"بيقولوا كان فيه ثورة".. كيف مرّت يناير على قرية صغيرة بكفر الشيخ؟ (معايشة)
كتبت- دعاء الفولي:
تصوير- أحمد النجار:
كُلما سمعت ابنة عبير حمد كلمة "تظاهرات"، سألت والدتها "مش دي زي اللي إنتوا عملتوها في القرية؟"؛ تبتسم الأم الأربعينية، تتذكر كيف مرّت الثورة على قرية "منية المرشد".
تركت الثورة أثرها في سكان القرية الواقعة على بعد 150 كيلو من العاصمة؛ ما عادوا يسمعون عنها في التلفاز فقط، غيّرت حيوات بعضهم للأفضل، أدركوا أن الكلام مُباح، عانقوا حُلم المصريين حين لفظوا نظام مبارك، نظفوا قريتهم عقب التنحي، واعترضوا على فساد المجلس المحلي فيها، صوّتوا في تعديلات الدستور والانتخابات، اختلفوا مع التيارات الدينية في القرية، ذاقوا النشوة والأمل واليأس والتخبط، تفرّقت السبل بالشباب هناك، لكن ذكريات الثورة داخل القرية الكائنة بمحافظة كفر الشيخ حية، يحكيها الأهالي بإجلال، يكفيهم أنهم استمسكوا بتلابيب التغيير وطالوا بعضا منه.
في منزل عائلة "شحاتة" بالقرية، كانت سيرة الثورة باقية عقب 8 سنوات. الحيطان تعرف الهتافات التي كتبها الشباب ليعلنوا رحيل النظام، فيما تشهد غرفة الضيوف على جلسات 40 شابا يخططون لتغيير "منية المرشد"، يتحلقون في مساحة لا تزيد على 10 أمتار، ظلوا على عهدهم تجاه القرية، يوعون الناس بحقوقهم السياسية، يطرقون أبوابهم لسماع المشكلات، ثم يسيرون بها للمسؤولين كي يتم حلها.
القصة بدأت من ابن القرية مختار شحاتة. عاد الكاتب الأربعيني لمصر ليلة السابع والعشرين من يناير 2011 بعد سفر طويل "كنت قلقان بس بقول مفيش حاجة هتحصل"، ساعات معدودة قضاها العائد في العاصمة قبل أن يعود للإسكندرية، ليقضي بضعة أيام رفقة زوجته عبير وولديه "ثم أخدتهم كلهم وروحنا القرية من يوم 8 فبراير ولمدة شهور بعد كده".
حين دخل شحاتة القرية 2011 "كان الدوري الأوروبي "شغال" والناس بتتفرج على القهاوي ولا كإن فيه ثورة"، أُصيب بالإحباط، مرت أيام ثقيلة، حتى ليلة الحادي عشر من فبراير، حينها باغتته مكالمة صديق من الإسكندرية "لقيته بيصوّت وبيقولي مبارك مشي"، ضاعف ذلك من حزنه" كنت حاسس إني مفروض أبقى في الميدان"، لكن فكرة نبتت بذهنه "البلد رجعت لنا ومجاتش فرصة نشارك في الميادين، ليه منعملش حاجة في القرية من روح الثورة".
حكاية "منية المرشد" تحمل شخوصا كثيرة؛ بعضهم لم يكن يهتم للثورة، إلا أنها صارت مُلهمة برحيل مبارك، كما حدث مع محمد سعد، أو "تريكس" كما يناديه أهالي القرية.
حين استقر شحاتة ومن معه على ضخ الحياة في "منية المرشد"، فكروا في حملة للنظافة. كان السوق الذي يُقام كل اثنين فيها يترك آثارا سيئة، فنظفوه بأيديهم، ثم فعلوا نفس الأمر بمقابر القرية التي امتلأت بالحجارة.
شارك "تريكس" في حملة النظافة، اتفق شباب القرية مع المجلس المحلي التابعين له ليمدهم بالأدوات "كان معانا أساتذة ودكاترة ومهندسين وعمال، كنا عايزين نقول للناس إن اللي في التحرير وإحنا مش صايعين، إحنا نفسنا في حاجة حلوة للبلد".
شباب القرية لم يكونوا الوقود الوحيد للتغيير. يتذكر عبده محمد، صاحب الـ53 عاما كيف آمن بهم، حتى اتهمه البعض "إني مخي صغير عن سني". بين الأيادي التي نظفت أمسك مدير المدرسة الثانوي مقشة وساعد؛ سمع ما لا يرضيه "اللي بتعملوه ده هبل ولا ليه لزمة"، إلا أن إيمانه لم ينفرط، حتى لقى ثماره عند البعض "فاكر إن فيه ست بسيطة بعد ما خلصنا بكام يوم، قالت لي هات الشباب بتوعك وتعالوا نضفوا عندنا". كان أهل القرية مثل بعض المصريين خارجها، يسعدون بالتغيير وينفرون منه، غيّرت حملة النظافة في معتقداتهم قليلا، كما يقول: "بقى فيه صناديق زبالة مثلا وفيه حملة سنوية بتتعمل عشان تنضيف المقابر من ساعتها".
في نفس الفترة وعلى بُعد بضعة كيلو مترات من القرية الثائرة، كان محمد أبوعبده وصديقه شادي بسيوني يحاربان طواحين الهواء في قرية "بريمبال". مرّ الصديقان بنفس ما حدث مع شباب "منية المرشد"، لذلك كان انضمام الفريقين سويا أمرا حتميا "بقينا نعمل حملة نضافة في بريمبال وزيها في المنية، نعمل توعية هنا وهنا". فيما بعد؛ دار الشباب في القريتين على السكان، في مركز الشباب، المقاهي والبيوت، عرضوا عليهم مقاطع فيديو من الميادين، بسّطوا لهم ما حدث، كان ذلك قبل أسابيع من تعديلات الدستور في مارس 2011.
"يعني إيه دستور أصلا؟، نختار إزاي؟، الدستور ده مهم ليه؟".. أسئلة عديدة طرحها شباب "منية المرشد"، نظموا ندوات داخل القرية "كنا بنحاول منوجّهش الناس، بنديهم بس المفاتيح وهما يقرروا". دائما ما تندّر شباب القرية على الخليط الموجود فيها "عندنا إخوان وسلف وحزب كنبة وثوار وناس ملهمش دعوة بحاجة".. يضحك تريكس، فيما يحتد صوته "عشان كده وقت التعديلات الدستورية كان فيه استقطاب زي مصر كلها".
لم تكن "منية المرشد" قرية عادية يوما، صحيح أنها تعاني من نقص خدمات كثيرة "زي الصرف الصحي والماية أحيانا والطرق مش مرصوفة وفيه مستشفى كبير مقفول ولا كأنها وحدة صحية" حسب قول عبده، إلا أن تاريخها يزخر بتفاصيل ملهمة، ففي مركز مطوبس التابع له القرية، يقبع بيت الزعيم الراحل سعد زغلول، هناك عاش، وهناك نبتت أفكار ثورة 1919.
معركة التعديلات الدستورية كانت مُرهقة لشحاتة ومن معه، غير أنها عرّفتهم على السياسة للمرة الأولى. في تلك الفترة كانت اجتماعات غرفة الشباب في بيت شحاتة لا تنقطع، فيها اجتمع هو وزوجته، شادي بسيوني، محمد أبو عبده وآخرون "عملنا اجتماع في نادي القرية ودعينا الناس يحكوا مطالبهم ومشاكلهم".
سبع ساعات أو أكثر استمر فيها الاجتماع، أفضى السكان بما لديهم؛ ضمنهم كان محمد الغزّي، صاحب السبعين عاما والذي اعتاد العمل بمهنة الصيد كمعظم أهل "منية المرشد".
"كنا بنعاني عشان العيش، أروح المخبز ستة الصبح وألاقيه خلصان، أتاري الدقيق كان بيتاخد ويتباع".. كان ذلك المطلب مشتركا بين الأهالي، فيما تنوعت رغباتهم بين الحصول على وظائف، حل مشكلة الصرف الصحي والمياه، ووجود معاش عادل للصيادين.
لطالما كان الغزي في قلب العمل العام، تولى قبل 20 عاما رئيس جمعية الصيادين بكفر الشيخ، شارك في انتخابات ما قبل الثورة "أصل انا كنت عامل كارنيه الحزب الوطني"، لكن بعد 8 سنوات تغيرت نظرته للأمور "الثورة عملت لنا ياما، العيش دلوقتي بقى موجود علطول، ومعاش الصيادين بقى 1000 جنيه كل شهر"، لا يعرف ابن منية المرشد مسار الأحداث، لكنه يقول "لولا الريس عبدالفتاح السيسي مكانتش الدنيا اتعدلت، مفيش في مصر حاجة بتمشي إلا بكلام الرئيس".
سخرية حزينة دفعت شباب المنية دائما لتشبيهها بمصر "الحلو اللي فيها والوحش"، حتى أنهم أسموها "العاصمة السرية". لم تكن الحياة هناك وردية "بس كان عندنا أمل نسيب حاجة للناس ورانا"، فالشباب الذين نقلوا نفحات الثورة للقرية معظمهم لا يستقر بها، حاول شحاتة وأصحابه درء السوء عن وطنهم الصغير، لكن ذلك لم يحمهم من الخذلان.
في إبريل 2011، طلب شباب القرية مقابلة رئيس المجلس المحلي لمركز مطوبس لطرح مطالب الناس، لكن تعنت القائمين عليه دفعهم للاعتصام داخله "بعد شوية لقيناهم باعتين لنا حد اسمه محمد فضل من جماعة الأخوان وكان عضو مجلس شورى 2012"، حاول إرجاعهم لكنهم رفضوا.
بقي الشباب داخل المجلس بين الواحدة ظهرا والحاديةعشر مساءً "خلال اليوم بعتوا بلطجية يهددونا فقولنا إن رئيس المجلس زائد إنه مكانش منتخب زي ما مفروض يحصل"، غادر الشباب ليلا وقد فعلوا ما بوسعهم، وعقب أيام معدودة، طلبهم رئيس المجلس ليعتذر، فُتح باب التفاوض مرة أخرى "والمرة دي اتفقنا إن المجلس هيفضل موجود لحد ما يحصل انتخابات وهييجي ناس جديدة".
في غرفة الشباب تفتحت أزهار جديدة. كل تجربة خاضوها لأجل تحسين الأوضاع جعلتهم أقوى وإن فشلت، داخل تلك الغرفة؛ ألفوا أغنية على جيتار أحد أصدقائهم شاركتهم فيها عبير "بيقولوا كان فيه ثورة في يناير قبل اللي فات.. بيقولوا البنت اتسحلت جابوا الذنب على العبايات"، كانت عبير فيما قبل سيدة منزل "لا ليا في سياسة ولا غيره"، إلا أنها أصبحت ذا رأي، كذلك كان حال أماني أحمد.
11 عاما فقط هو عُمر أماني وقت الثورة، كان عقلها منُقسم بين والدها الذي يعتبر الثورة فعلا خاطئا، ومنزل الخال مختار شحاتة الزاخر بالأحلام "وقتها بدأت أقرأ أكتر، أشوف تليفزيون، أعرف عن التاريخ، كنت بسيب بيتنا طول اليوم عشان أقعد معاهم في أوضة الشباب".
تعتبر أماني -على أعتاب عامها العشرين- نفسها محظوظة "وعيت على التغيير، مهما كان متعب أو بطيء، بس بقدر أتكلم"، تحكي عن صفحة باسم "منية المرشد" عبر موقع فيسبوك، مازالت ترفع شكاوى المواطنين "من كام يوم كان فيه مشكلة في انقطاع الماية عند بعض البيوت، الناس على الصفحة فعلوا هاشتاج والموضوع وصل للمجلس والمشكلة اتحلت"، تعتبر أماني ذلك أحد المكاسب "يعني لو الثورة معملتش حاجة غير إنها خلتنا نشتكي على مشاكلنا فهي كدة كسبت برضو".
قبل احترافه الكتابة، كان شحاتة مُدرسا للغة العربية بالقرية، لكنه علّم طلابه قراءة نصوص من خارج المنهج ومناقشتها معه، كتبوا سويا مسرحيات بسيطة ومثلوها. سرت الثورة في جسده قبل قدومها، ورّثها لتلاميذه، وانتقلت العدوى لزوجته عبير "أنا عيشتي كلها جوه القرية، المظاهرات دي كنا نسمع عنها في التليفزيون، بس لما يناير جت روحت اسكندرية يوم وهتفت مع الناس"، الثورة بالنسبة لعبير عنت تغيير التعليم، فبينما توقفت عن استكمال الدراسة قبل المرحلة الجامعية لضيق اليد، تمنت لو حصل أبنائها على فرصة أفضل "وده اللي كنا فاكرينه هيحصل بعد الثورة".
مع الوقت، انطفأ لحن الثورة الجليّ؛ بين انتخابات مجلس الشعب أتت بحكم الإخوان المسلمين، ثم انتخابات رئاسية "كان الوضع بيسوء واحنا بنبعت في النص بين الإخوان واصحاب المصالح" يقول تريكس. انسحب شباب القرية إلى حيواتهم الخاصة بين القاهرة وكفر الشيخ، لكنهم ظلوا على لقاءات متقطعة في ذات الغرفة.
محمد أبو عبده كان أول الذين مسهم اليأس. لا يعزو ابن كفر الشيخ الأمر للقوى المسيطرة فقط، بل والثائرين "كانوا ضحية تشتتهم وتخبطهم سواء في القاهرة ولا هنا"، عانى الشباب بسبب نغمة واحدة يرددها عليه معظم سكان منية المرشد "مش شيلتوا مبارك؟ عايزين إيه تاني"، يضحك أبو عبده بمرارة "والله كانوا خلوا مبارك بس حققوا أحلام الناس.. على الأقل ميبقاش فيه بيوت بينزل عليها المطر كل سنة تهدها ولا يبقى فيه ناس مش لاقية أكل".
حينما يجتمع أصدقاء الثورة كل فترة، لا يبدو أبو عبده اليائس الوحيد، يشاركه تريكس شعوره " كنت مفكر الحياة حلوة، وحصل ثورة وهنتغير بس متخيلتش الدنيا تبوظ بالسرعة دي"، تريكس، الذي تخرج في كلية الألسن جامعة عين شمس، هو الوحيد بين رفقائه الذي يعمل في مركز مطوبس ولم يبرحه "إحنا غلطنا لما شفنا كل حاجة في القرية بترجع زي ما هي وسكتنا".
بقي أصحاب المجلس المحلي في مناصبهم، لم تنصلح الطرق أو تنتهي أزمة المياه بشكل دائم، مازال المستشفى غير مُستغل، إلا أن الأمل لم يترك شادي، يعتريه الفخر كلما يتذكر أيام يناير "طالما اللي عملوا الثورة لسة عايشين يبقى ليه نفقد الرجاء؟".
التوثيق كان جزءً من النجاح الذي حققه شباب القرية. من اليوم الأول صور شحاتة وأصدقائه الأحداث وشهادات السكان، جمعوا حوالي 48 ساعة من التصوير من يناير وحتى 2013 في وثائقي قصير عنوانه "العاصمة السرية".
يعتبر شحاتة الفيلم ابنه الأقرب، يشاهده كلما ضاقت السبل به. يعيش الآن في البرازيل، يتصل بوالدته وأشقائه في القرية، ويطمئن على زملائه هناك، دون الخوض في ما مضى، فروجه تحمل ما يكفي من الجروح "بس مش هقدر أنسى إني بسبب الثورة اتهزيت وفرحت وعيطت واتخضيت مع الناس وتكويني الثقافي اللي بعتز بيه أنا مدين بيه للقرية"، حتى أن رسالة الماجستير التي أنجزها في الغربة كانت عن تاريخ قريته.
لعبير ولد وابنة. أكبرهما أميمة ذات الأربعة عشر عاما. حين تنظر الأم لهما تستعيد سيرة الثورة المبتورة، لكن أميمة تطلب منها بين حين وآخر أن تريها صورتها في تظاهرات الإسكندرية بيناير 2011، والاتحادية 30 يونيو "بتقولي عايزة أفضل فاكرة إني شاركت". ترتاح نفس عبير قليلا، فبسبب الثورة أيقنت صغيرتها أن التغيير ممكن وإن لم تعلم كيفيته بعد، أما هي فأصبحت أكثر جرأة، لا تبتغي العودة من طريق الثورة "يعني هغمض عيني تاني بعد ما فتحتها؟".
فيديو قد يعجبك: