايقه يلاقي ألف واحد وراه يدافع عنه"
الأب هو عصا مروان التي يتوكأ عليها، وعماد أسرته، صاحب ابنه الصغير منذ ميلاده، وبفطرة الأب أمن بقدرة ولده، وبدوره في تمهيد الطريق له، وأن ليس ثمة مستحيلاً.
لم يكتف والد مروان بتعليم ابنه أبجديات الحياة، بل تكفل بمحيطه "جبت له أفضل المدرسين وعرفتهم إزاي يتعاملوا معاه وفضلوا معاه من ابتدائي لغاية ثانوي"، كذلك أذاب الأب الفروق بين مروان وأشقائه "محمد وماجدة شاركونا في كل حاجة تخص مروان وكل حد كان ليه دور معاه".
"كان رهوان وهو صغير. كنت أفضل حضناه ومكتفاه لأن لو سبته مش هلحقه. كنا فاكرينها شقاوة طلعت توحد" أمل طاهر، والدة مروان.
حملت الأم الدور الأكبر داخل المنزل، ابتلعت حزن ألا تسمع صوت ابنها لسنوات، هي أول مَن التفت لأمر مروان مبكرًا، لتبدأ رحلة الزوج معه في التردد على المستشفيات والمراكز الخاصة وإيجاد طرق لتعليمه، كانت تصاحبه فيها مرات لتعرف عالم ابنها وتمده بما لديها من حنان، فيما تفرغت لسد غياب الأب حتى عودته من مشاوير مروان الطويلة.
"لما بحط نفسي مكانه بعرف هو عايز إيه" محمد وحيد، شقيق مروان.
لم يتردد محمد حين أخبره أبيه "مروان محتاج لك"، خلال 48 ساعة ترك عمله في الإمارات الذي أمضى فيه سنوات وعاد سريعًا إلى مصر، ليستلم خريج كلية التجارة راية رعاية شقيقه منذ مارس 2019، قبل امتحانات الثانوية العامة، وحتى الآن، فيما لازال يبحث عن فرصة عمل تلائم ظروف الاهتمام بشقيقه.
يكبر محمد أخيه مروان بـ11 عامًا، ومؤخرًا فاجأ مروان شقيقه ووالده بمنادتهما بـ"الأبوين".
"البيت بقى فاضي في غيابه" ماجدة وحيد، شقيقة مروان.
تشاركت ماجدة مع والدتها الاعتناء بمروان، تعتبرها أسرتها "الجندي المجهول"، تبذل خريجة كلية التربية عام 2015 ما في طاقتها، فحينما كان أخيها بالثانوية العامة، تولت سؤال زملائها المدرسين لمواد الفيزياء والكيمياء عما يرغب مروان في معرفته، كما أنها تركت عملها لمساعدة والدتها بعدما تعرضت الأم لوعكة صحية مؤخرًا.
"الأرقام حياته" والدة مروان.
حتى بلوغه عمر السابعة، امتنعت أسرة مروان عن وضع أي شيء يحمل رقمًا على الحائط، خلت الجدران من "نتيجة الأيام" والساعات المعلقة، لأنه يظل ينظر إليها أو ينزع الأوراق منها، فيما أصبح الكمبيوتر المحمول "التابلت" رفيقًا لا يغادره، خاصة للعب "الكوتشينه"، معه ينسى مروان العالم من حوله حتى أثناء تناول فطوره المفضل "البطاطس المقلية"، ويمكن أن يبقى لساعات طويلة على الوضع ذاته إن لم ينبهه أحد.
يوم السبت من كل أسبوع، قبل رحيل مروان، يلزم كل فرد في الأسرة دوره؛ تعد الأم وابنتها ماجدة وجباته المفضلة، والتي يسهل حملها وتخزينها، تحضر له عدد من أطباق الأرز باللبن، ويجهز الأب ملابس السفر، فيما يستعيد معه شقيقه محمد شيئًا من دروسه والمعلومات الخاصة بالرياضيات، فقد لزم على الأخ الأكبر أن يذاكر ويعرف ما يدرس مروان، كي يدعمه.
"مفيش حد في العيلة إلا وضحى عشان مروان" الأب.
الشهور التي تلت إعلان مروان الأول على الثانوية العامة "دمج" كانت الأصعب على آل وحيد.
لم يحظ الفتى بإجازة وكذلك أسرته، يقول الأب "كانت حياة تانية عننا. تليفزيون ومقابلات وسفر كتير"، وكادت دفة الحياة تنقلب، بعدما جاءت نتيجة تنسيق مروان بكلية هندسة بترول السويس، حينها قرر الأب الانتقال معه، على أن تلحق بهم بقية الأسرة، لكن شاء القدر ألا ينقطع شمل العائلة بمنزلهم، بعد حصول مروان على المنحة الدراسية في الجامعة الأمريكية.
بقدر ما تفخر السيدة أمل بولدها، لكن قلقها حاضرًا مثل أي أم؛ في زيارتها الأولى لمروان في الجامعة، نظرت للمساحة الشاسعة وأخبرت زوجها " المكان واسع هيمشي ويتعامل إزاي في الدنيا دي كلها"، غير أن وحيد كعادتهما معًا، يربتان على نفوس بعضهما طيلة المشوار، ويراهنان على مروان، فقال لها "هيتعلم وهيعدي وهيبقى أفضل. أحنا شوفنا حاجات أصعب من كده".
بعد أذان العصر، يرحل مروان متوجهًا إلى القاهرة، يصحبه والده وشقيقه بالسيارة، لكن اليوم صارت المهمة أيسر.
طيلة سنوات دراسته في المراحل المختلفة، أعد والد مروان منهاج يهيأه ليوم يستقل فيه، إذ يلازمه لنحو أسبوعين في الطريق إلى المدرسة وداخلها، يُعلمه ماذا يفعل ثم يتركه، ويظل لفترة مماثلة يراقبه عن بعيد حتى يتأكد من جاهزيته للانطلاق بمفرده، وكذلك فعل حين التحق بالجامعة.
"حبيبي مكنش كده. بقى يعتمد على نفسه ويعرف يعمل حاجات كتير لوحده"
مكالمة هاتفية بين مروان وأسرته صباحًا ومساءً، صارت العزاء لفراق الشاب طيلة مكوثه في الجامعة، يطل فيها صوته كأنه عيد حزين. سعادة لذهاب الابن الصغير كي يتعلم ويصنع مستقبله، ويعود بشخصية أكثر جرأة على مواجهة عالمه، أما الحزن، فعلى وحشة يتركها بالغياب.
يقطع مروان نحو 40 كيلو مترًا كى يصل إلى العاصمة. طيلة الطريق يظل صامتًا، إلا مع الاقتراب من القاهرة الجديدة، حينها يروح يعدد معالم المكان، يشير إلى اليمين "هندخل بعد الميدان اللي في الساعة دي". بات مروان يحفظ الطريق عن ظهر قلب.
حينما يخوض مروان أمرًا يبدأه سريًعا، لهذا ما إن يصل باب جامعته، مساء السبت، يستهل رحلته على الفور، لا يأخذ وقتًا في وداع أبيه وشقيقه، يتركهما ويتوجه مسرعًا نحو السكن، فالآن بدأ نصف حياته الآخر، وعليه أن يعيشه حتى يلقاهما مرة أخرى في نهاية الأسبوع.
بعيدًا عن الشرقية، تعلم مروان توثيق حياته بطرق مختلفة، لاسيما من خلال الصور، فعل ذلك مع شقيقه محمد في رحلتهما معًا إلى أوروبا ضمن أوائل الثانوية العامة، قبل أن تبدأ الدراسة، وفي الجامعة، يرصد كافة لحظاته؛ كأن يصور السماء بعدما شابها الغيم ويرسلها لأخيه، فيخبره عن تغير الجو في القاهرة، فيما لا ينسى حظه من اللقطات.
بعد انتهاء المحاضرات في الثالثة عصرًا، كل يوم، ينتظر مروان إشعارًا بوصول بريد إلكتروني "إيميل"، يعلم به "التكليف" الجديد من أساتذته لينهيه قبل أن يختم يومه.
"حتى الآن سعيد بالأساتذة والزملاء حلوين"
أثرت الشهور الماضية داخل الجامعة في مروان، أصبح اجتماعيًا أكثر بعد سنوات الانطواء. وضعه في تجربة أن يكون وحيدًا داخل سكن جامعي ومحيط مختلف عنه، أظهر الجديد في شخصيته.
"ليا زمايل كلهم ساكنين في القاهرة لكن بحب أكون لوحدي".
في الجامعة حياة يشملها الخصوصية وفقًا لقواعد الصرح التعليمي، فلا يحق لأحد التواجد داخل المحاضرات إلا بعد موافقة الأستاذ الجامعي والطلاب أيضًا، وتلاقى هذا مع طباع مروان، إذ يميل إلى التواجد بمفرده، ملازمًا رفيقه الإلكتروني "التابلت".
"أكتر شيء بفتقده في القاهرة هو الأكل. بحب الكشرى، الفراخ المشوي، عصير القصب"
اكتسب مروان مهارات عدة، حلت اللهجة العامية محل الفصحى التي أعتادها من البرامج التعليمية، أصبح أكثر اعتمادًا على نفسه، وبالتكرار حفظ معالم المكان، وما يمكن قصده إن أراد تناول الطعام أو شراء أيا من مستلزماته.
"فرحان أن مروان خرج من عباءة البيت.. أنه بقى مبسوط ده بالنسبة لي كل حاجة" شقيق مروان.
مع كل لقاء، يكون محمد هو الوحيد المصرح له المرور إلى السكن الجامعي، لكن لم يعد مروان بحاجة لأخيه في ترتيب أشيائه، أصبح يعرف كيف يدير الفرن الكهربائي "الميكرويف" لتسخين الطعام، وتفاصيل حجرته، فقط يودعه على باب الحجرة.
"سمعنا حاجات كتير بتوجع لكن ولا حطيت في دماغي. مشيت في طريقي وأدي النتيجة الحمد لله" والد مروان
في السادس عشر من ديسمبر الجاري، أنهى مروان نصف العام الدراسي الأول. ما زال وحيد يرافق مروان، ينتظره يوم العودة إلى الشرقية حتى ينتهي من المحاضرات. لا يلتفت الأب لنظرة أو كلمة، قد اكتفى بسماع الكثير من اللمز طوال مشواره مع ابنه "كان بيتقال لنا بتضيعوا فلوسكم ووقتكم على الفاضي"، لكن الرجل الستيني حمل إيمانه بابنه في قلبه ومضى "حلم حياتي ألاقيه بيستلم جايزة نوبل في الرياضيات".
فيديو قد يعجبك: