بالصور-رفقة "كوكب الغَرب".. مصراوي يحاور أول مأذونة نوبية
كتب- محمد مهدي:
تصوير- جلال المسري:
في ليلة شتوية بـ 2017، كانت الأضواء منتشرة بقرية غرب أسوان الهادئة، الجميع في انتظار المأذون داخل المسجد لعقد قران عروسين من أبناء المكان، تظهر من بعيد "أم كلثوم"؛ سيدة ستينية ممسكة بدفتر كبير، تشق بردائها الأسود الصفوف، عيناها شاخصتان تجاه المنبر، لا تلتفت حولها، تحاول التقاط أنفاسها جيدًا لضبط خفقان قلبها، كلما اقتربت يزداد المشهد هيبة، لم يسبق لغيرها من نساء النوبة خوض تلك الخطوة؛ إذ أصبحت أول مأذونة نوبية وأسوانية في مصر "تحس أنها مقاتلة وهي داخلة لأول مرة تؤدي دورها" يقولها زوجها بينما تبتسم هي قبل أن تسرد لمصراوي عن سِر التجربة المهمة والفريدة في تاريخ النوبيين.
أواخر 2015 كانت "أم كلثوم" الشهيرة في قريتها بـ"كوكب الغرب" قد وصلت إلى سِن المعاش، بعد عقود من العمل لدى وزارة التربية والتعليم "طلعت على المعاش وأنا على درجة موجه أول تربية دينية وهنا فكرت إني أعمل حاجة مختلفة". لم تمر السنوات الفائتة في اللاشيء، يبدو أنها تعشق منذ صغرها قريتها، لذا حينما تخرجت في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة في 1979 وتم تعيينها في مدرسة بالجيزة "قولتلهم عايزة أروح أخدم ولاد قريتي" وبالفعل تم نقلها إلى هناك لتنغمس في المسار التعليمي بداية من معلمة للغة العربية والتربية الدينية مرورًا بالدرجات الوظيفية حتى صار عمرهًا 60 عاما.
بعد أيام من جلوسها في المنزل، التقت والدها الروحي "أحمد نصر" المأذون السابق للقرية الذي تقدم باستقالته لظروف صحية "لقيت عنده ورقة طلب مأذونة للبلد"، لمعت عيناها، نظرت إلى تفاصيل الطلبات "لقيتهم طالبين خريجي دار علوم ومش محددين إذا كان المطلوب ذكرا أو أنثى" تحب دائمًا خوض التجارب الصعبة"طول عمري بسافر إعارة لبلاد عربية، وفي مصر مهتمة بالحاجات الخدمية" تذكر أن أهل القرية رشحوها ذات يوم في مهمة بالمحافظة لأنها "بتعدي الميه كل يوم وميتخافش عليها" كون النيل يفصل بين قريتها ومحافظة أسوان "لقيت أبويا الروحي بيقولي (قدمي، إنتي تستحقيها)".
في الطريق إلى منزلها ظلت تُفكر حتى التقت زوجها "لقيته وافق ومرحب جدًا، ويقولي دي كانت شغلتك من الأول، دايمًا بتوفقي بين المدرسين والمدرسات" تضحك، توضح أنها واظبت على "الصُلح بين اللي متخانقين، واللي بيواجه مشكلة في البيت نحاول نحلها، الناس لبعضيها يعني" استشارت أيضًا أشقائها فكانت البِشارة بموافقتهما "قلت إن لو دا حصل هتبقى فُرصة إن الواحد ميستسلمش لقعدة البيت بعد المعاش" أما عن التخوف من الاعتراضات كونها أول سيدة تتقدم لتلك المهنة "الاعتراضات دي موجودة دايمًا وفي كل مكان، في الأول الناس كانت رافضة البنت النوبية تتعلم، ولما اتعلمت قالوا خلاص لحد ابتدائي، وكانوا رافضين الاختلاط في الجامعة، دلوقتي المجتمع بقى متقبل كل شيء" كما يُشير زوجها مؤكدًا أنها مسألة وقت ليس أكثر.
تحمست "أم كلثوم" وفي اليوم التالي بدأت الإجراءات الروتينية للتقدم وسط دهشة من الأهالي والجهات الحكومية، من بين الأوراق المطلوبة الحصول على موافقة من 10 أشخاص من الأهالي "لقيت أكتر من 40 واحد بيمضوا وكلهم من طلابي" وحين ذهبت إلى مركز الشرطة للحصول على إفادة بحسن السير والسلوك اكتشفت أن اثنين من رجال الشرطة من طلابها "المأمور كمان قالي إن أبوه كان مأذون، وإنه بعد كلامه معايا يتمنى إني أفوز بيها" تلك الانطباعات والمساندة منحتها شعور بأنها تخوض تجربة كبيرة وضرورية "ولو مكسبتش على الأقل يبقى اتحسب إن فيه سِيدة حاولت تبقى مأذونة".
تقدم العشرات وانتهت المنافسة إلى 3 أشخاص من بينها "أم كلثوم" قبل أن يفوز بها أحد الرجلين "مزعلتش، كنت أول الناس اللي بتباركله"، طوت تلك المرحلة في انتظار فُرصة في السنوات المقبلة، لكن بعد أشهر قليلة تم إعادة التجربة بقبول طعن أحد المتقدمين للوظيفة "قررت إني هجرب تاني" تلك المرة واجهت 8 رجال وسيدة "بعد التحريات وصلنا لـ 3 برده" تلقت خطاب للحضور إلى محكمة الأسرة بأسوان للبت في أمرهم "المستشار المسؤول عن الاختيار قال هنعمل قُرعة، رفضت وقولتله صَعّد واحد من الملفات بتاعتنا لكنه أصر والزملاء وافقوا" قبل أن يشرع في القُرعة.
كتب المستشار الأسماء الثلاثاء في أوراق بيضاء، وضعها أمامه، خلطهم ببعض، حتى لا يتبين أصحابها، ثم طلب حضور أحد الأشخاص من خارج القاعة للاختيار من بين الورق " طلع إمام بأحد المساجد" لحظة صعبة مرت بها "أم كلثوم" تفرك يديها، يرتجف القلب، يسألهم المستشار "قلبكم بيدق؟" لترد أنه بالتأكيد في الغرب والشرق يسمعون صوت دقات قلبها الآن، يبتسمان ثم يقول الإمام "خير الأمور الوسط" يمد يده ليختار الورقة ويفتحها لينطق بصوت عال "مأذون غرب أسوان.. أم كلثوم محمد يونس حسنين" لم تصدق السيدة، نظرت في ذهول، تسمرت في مكانها من السعادة "لقيت طالب كان عندي بيقولي مبروك أستاذتي، فصدقت فعلًا الخبر".
رغم سيرة "أم كلثوم" الطيبة، لكن فور إعلان الخبر اعترض نحو 500 شخص من أبناء القرية على اختيارها وتقدموا بطعن على القرار "على أساس إني واحدة ست ومينفعش اشتغل مأذونة" تتعجب من تلك الأراء "الستات دايمًا كانوا هما اللي شايلين الشيلة، دلوقتي بقوا لا يصلحوا؟" لم يقلقها ذلك أو يثنيها عن خطواتها "إنشاءالله تلت تربع الناس ترفض، معنديش مشكلة قدام معايا الحق" ذهبت إلى المحكمة للمثول أمام القضاه "رفض طلبهم وأصبحت مأذونة رسمي" بعد أشهر قليلة تسلمت الدفاتر الخاصة بها وصار بإمكانها مزاولة مهنتها في أكتوبر 2017.
احتفال دام لأيام من وسائل الإعلام ومسؤولين من المحافظة وأهالي قريتها، ثم كانت الليلة العصيبة الناجحة في الوقت نفسه عند عقد أول قران لها بالقرية، حاول البعض الاعتراض على وجودها "سألوا ينفع تدخل المسجد؟ رد عليهم مسؤول بوزارة الأوقاف (السيرة الذاتية تقولها إنها تكتب الكتاب في المسجد الحرام كمان)" حينها أمسك والد العريس الميكرفون قائلًا: "أم كلثوم أستاذة الأجيال.. دي بنت قريتنا وكلنا معاها وفرحانين بيها" امتلأ قلبها بالسعادة والفخر لتلك الكلمات "ولقيت الخمسة ستة المعترضين خرجوا بره الجامع" استكملا تفاصيل القران وإطلاق نصائح للزوجين ثم غادرت سريعة وهي منشغلة بكيفية التعامل مع هذا الموقف في المرات القادمة.
لم تمضِ الحياة بوتيرة واحدة، أحيانًا تمر الزيجة بيسر دون منغصات، وتارة آخرى تواجه "أم كلثوم" اعتراضات البعض على دخولها للمسجد أو إذاعة صوتها عبر الميكرفون أثناء عقد القران "بيقولوا إن صوت المرأة عورة، وأنا بقول إن صوتي بيخرج في الحق والدين" شعرت أن الوقت هو الكفيل بتغيير نظرة المجتمع لعمل المأذونة، لكنها لم تنسحب، قررت استكمال طريقها بمساعدة أحد الشيوخ هو من يذكر الصيغة مع الزوج ووكيل العروسة ثم "بيودوا الترابيزة عند أول المسجد وأنا بكمل باقي الإجراءات الرسمية، أحيانا بدخل المسجد بس مبتوغلش عشان نراضي الناس".
بعيدًا عن الاعتراضات، تبذل "أم كلثوم" قصارى جهدها لأداء دورها على أكمل وجه، خبرتها السابقة في الإصلاح بين الأزواج تجعلها سعيدة خلال إتمام الزيجات، وصبورة حينما يتم استدعائها في حالات الطلاق "بحاول قدر الإمكان أوفق بينهم، وأقنعهم بالرجوع في كلامهم" نجحت في إنقاذ حياة عائلات أكثر من مرة "ورجعوا أحسن من الأول" تخاطب المحبة داخلهما وذكرياتهما سويًا "مرة اتنين كانوا متخانقين، قولتلهم في وسط الخلاف مبتشوفوش أفلام محمود يس ونجلاء فتحي الرومانسية، احضنوا بعض زيهم واتصافوا" ضحكوا جميعًا وانتهت الأزمة، وفي حالة الاصرار تحاول تأمين حقوق السيدات بما يوافق الشرع والدين "لأن النساء ضعيفات محتاجين اللي يقفوا جنبهم".
لا تشترط أول مأذونة نوبية أجرًا محددًا، ولا تغالي في طلباتها "بالعكس بأخد أجر أقل بكتير من غيري" تُدرك متاعب الزمن والمسؤوليات الكبيرة على عاتق الأزواج وحاجتهم لكل جنيه "مرة سألت عريس على شغله لما عرفت إنها شغلانة بسيطة قولتلهم على فلوس أقل، والباقي يرجع للعريس" وفي مرة ثانية حينما منحتها أم الزوج أجرها "خدت ربعه بس وقولتلها الباقي يروحله هو أكيد محتاجه". ترجع تصرفها بأنها تحصل على معاش من وزارة التربية والتعليم، وأن باقي زملائها "دا شغلهم الوحيد والأفراح والطلاق بتبقى كُل فين وفين فصعب يأخد أجر بسيط" لكنها تستطيع.
مضى نحو عام ونصف على مزاولة "أم كلثوم" لمهنة المأذونة، ترغب في الاستمرار حتى النهاية في عملها "بستمتع بشغلي، بقدر أعمل حاجة مفيدة بدل ما أتقوقع في البيت" ممتنة لدعم زوجها الدائم لها "أوقات بروح لناس أمنع الطلاق إنشاءالله الساعة اتناشر، مبيرفضش، وفي كل المشاكل بيبقى جنبي" ترى المحبة في أعين أبناء القرية فتنسى اعتراضات البعض، تشعر بأن حياتها لم تذهب هباءا، وأنها حاولت بكل طاقتها وضع السيدة النوبية في أفضل مكانة، متمنية أن تُكمل الأجيال القادمة المسيرة "أتمنى لبنات بلدي إنها تكون واثقة من نفسها وتكمل تعليمها، وتنافس دايمًا في المناصب القيادية".
فيديو قد يعجبك: