نظرة على سعد زغلول.. الزعيم بعيون طفل الحارة نجيب محفوظ
كتب- محمد زكريا:
ماذا يحدث للدنيا؟"، ظل الطفل يسأل نفسه، وهو يطل من سور سطح منزل الحسين، على "الأعلام ترفرف فوق الدكاكين، وصور سعد زغلول تلصق بالجدران"، الحارة "يجتاحها طوفان، يقلقها زلزال، تشتعل بأطرافها النيران.. يسقط الاحتلال.. سعد.. يحيا سعد"، الأمر غريب، "لم يقع ذلك من قبل"، لكنه " كحلم مثير لا يُصدق".
من كتاب "حكايات حارتنا"، يُلقي مصراوي نظرة على زعيم ثورة 1919، بعيون الكاتب الراحل وطفل الحارة نجيب محفوظ.
داخل جدران المنزل، شغف محفوظ بالنظر إلى ولد عمه، الذي وصل من الريف إلى القاهرة، بعد أن ترامت أنباء نشاطه الثوري إلى مراكز الأمن هناك، قبل أن يباغته بالسؤال: "أنت من شبان المظاهرات ويحيا سعد؟"، والد الأديب أراد أن يشتت الحديث بعيدا عما يجر متاعب على الصغيرين، لكن بفضول من نجيب وبدفع من قريبه الريفي، راح محفوظ يوزع أوراقا على "المارة وأصحاب الحوانيت"، الذين تناولوها بدهشة، ألقوا عليها نظرة سعيدة، ثم ابتسموا مواصلين المشي. يحكي أديب نوبل، أن ذلك أدخل إلى قلبه سرورا "لا حد له"، رغم عدم معرفته في ساعتها، بأن ما سلمه لأهل الحي، عبارة عن "منشورات سياسية"!
في الحي، مظاهرة ضخمة، "تسوق في مقدمتها حمارا، مدثرا بقماش أبيض نقش عليه بالأحمر: السلطان فؤاد"، يمتطيه مصري مرتديا قبعة بريطانية، ووراءه يردد المتظاهرون: "يا فؤاد يا وش القملة.. من قالك تعمل دي العملة"، يتبع الهتاف زغاريد.. طار محفوظ إلى والده بالخبر الذي سمعه وأثار خياله، "يقولون إن اسم سعد يُرىَ منقوشا على البيض بعد خروجه من الدجاج"، يضحك الأب ومعه ضيفه، الذي سارع بالرد على الصغير: "كان أعداؤه يتجنبون النظر في عينيه وهم يجادلونه تفاديا للشعاع الحاد الذي ينطلق منهما"، يطرب الأب للكلام ويتمتم: "إنه هدية السماء إلينا!"، فيقول الضيف متحمسا: "انتهت سنوات النحس وبدأت أيام السعد".
"لا حديث هذه الأيام إلا عن الثورة، حتى حديثنا نحن الغلمان يرطن بلغة الثورة، ولعبنا في الحارة مظاهرات وهتافات".. اعتاد الصغار على دوريات الإنجليز، "نمعن في الجنود النظر بذهول، ونقارن بين ما نسمع عن وحشيتهم، وما نرى من جمال وجوههم وأناقتهم ونتعجب"، كانت المواصلات انقطعت تماما، والمذابح ارتكبت في الأزهر وأسيوط والعزيزية والحسينية، "الأموات يفوقون الحصر"، لا يهم، يكفي أن ينبري رجل ليقص سيرة الزعيم ومواقفه مع الإنجليز والخديوي، لـ"ألمح أبي تغرورق عيناه بالدموع"، فتنهمر فيض على خد محفوظ.. "لا أنا ولا أنت، ليحي سعد!".
كان عيدا في الحارة، يوم أطلق الاحتلال سراح سعد. "أسأل أمي: سيرحل الإنجليز؟ فتجيبني بيقين: إلى غير رجعة"، في الليل، قامت الاحتفالات، "تضاء الكلوبات في هامات الدكاكين، ترفع الأعلام، تدوي الزغاريد، تكتظ البوظة بالسكارى، تشتعل الغرز بنيران المجامر، وتتطوع العالمة ألماظية بإحياء الليلة"، يرقص الرجال وتغني ألماظية: "ليالي الأنس عادت بالليالي.. يا بلح (زغلول) يا حليوه يا بلح"، وتختم بأغنية ضاحكة مطلعها: "ياواد يا أللنبي كان جرى لك إيه..جه الاستقلال غصبا عنك وعن انجلتره". من النافذة "أسهر أنا.. وقوى مجهولة تشحن قلبي الصغير بحيوية سحرية".
"أبي ينظر إليَّ نظرة غامضة ويسألني:
-ماذا فعلت؟
فأجيبه بسرور وزهو:
-اشتركت في المظاهرة الكبرى!
-كان يمكن أن تدوسك الأقدام.
-كان الصغار كثيرين.
ويداري أبي ابتسامة ويسألني بنبرة ممتحن:
-الآن سعد زغلول.. هو رئيس الوزراء فلم تضربون؟
-أضربنا لتأييده في موقفه ضد الملك.
-من قال لك ذلك؟
-رئيس الطلبة، قال إن سعد زغلول قدم استقالته احتجاجا على موقف الملك من الدستور، وإننا ذاهبون لتأييد الزعيم.
-هل عرفت وجه الخلاف بين سعد والملك؟
وأتوقف عن الاسترسال مرتبكا فيضحك أبي ولكني أبادره:
-نحن مع سعد وضد الملك!
-عظيم، وماذا كان هتافكم في عابدين؟
-سعد أو الثورة.
-ما معنى ذلك؟
واتفكر قليلا ثم أقول:
-معناه واضح، سعد أو الثورة.
وهو يبتسم:
-عظيم، ومن الذي انتصر؟
-سعد، وهتفنا: عاش الملك ويحيا سعد.
ثم أقول بحماس:
-الاشتراك في المظاهرة أمتع من أي شيء في الدنيا!
فيبتسم أبي ويقول:
-بشرط ألا يشترك فيها الإنجليز!"
أصوات بكاء، تتسلل من الصالة، إلى غرفة محفوظ، يثبت الصغير من الفراش، مندفعا نحو الباب المغلق، يتردد للحظة، ثم يفتح ليواجه مهجول، أبيه جالسا، وأمه مستندة إلى طاولة، لكن الجميع يبكون، شبح الموت يتخايل لعين الصغير، تقبل عليه أمه وتقول: أفزعناك.. لا تنزعج يابني. فأتساءل بريق جاف: ماذا. فتهمس في أذني بنبرة مختنقة: سعد زغلول.. البقية في حياتك! فأهتف من أعماقي: سعد! أتراجع إلى حجرتي.. وتتجسد الكآبة في كل منظر.
فيديو قد يعجبك: