"مياه آمنة".. حين توسّع مشروع شاب مصري ليروي بلاد أفريقيا
كتبت- شروق غنيم:
لم يصدق العجوز الكيني ما حدث؛ أمعن النظر مجددًا في المياه المتدفقة من صنبور منزله وقد صارت شفافة، عادت لطبيعتها حيث اللون الأبيض الصافي، بينما اعتاد لسنوات على رؤيتها صفراء اللون، تبعث في نفسه كآبة فيعزف عن استخدامها. في تلك اللحظة شعر وكأنه مَلَك الدنيا، رشفة وراء الثانية وكأنما أخذ العدوز إكسير الحياة "بقى يشرب بُق ويبص للمياه تاني، وبعدين ياخد بُق جديد ويبصلها، مش مصدق إن بيته بقى فيه أخيرًا مياه نضيفة".
لاتزال المشاهد عالقة في ذهن مهند هشام، الشاب الذي بذل حياته في سبيل التطوع، عام 2011 بدأ الرحلة رفقة أصدقائه في الكلية في الأنشطة الطلابية، حلّق بعيدًا عنها ووسّع دائرته لكن اقتصرت على "إننا نساعد مثلًا في توفير لبس حاجات كدة"، ظل نظر الشاب العشريني بعيدا، يبحث عن أكثر ما يُعجِّز الإنسان في حياته، استدعى الآية القرآنية "جَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ"، وكأنما وجد ضالته "حسيت إني لقيت نفسي في المشروع ده".
عام 2012 انطلقت مؤسسة "ومن الماء حياة"في مصر وألمانيا، تدفق فريق المتطوعين داخل القرى والمحافظات الأكثر احتياجًا للمياه النظيفة، يعافر الفريق كي ينعم كل فرد برشفة مياه آمنة، بينما يحاولون أيضًا توعية المجتمع بأهمية المحافظة على المياه وترشيد استهلاكها، لكن بعد مرور عامين من العمل في الفيوم، بني سويف، الشلاتين، قرر المتطوع الشاب أن يوّسع شرايين مشروعه، تصل إلى عدد أكبر، لذا عام 2016 انشأ مؤسسة أخرى لمشروعه في ألمانيا، ومنها كانت أفريقيا وِجهة مهند ورفاقه.
في شمال كينيا لازالت الحياة بِكر، محافظة على تفاصيلها البدائية، شكل حياة مختلف عما اعتاده مهند، قد يكون مُرهق، لكن أمتع، صارت رسالته في عالم التطوع أسمى "حاجة إنسانية ملهاش علاقة ببلد معينة، حتى الفريق بقى بيضم ناس من جنسيات مختلفة". تركوا جميعهم العالم من وراءهم، وبذلوا وقتهم لجل اللحظة التي يُروى فيها ظمأ إنسان حتى وإن لم تجمعهم لغة واحدة.
لم تكن كينيا وحسب البلد التي تطوع فيها الشاب العشريني، ذهب أيضًا إلى أوغندا، البلد التي تحتاج إلى مُعلمين "هناك اتطوعت في التعليم وده كان بعيد شوية عن تخصصي، لكن أنا في الأغلب بحب أتطوع في مجال المياه".
لا شئ يُضاهي تلك اللحظة، أبناء البلد المُختارة يتجمعون حول البئر المراد حفره، لمهند فلسفة في الأمر، يجب أن يشارك أهل المكان في الأمر "عشان إحنا مش بنتعامل على إننا جمعية جاية تعمل حاجة وتمشي، لكن إحنا بنحاول نأسس لشئ أكبر، الناس تحفر بإيديها فيحسوا بقيمة الحاجة ويحافظوا عليها بعدين، وتبقى تنمية مستدامة".
منذ عام 2019 وركز فريق "ومن الماء حياة"، على تغيير نمط عملهم، أن يصير أكثر استدامة، تشارك سواعد أهل المكان في الحدث، وهو ما جرى مع أهالي قرية دادابو، وهي إحدى القرى الواقعة على الحدود الكينية الأثيوبية الصومالية، لم يعد فرقًا بين رجل وامرأة، الكل تمسك بفأس وأخذ يحفر قناة لدخول مياة السيل للسد.
يدرس الفريق المنطقة قبل الشروع في أي عمل، يحكي مهند أن المنطقة الحدودية ذات درجة جفاف شديد، تندر فيها مصادر المياه النظيفة وكذلك الجوفية "عشان كدة الحل الأكثر استدامة هو سد أو بحيرة، يحجز مياه السيل وقت الأمطار ويكفيهم مواسم الجفاف، خصوصًا السد يقدر يساعد أكثر من 5 آلاف شخص".
على مدار السنوات السبع لمشروع ومن المياه حياة، استطاع مساعدة قرابة 400 ألف إنسان، لكن ما حدث في "دادابو" كان له مذاقًا مختلفًا، إذ رأى مهند كيف تغيرت نظرة أهالي المكان، كبار سن وصغار، نساء ورجال، تجاه المياه "بالشكل ده هيحافظوا عليها على طول".
ثمة لحظات أخرى يشعر فيها مهند وفريقه ببلوغ السعادة، حين يتجمع الصغار حول البئر، يترقبون في فضول بريء لحظة إعلان الانتصار، قرابة ثلاثة أسابيع تنقضي إلى أن تلمس المياه أطراف الأيادي العاملة "يمكن بتبقى أفضل لحظة بالنسبة لنا"، تمتليء الأجواء بسعادة حاسمة، كأنما فريقك المفضل أحرز هدفًا في الدقيقة الأخيرة من عمر المباراة ونال بطولة، تبتهج النفوس، تُرسم الضحكة على وجوه الأطفال، بينما كبار السن يتأملون المشهد ولازال الأمل يدفعهم لتمني حياة أفضل لأحفادهم.
ربما تأتي اللحظة الثانية الأسعد في حياة مهند حينما نجحوا في إنشاء محطة تنقيه مياه في شمال كينيا؛ كان الأمر صعبًا، مهمة عمل محفوفة بالعراقيل "كان في منطقة حدودية والمفروض يشتغل بطاقة شمسية"، مر شهر ونصف كالدهر، لكن كل توتر وتعب تلاشى في اللحظة التي خرجت المياه صافية تمامًا "مكناش مصدقين، أخيرًا طلعت مياه!".
روّض مهند نفسه على الحياة البرية في أفريقيا، لا يراها تختلف كثيرًا عن الأماكن الصحراوية في مدن مصرية، وخلال السفرية الواحدة التي قد تستمر من أسبوعين إلى شهر، يتكيّف على الوضع وكأنه ساكن أصلي للمكان، لا يتذمر من أي صعاب "الحياة البرية مرهقة جدًا، بس بتخليني فاكر دايمًا إن النعمة لا تدوم، فباتشجع على إننا نكمل تطوع ونروي ناس أكتر".
تابع باقي موضوعات الملف:
"إفريقيا السعيدة".. "سارة" انتقلت إلى كينيا لمساعدة "الأطفال اللاجئين"
مغامرة في أوغندا.. أميرة تركت "كركبة" العاصمة من أجل الحياة البرية
14 يوما خارج نطاق الخدمة.. مغامرة طبيب مصري في بحيرة فيكتوريا
"لفّة" في بلاد أفريقيا.. الحياة البرية تغير نظرة شاب عن القارة السمراء
57 يوما في قَلب إفريقيا.. كيف غيرت القارة السمراء حياة "مرام"؟
فيديو قد يعجبك: