فنان يتحدى الإعاقة والحرب.. أم يمنية تطوف العالم مع ابنها لعرض رسوماته
كتبت-دعاء الفولي:
في عُمر الثامنة، أمسك أحمد عبدالله بالقلم للمرة الأولى، بيد مرتعشة رسم خطوطا غير واضحة، انطلق يعبر عما بداخله، وقتها اضطرب قلب أمه من السعادة، مرة مع الأخرى تفتّحت موهبة ابنها، تيقنت أن إعاقته الجسدية لن تمنعه عما يحب، كرّست حياتها له، تنقلا سويا بين عدة دول لحضور ورش مختلفة، يُحسن بها أداءه، جاورته في رحلة علاجه التي لم تنتهِ بعد، فيما مازالت على عهدها بمحاولة تطويره.
في فبراير الجاري تم افتتاح ملتقى أولادنا لفنون ذوي القدرات الخاصة، تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبرئاسة الدكتورة سهير عبدالقادر، إذ استمرت فعالياته على مدار أكثر من أسبوع وانتهت أمس بعروض قدمتها فرق من 37 دول عربية وأجنبية داخل دار الأوبرا المصرية.
أسفل المسرح المكشوف بالأوبرا، وبينما تعرض فرقة من الصين رقصتها، كان أحمد صاحب العشرين عاما، يتفحص ألبوم صور أعطته إياه الوالدة منى صالح، ينشغل به عمن حوله، ويحاول تقليد ما يرى على الورق، فيما تتحدث الأم عن مشاركة صغيرها في الملتقى، فتلك المرة هي الثانية "السنة اللي فاتت شارك برسمة في الملتقى وأخد مركز أول، والسنة دي شاركنا بصورة ورسمة".
من مدينة عدن اليمنية، جاءت الأم وابنها "راسلنا القائمين على الملتقى وطلبوا نماذج لعمل أحمد ووافقوا وبعتولنا دعوة". على مدار أيام عديدة، التقى الشاب بجنسيات مختلفة "أحمد بيحب يعرف الناس وعنده شخصية قوية حتى لو ده الناس متعرفوش"، تبتسم الأم مشيرة إليه "هو اللي بيوجهني طول الوقت، بمشي وراه بس عشان أساعده".
حين كان عمره 3 أشهر، أخبر الأطباء مُنى أن صغيرها مُصاب بعيب خلقي في الرئة، أثر على وظائفه الحركية، كما أنه وُلد فاقدا للسمع والكلام؛ أُسقط في يد الأم "ضليت شهور ما أريد أشوف حد.. كنت بموت كل يوم وانا مش فاهمة ليه يحصل هذا"، لكنها أدركت أن استمرار تلك الحالة سيقتلها؛ فقررت نفض الحزن والاستعداد لطريق شاق، لم تترك جمعية لذوي الاحتياجات الخاصة باليمن إلا وتطوعت فيها كي تكتسب خبرة، وفي نفس المسار كانت السند له في رحلة التعافي.
حتى سنوات قليلة، كان أحمد يستخدم كرسيا متحركا "اشتغلنا على العلاج الطبيعي، لحد ما صار يمشي دون مساعدة"، اضطرت منى مرارا لاتخاذ قرارات عصيبة عليها كأم، خاصة بعد وفاة والده وهو لم يتم العامين بعد، تتذكر السيدة اليمنية حين صحبته إلى بريطانيا لعمل جراحة دقيقة في الرئة "شالوها وأضافوا بعد الأنسجة لها وزرعوها مرة أخرى"، لم تصل نسبة النجاح وقتها حتى 4%، لكنها لم تكن لتترك فرصة تحسن إلا وتسلكها.
أحمد هو مُعجزة مُنى. كلما تطلعت إليه استشعرت حكمة الرب في نجاته من العمليات الخطيرة "أكيد عنده حاجة هيعملها"، يجعلها ذلك أكثر قدرة على تحمل الصعاب، مازال الدمع يراودها حين تسترجع نظرات البعض "الشفقة وإنه يا حرام ابنك ماله، وخليكي بالبيت أحسن، كل هاذي الأشياء كانت تؤلمني بس تقويني"، لم تكن تلك أكبر مشكلاتها فقط؛ بل التحاق الابن بأماكن تُحسن مستواه الدراسي والإدراكي "كان فيه جمعيات كتير بس كلهم مقبلوش أحمد عشان عنده إعاقات متعددة، فقررت أنا أعمل جمعية تبقى هي بيته التاني وبيت اللي زيه".
عام 2007 انطلقت جمعية "أنا وليس إعاقتي للتنمية" باليمن. ظلت فلسفة مُنى واضحة فيها "يمكن احنا معندناش القدرة المادية لمساعدة أهالي ذوي القدرات، لكن دورنا الأساسي هو دعمهم نفسيا وتوعيتهم بكيفية التعامل مع ولادهم". قابلت الأم أهالي كثيرين خجلوا من إعاقة أبنائهم "صاروا يخبوهم لحد ما الولاد حالتهم تدهورت"، لذلك تخدم الجمعية جميع الإعاقات، من الجسدية، مرورا بمتلازمة داون وحتى ضعاف البصر والسمع.
يبدأ يوم أحمد مُبكرا بتناول الإفطار ثم الذهاب لجمعية الأم، هُناك يتلقى تعليما أساسيا في صفوف دراسية مُهيأة له ولزملائه، لا تنسى مُنى المرات الأولى التي عملته فيها كتابة حرف الألف "كان يكتبه على لوحة كبيرة جدا، مع الوقت صار يصغر لحد ما بقى يكتب بكراس صغير"، لأحمد شخصية مستقلة، يفعل ما يريد "أحيانا يرفض يروح الجمعية، ما بقتش أغصب عليه ينزل لو هو مش رايد".
منذ سنوات، تطوف مُنى وولدها الملتقيات الفنية بالدول العربية، بين تونس والمغرب العربي ومصر وغيرهم تسعى لعرض موهبة ابنها "وريتها لفنانين تشكيليين كتير وقالوا إنه بيرسم رسم سيريالي وإنه موهوب فعلا"، حرصت الأم على توفير الأدوات المطلوبة له، فيما اكتشفت أنه يُحب التصوير أيضا، فأحضرت له كاميرا ليشارك بإحدى صورها في ملتقى أولادنا ذلك العام.
لمُنى ابنتان أكبر من أحمد. تحمل الأم عبء صغيرها بمفردها معظم الوقت، رغم عملها في الدائرة الحكومية باليمن ورئاستها الجمعية، لكنها تستمد قوتها من أحمد "هو بيفاجئني طول الوقت، بيتطور وبيتحسن ودة بيهون عليا كتير"، تتمنّى الأم لو يصل فنه للعالم أجمع، أن يتوقف الناس عن نعته "بالمسكين أو من ذوي الإعاقة"، تحزن حين تأتي سيرة الحرب بوطنها "هي بتأثر على عمل الجمعية وبتأثر على نفسية أحمد"، لذا فبالنسبة لها السفر حول العالم تُخفف عنه وعنها كثيرا.
فيديو قد يعجبك: