حكاية أعمال أخفتها ثورة يوليو| الكثير لا نعرف صاحبه
كتابة وتصوير - مارينا ميلاد:
اصطحبت السيدة نهير نبيل، التي تعمل مدرسة لغة عربية بإحدى المدارس الخاصة، ابنتيها ملك (8 سنوات)، ومريم (5 سنوات)، إلى قصر عائشة فهمي الفخم بالزمالك، لتجعلهما تعيشان في زمن يبعد عنهما كثيرًا من خلال حضورهما معرض "ملامح عهد" الذي يستعرض المقتنيات الملكية التي ترجع إلى عهد محمد على باشا. قالت نهير لابنتها الصغرى "سنزور قصر ابنة الملك"، فيما حاولت تبسيط المعلومات للكبرى، التي لم تأخذ مادة التاريخ بعد.
يحكي التاريخ الذي ستدرسه "ملك" فيما بعد، أن ثورة يوليو 1952 صادرت تلك المقتنيات بعد انتهاء حكم الملك فاروق. فظلت أغلبها لسنوات طويلة سجينة متحف الجزيرة الذي تأسس عام 1936 ليكون أحد استراحات الملك ثم تحول إلى مخزن يضم أكثر من 4000 قطعة من القصور الملكية، حتى اقترح مجمع الفنون بقصر عائشة فهمي، ممثلًا في مديره إيهاب اللبان، استقدام 120 قطعة فنية منها لإعادة ترميمها وتجهيزها لتكون هي موضوع الدورة الثالثة لسلسلة معارض "كنوز متاحفنا"، بعدما كان موضوع دورته الأولى "الفن المعاصر" في مايو 2017، والثانية "النسيج القبطي والإسلامي"، واعتمدت الدورتان أيضًا على عرض أعمال فنية نادرة كانت داخل المتاحف المغلقة.
استغرقت عملية التجهيز من جانب فريق قوامه 40 فردا، حوالي ثمانية أشهر، ليس فقط لترميمها بطريقة علمية دقيقة، إنما لتحضير مادة معرفية عن الأعمال المعروضة والشخصيات وأصحاب الأعمال أيضًا، وتم عرضها على شاشات بكل غرفة بالقصر. لكن كان أغلب ما شاهدته السيدة نهير وابنتاها خلال جولتهم كغيرهم من الزائرين هي أعمال "ليس لها صاحب" يحمل توصيفها المعلق بجانبها "غير مؤرخة – غير موقعة" أو أحدهما، وذلك كان نتيجة لما انتهت إليه عملية البحث.
إيهاب اللبان، مدير مجمع الفنون، قال لـ"مصراوي" إن سبب ذلك "ربما يرجع إلى أن في هذه الفترة كان الفنان يهتم بالشخصية التي يرسمها أو ينحتها أكثر من وضع اسمه، كما أن عددهم كان قليلا ومعروفين وقتها"، فيما يرى الباحث الأثري فرنسيس أمين أن ذلك "بسبب أن الأعمال الفنية كانت بتكليف من جانب القصر الملكي، فينقلها الفنان عادة من أصل سابق أو من صورة فوتوغرافية، ولم يوقعها، كما أن له بعد أخر وهو احترام زائد للشخصية المرسومة خاصة إذا كان الحاكم، لكن في الوقت نفسه لم يكن مستحيلا أن نعرف صاحب العمل حتى لو لم يوقع عليه، ذلك بمقارنة الأسلوب والبحث في صور ومقالات المعارض القديمة".
وبسؤال الدكتور ياسر شحاتة، المؤرخ الفني، أكد أن هناك طرق معروفة يتم دراستها بكليات الفنون الجميلة في مصر وبأكاديميات أجنبية للوصول إلى تاريخ العمل الفني وصاحبه من خلال استخدام "كربون 14" لمعرفة التاريخ بشكل دقيق، والاستعانة بخبير خطوط فرشاة ليقارن الخطوط الموجودة باللوحات مع أعمال الفنانين بذلك الوقت ومعرفة صاحب العمل، خاصة وأن الرسومات "بورتريهات" (portraits)، فهنا يكون الوضع أسهل لأن أسلوبها واضح وراسموها قليلون.
ذلك في حين أن أعمال أخرى بالمعرض حملت توقيع أصحابها، وكان أغلبهم من الأجانب، من بينهم شارل كوردييه، وهنري جاكمار، وهما ناحتان فرنسيان. الأول جاء إلى مصر لمدة عامين (1866 – 1868) بأمر من الحكومة الفرنسية لإنتاج أعمال فنية، وصنع خلال هذه الفترة تمثالا نصفيًا للخديوي إسماعيل، وتمثال إبراهيم باشا الموجود الآن بوسط القاهرة، وأعمالا بقصر البارون. وفي نفس وقت زيارته تلقى جاكمار دعوة من الخديوي إسماعيل ليصنع تمثالًا لمحمد علي باشا، وهو الموجود الآن بميدان المنشية بالإسكندرية. وعُرض لمدة شهر بميدان الشانزليزيه عام 1872 مع تمثال إبراهيم باشا الذي نفذه كوردييه، ذلك بعد خروجهما من مسبك "الإخوة ثيبو" بفرنسا، وهو الذي تولى صبهما قبل أن يتم شحنهما بالباخرة إلى مصر.
جاكمار هو الذي نحت أيضًا أسود قصر النيل الشهيرة، لتوضع في مدخل الكوبري عام 1873، وتمثال سليمان باشا الفرنساوي الذي خلفه تمثال طلعت حرب بوسط القاهرة، لينتقل الأول إلى القلعة، إضافة إلى تمثال لاظوغلي الموجود في مكانه حتى الآن.
صحيح أن عملية البحث لم تتوصل لأسماء صانعي بعض الأعمال لكنها من جانب آخر قضت على مغالطات تاريخية خاصة بأحد أهم الأعمال المعروضة، وهو التمثال الكامل للخديوي إسماعيل، الذي تم تصميمه وصبه عام 1951 بغية وضعه في قلب ميدان التحرير (ميدان الإسماعلية سابقًا)، لكن حالت الإطاحة بالملك فاروق دون ذلك، وتم تخزين التمثال واختفت أخباره إلى أن ظهر بالمعرض الحالي.
فتناول المعرض قصة هذا التمثال التي بدأت بمسابقة فنية أعلن عنها القصر الملكي عام 1949 للنحاتين المصريين لتقديم ثلاث تصورات لتماثيل ميدانية ضخمة؛ اثنان للملك فؤاد والثالث للخديوي إسماعيل. تشكلت على إثرها لجنة لتحكيم الأعمال المقدمة، وتكونت من على فريد بك، مدير مصلحة المباني الأميرية التابعة لوزارة الأشغال، والمعماري مصطفى فهمي باشا ناظر مدرسة الفنون الجميلة العليا، والمعماري محمد رأفت بك مدير البلديات ومدير مصلحة التنظيم. فاز الفنان مصطفى نجيب بالجائزة الأولى لصنع تمثال الملك فؤاد بميدان عابدين، أما بالنسبة لتمثال الملك فؤاد أمام جامعة فؤاد (القاهرة حاليًا)، وتمثال الخديوي إسماعيل؛ فأعيدت مسابقتهما، وانتهت بفوز مصطفى متولي لصنع تمثال إسماعيل.
كان مصطفى، وهو واحد من حوالي أربعة مصريين فقط تُعرض أعمالهم بالمعرض، منهم النحات أحمد إبراهيم، والمصور رياض شحاتة، قد تخرج من قسم النحت عام 1933 بعد دراسة مع أستاذه النمساوي "كلوزيل" لمدة خمس سنوات، ثم أرسل في بعثة إلى روما لأنه كان أول دفعته، والتحق بالأكاديمية الملكية للفنون منذ عام 1934 وحتى 1939، ثم عاد ليعمل بمصنع النماذج الأثرية التابع للمتحف المصري.
بحسب حديث مدير مجمع الفنون "ستعود المقتنيات جميعها مرة أخرى إلى مخزن الجزيرة المغلق بعد أن ينتهي المعرض يوم 27 مارس المقبل".
فيديو قد يعجبك: