قصة "السيد" مع الثورة.. درس التاريخ الذي أسقط حسني مبارك
كتب- أحمد الليثي ومحمد زكريا:
رسوم- سحر عيسى:
بين جنبات الفصل، أخذ محمود السيد –اسم مستعار- يلف بكتاب التاريخ، أعين الطلاب مشدوهة إليه، بينما يشرح لهم درس ثورة يوليو، يُعيد المُعلم على تلاميذه أهداف حركة الضباط الأحرار الستة، ثم ينتقل لسطور تقول إن مبارك أكمل الهدف السادس بتأسيس "حياة ديمقراطية سليمة"، قبل أن يُطالبهم في نبرة واثقة بطوي تلك الصفحات المدرسية، ليستفيض في شرح ما لم يحمله الكتاب الحكومي من أفكار، فأيام قليلة كانت تفصل مصر عن ثورة أسقطت مبارك ذاته.
منتصف التسعينات. التحق السيد بكلية الآداب في جامعة عين شمس. درس التاريخ. ومن بوابته عايش أوضاع مصر على مر العصور. وفطن إلى أن دور المدرس لا يقتصر فقط على التلقين وإنما التشاور مع الطلاب وتحفيزهم على تشغيل الأدمغة "بقولهم التاريخ إحنا بنعيشه وبيتدون بعد فترة مش مجرد أساطير بتتحكي"؛ لذلك منذ اندلاع ثورة يناير وإلى الآن لم يزل يتناقش مع طلابه، يحدثهم عن تفاصيل ما جرى ويخبرهم بأن يكونوا فاعلين لا مجرد مستقبلين.. بات مشروع عمره توعية الطلاب ببعض مغالطات التاريخ التي تحويها كتب المدرسة. بل راح يُحلل ما وراءها من أفكار، يعرض رؤى مغايرة، ويضرب الأمثال من واقع الطلاب المُعاش "الثورة كان ليها فضل كبير في وعي الطلبة وطريقة تفكيرهم".
قبل أيام قليلة من 25 يناير 2011، كانت الحصة المدرسية عن ثورة 1919. ولأن المؤرخ يتنبأ بالمستقبل من دروس الماضي، كما يقول السيد. لم يكن الأستاذ يشك في ثورة المصريين بزمان قادم. بعد انطلاق الثورة في تونس، راح يسأل التلاميذ عما يعرفونه من الأحداث التي تدور في البلد العربي، ليتفاجأ بعدم سماع أغلبهم عن الأمر من الأساس، من هنا أخذ يبسط لهم أسباب "ثورة الحرية والكرامة" هناك، ويُطلعهم على مطالبها، كذا لم ينس أن يرصد الشبه بين مقدماتها والتي تعيشها مصر في ذلك الوقت، "قولتلهم: رئيس تونس فضل في الحكم 27 سنة يا أولاد. ومبارك بيحكمنا من 30 سنة.. بس الـ10 مليون شعب تونس، عملوا ثورة، وانتصروا.. تفتكروا الـ90 مليون هيقدروا يعملوا زييهم؟"، ترك السؤال مفتوحا دون إجابة، وعاد من جديد إلى درس التاريخ.
خلال الـ18 يوما، كان السيد يبات في ميدان التحرير، واقع حلِم به لعقود ويعيشه الآن، لم يغادر المُعلم الثورة حتى الـ11 من فبراير، حتى أنه داوم على الهتاف في الأيام التي تلت رحيل مبارك، وفي أحد أيام التظاهرات بشارع محمد محمود، تقابل أستاذ التاريخ مع عدد من طلابه، لأول وهلة تلبس الفخر صاحب الـ41 عاما، أحس أن زرعته نبتت بالخير والحرية، ومع رؤيته لبعض تلاميذه بالصفوف الأولى وسط الاشتباكات، ضخ دماء الأبوة في قلبه واستحضر لعقله صورة لطفله، فاندفع يطلب من متقدمي الصفوف التقهقر إلى الوراء، ومن لم يمتثل لنصائحه نال من حزم كلماته.
منذ فجر يناير 2011 وإلى الآن صارت الأجواء مغايرة داخل الفصل، فبجانب الدرس الحكومي، حلت النقاشات المجتمعية والسياسية، لم يكن هذا بتدبير من السيد، بل فرضه الواقع المُعاش، لشهور عقب الثورة ظل المُعلم يستقبل أسئلة الحكم ودروبه التي تنوعت، يستمع إلى الآراء، يفندها، ويعرض تلك الأفكار التي تُقابلها، بينما يناقش كل طالب في اتجاه نظره، ويترك لكل واحد اختيار وجهته في النهاية، "قلت لهم لو الثورة بتتكلم على الديمقراطية، فإحنا لازم نطبقها في حياتنا، ومتبقاش مجرد شعارات"؛ اتفق مع الطلاب على التشارك في اتخاذ القرارات التي تهم الجميع، بداية من الاختيار بين القضايا المطروحة للنقاش، مرورا بتحديد مكان نزهتهم وسفرهم في رحلات مدرسية، والشرط أن ترضخ الأقلية لرأي الأغلبية، وكان أول من التزم بالاتفاق هو مُعلم التاريخ، الذي يقول إن تلك الفترة كشفت له أفكار ثرية، لم يكن يتخيل أن يحملها شباب في مثل سنهم.
انحسار الثورة في عيون أقربائه، أصدقائه وتلاميذه، لم يزحزح السيد عن روحها قيد أنملة، فدوما ما يضرب المثل بتلك الأيام الأولى من يناير. وبالشهور التي ساد روح التعاون والنظام بين أفراد المجتمع. يفيض في الحديث بفخر عن اختفاء الرشاوى والوساطة، كأن الناس استعصوا على تقبل الفساد أيامها. لا يزال يحكي عن حملات النظافة في الشوارع مع كل ذكر للثورة. يسرح وهو يُذّكر بالتفاؤل للمستقبل. ويتأثر وهو يُعيد هتافات الثورة ومطالبها. فكيف لثورة طالبت بالعيش والعدل والحرية والكرامة أن يُنسب لها أسبابا للتدهور؟ سأل هو تلاميذه، وعاد يقرأ من كتاب التاريخ.
خاض الأستاذ في حياة الفرعون القديم، لينتقل بالكلام إلى دوران عجلة الزمن آلاف السنين، ويمر بتلك الرسالة، التي حفظها التاريخ عن حور محب، ابن الأسرة الـ18 في مصر الفرعونية، والتي خلدت فلسفتها اسمه لأكثر من 3 آلاف عام، ونصها: "إن تطبيق القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار والتنمية"، فيشير لطلابه بأن الثورة بعد آلاف السنوات نادت بالأمر نفسه، فيما تطلعت إلى اللحاق بعالمها المعاصر.
وسط الفصل، لفت الأستاذ انتباه طلابه، إلى درس آخر من التاريخ، بأسلوب بسيط لكن يُثير التفكير والسؤال في آن، ذهب يُخيل لهم تمثال عمر مكرم، الذي يتوسط ميدان التحرير، وهو يُحذر ناظريه بينما تحمل يسراه كتاب التاريخ، كأنه أراد أن ينقل المغزى من مسيرته في النضال، فصاحب التمثال ساعد محمد علي باشا في الوصول إلى الحكم، قبل أن يزيحه والي مصر من طريقة ومعه كل رجال المقاومة الشعبية "على طول بقولهم لما تعدوا من ميدان التحرير افتكروا الثورة وافتكروا كمان إن عمر مكرم ماسك في أيده كتاب وبيقولكم أقروا واتعلموا".
تابع باقي موضوعات الملف:
"الثورة يعني بناء".. كيف طوّر 24 مصريا قرى الفيوم؟
"الثورة صالحتني على البلد".. "مونيكا" تركت إيطاليا للحفاظ على آثار مصر
مّد الثورة إلى الصعيد.. "مجراية" الثقافة والسينما في "ملوي"
جنوبية حرة.. "الثورة في دم بنات أسوان"
أثر الثورة لا يزول.. رحلة مبادرة "لاستخدام العقل" من القاهرة للمحافظات
فيديو قد يعجبك: