لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أنامل ترى..رحلة زوجين كفيفين داخل المتحف المصري (قصة مصورة)

06:26 م الأحد 18 أغسطس 2019

علاء وشيماء أبطال رحلة مسار المكفوفين

كتابة وتصوير-إشراق أحمد:

أن ترى شيئا لأول مرة. حالة لا يعلم خصوصيتها إلا من افتقدها، وطالما تمنى علاء محمد وزوجته شيماء مختار أن تتسع لهما الخطى كما يفعل الخيال، فلا شيء ينقصهما سوى توفير السبل، لذلك حين لامست أيديهما لوحات "برايل" التعريفية، الموضوعة أمام التماثيل في المتحف المصري تحقق لهما هذا، ففي ذلك الوقت أصبحت أناملهما ترى ولو لحين.

1

لم يكن يعلم علاء وشيماء عن مشروع المتحف المصري المنفذ منذ العشرين من يونيو المنصرف، والمخصص للزوار من المكفوفين، إذ ألحقت عدة معروضات بلوحات إرشادية مدون عليها بطريقة الكتابة البارزة "برايل"، وما إن عرفا الزوجان تحمسا للزيارة "طبعا عايزين نشوف حاجة معمولة لنا وأهو نتفسح في مكان مرحناهوش من زمن. وأنا كمان خريج تاريخ فبحب ده" يقول الزوج مبتسمًا.

يتقدم الزوجان نحو بوابة الدخول، يتأبطان بعضهما البعض، تفتح شيماء، 38 عامًا، العصا البيضاء الخاصة بالمكفوفين، يستخدماها في الأماكن الجديدة حتى يألفاها، تناولها لعلاء، 40 عامًا، فيقود المسير كما يفعل منذ تزوجا قبل ثلاثة أعوام.

2

اضطر علاء وشيماء لترك ابنتهما "جوري" ذات العامين في المنزل، حتى يتمكنا من التفرغ للجولة داخل المتحف، فضلا عن أن ذلك يتطلب اصطحاب رفيق مبصر للانتباه إلى صغيرتهما، وغالبا ما تكون ابنة شقيقة شيماء.

34

يستقبل كافة الزائرين المصريين متطوعين للإرشاد من جمعية أصدقاء المتحف المصري، يصحبونهم في جولة داخل المكان، أما رحلة الزوجين كانت من نصيب أوركيد إيهاب، طالبة الفرقة الثانية في كلية الآثار، تطمح للعمل في مجال الترميم الأثري، لكنها تجد متعة خاصة في الشرح للوافدين والحديث عن التاريخ.

5

في مسار المكفوفين، الحامل لشعار "الإحساس بآثار مصر الخالدة"، تسابق علاء وشيماء لمد أيديهما واكتشاف اللوحات المكتوبة بـ"برايل"، للمرة الأولى يتاح لهم رؤية الآثار بطريقتهم، ففعلا ذلك معًا في البداية. "دي مكتوبة بأربع لغات" قالت شيماء بحماس، وأخذا يعدداها سويا "عربي وإنجليزي وفرنساوي وتقريبا ألماني" يجيدا الزوجان الثلاث لغات الأولى، فيما قالت صباح عبد الرازق مديرة المتحف المصري بالتحرير إن اللغة الرابعة هي الإيطالية لكون المعهد الإيطالي للآثار بالقاهرة هو صاحب ومنفذ المشروع بالتعاون مع متحف التحرير.

76

رغم أنها المرة الأولى لأوركيد في اصطحاب مكفوفين داخل المتحف، لكنها علمت ما يلزم؛ لم تكتف المرافقة بالحديث عن كل قطعة كالمعتاد في الجولات، بل أخذت تحث الزوجين على مد أيديهما، تمسك بكف كل منهما، تمرره بينما تشرح "دي صلاية الملك نعرمر أو الملك مينا موحد القطرين.. دي البقرابين ودول الأعداء وده رمز القوة". حينها وفقط تتراجع مهمة الكلمات وتكمل الأنامل تشكيل الخيال عن محتويات المكان.

89

ثمة 12 قطعة أثرية أدرج إليها لوحات إرشادية بطريقة "برايل" إلى جانب الموضوعة باللغتين الإنجليزية والعربية للمبصرين. تفرقت داخل المتحف لتشكل مسارًا صغيرًا مدمجًا مع مسارات الزيارة للمصرين والأجانب في المتحف المصري الواقع على مساحة تبلغ نحو 28 ألف مترًا مربعًا -حسب الهيئة العامة للاستعلامات.

10

"إيه ده دي ركبته أومال بقيته قد إيه؟" ضاحكة تقول شيماء بينما تمد يدها لتمثال رمسيس الضخم المتصدر بهو المتحف لتعلم إلى أى مدى تبلغ طوله.1112

درست شيماء اللغة العربية، فيما تخرج علاء في قسم التاريخ، كلية الآداب. يتذكر صاحب الأربعين ربيعًا كم كان فقدان البصر سببًا في تحويل مصيره من الرغبة في دراسة اللغات إلى الكتب التاريخية ومحبتها؛ عام 1996 عاد علاء وأسرته من السعودية حيث أقاموا حتى حصوله على الثانوية العامة، يقول علاء "كان نفسي أدرس انجليزي لكن ساعتها لأني كفيف وشهادتي من بره فمكنش متاح ليا غير فلسفة وعربي والتاريخ" فالتحق بالكلية الأخيرة ووجد فيها شغف بلغ إلى استكمال الدراسة لتحضير الماجستير.

بسبب أستاذة له في الجامعة، أحب علاء تاريخ أوروبا والعصور الوسطى خاصة، كانت الدكتورة ميرفت صبحي مثله الأعلى "دكتورة كفيفة كنت بحترمها جدا. يكفي أنها تدخل مدرج فيه أكتر من 300 طالب مكنش حد يجرؤ يطلع نفس من قوة شخصيتها وشرحها الممتع".

1314

زار علاء العديد من الأماكن الأثرية وقت الدراسة، أغلبها للمساجد والكنائس، وفي 2004 سافر مع زملاء الدراسات العليا إلى سيناء، كان الكفيف الوحيد بين 10 ممن زاروا منطقة تبة الشجرة، وكثيرا ما ذهب إلى منطقة الأهرامات، يقول "أتوصف لي ولمست الحجارة وقعدت ورفعت راسي لفوق عشان أحس ارتفاعه زي ما بيتقال"، وكذلك الحال في كل مكان يقصده. "كل حاجة بالسمع والخيال" كما تضيف شيماء، بينما مازال وعد شريك حياتها لها بأن يصحبها للهرم والقرية الفرعونية ويسافرا معًا.

15

مع مطلع أغسطس الجاري، قرر المجلس الأعلى للآثار إتاحة التصوير عبر الموبايل مجانًا داخل المتاحف. سعد الزوجان بسماع ذلك فطلبا من مرافقتهما المرشدة أوركيد أن تلتقط لهما صورًا تذكارية بينما يواصلون المسار.

كانت شيماء في عمر ابنتها "جوري" ذات العامين حين اصطحبها والديها إلى المتحف، تحتفظ والدتها بصورة لهذا اليوم، فيما لا يتذكر علاء كم كان يبلغ حين زار المكان لكنه يعلم أنه فعل ذلك يومًا، لتصبح لقطاتهم الحديثة تذكارًا يضاف لصورة شيماء السابقة.

1617

"من ساعة ما الأستاذ شرف في حياتي بقيت أقلق أنزل لوحدي". أصبح علاء عين وعصا شيماء برغم تأكيدها على تحليها بالمغامرة والشجاعة التي يكتسبها نحو 3 مليون ونصف كفيفا في مصر -حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء 2017- إذا ما أراد أن يتعايش، حتى أنها كثيرًا ما خرجت دون عصا ترشدها، لكنها تعلم جيدًا أن الطريق ليس ممهدًا بما تحمله الكلمة من معنى.

18

تستمع شيماء لشرح مرشدتهما أوركيد، تستشعر إجادتها التعامل، وهو ما تفتقده في الشارع المصري، فمرافقة فاقد البصر لها أداب، من الإمعان لخطواته وإعلامه بما لا يرى. تذكر ذات يوم حين طلبت من سيدة مساعدتها لعبور الطريق، فأمسكتها دون انتباه كأنما ترافق مبصرة حتى كادت إحدى السيارات أن تصدمها.

19

أمام تمثال بلا لوحة تعريفية وقفت المرشدة تتحدث عن تلك الشخصية المقابلة لمجسم الكاتب المصري بجلسته القرفصاء الشهيرة وعينينه المصنوعة من معدن الكوارتز.

"ده تمثال لكاتب برضه بس من ذوي الاحتياجات الخاصة. كان كفيف وعنده رجل أقصر من التانية" شرحت أوركيد أنه تم العثور عليه بلا اسم لكنه دليل على قدرة المصري القديم على التحدي حتى أن طريقة الكتابة بالحفر البارز هي وسيلته للتعلم "يعني كان عندنا برايل قبل ما الفرنسيين يخترعوها" مبتسمة تعلق المرشدة، لترتسم علامات الدهشة على وجه علاء وشيماء جراء المعلومة الجديدة على مسامعهم.

20

انطلقت أقدام الشريكين داخل المتحف، وهي فرصة لا تتاح في كثير من الأماكن خاصة المفتوحة والطرقات. يتذكر علاء كيف طالبه موظف في هيئة حكومية أن يعاود الصعود إلى الطابق الخامس لتلبيه طلبه وكأنه أمر سهل في ظل الزحام وعدم توفر مصعد.

ولا يغيب عن شيماء ما حدث قبل نحو عامين، بينما كانت تسير بمفردها في طريقها لزيارة أسرتها في المطرية، تعرضت لحادث؛ سقطت في بالوعة مفتوحة الغطاء، مما ألزمها الفراش قرابة 15 يومًا.

21

22

لم تقتصر مرشدة المتحف على المعروضات الخاصة في مسار المكفوفين، مالت على قطع أثرية أخرى تصفها وتشرحها لعلاء وشيماء كما اعتادت أن تفعل في جولاتها اليومية.

2423

على مدار نحو الساعتين قضيا علاء وشيماء في المتحف تجربة يصفونها بالمختلفة، بمرور الوقت تعايشا مع المكان، فصارا يتبادلان الأدوار في معرفة المكتوب باللوحات وإمساك العصا، فيما لم ينقطع حماسهم عن قراءة المدون بـ"برايل" بصوت مسموع.

فرغم مرور أكثر من مائة عام على انشار الكتابة البارزة للمكفوفين على يد صاحبها لويس برايل، لكن لازالت تتعاظم قيمتها في مثل هذه الأوقات "لما أكون في مطعم مع صحابي وكلنا مكفوفين بننادي على الجرسون عشان يعرفنا اللي مكتوب فإن يبقى في مكان فيه برايل دي حاجة جميلة جدا" تقول شيماء.

25

يوجد في مصر 76 متحفًا تضم القاهرة أكبر عددًا منها بتقدير 23 متحفًا حسب إصدار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء "مصر في أرقام" عام 2019، لكن المتحف المصري الوحيد المطبق فيه "برايل" حتى الآن، بعدما عرض المعهد الإيطالي للآثار بالقاهرة تنفيذ مسار المكفوفين على القائمين في المتحف، قبل نحو 5 أشهر .

وتتولى مدرسة المكفوفين في المتحف تنظيم رحلات مدرسية للمكان كما تقول صباح عبد الرازق، مديرة المتحف المصري، فيما جاري التخطيط للتوسع في المشروع، بوضع لوحات أكثر، وتنفيذ نماذج مجسمة للتماثيل المحفوظة في عارضات زجاجية كي يتمكن فاقدوا البصر من لمسها حسب تأكيد المسؤولة.

2726

مع الوصول إلى البوابات الإلكترونية ينتهي مسار علاء وشيماء داخل المتحف، لكن يبدأ مسار جديد من الصداقة بينهما والمرشدة الصغيرة أوركيد. يتبادلون وسائل التواصل، ويقتسمون شيئا من السعادة؛ فتُسر الشابة بكلماتهما عن إجادتها التعامل مع الكفيف في تجربتها الأولى، فيما ترتسم البسمة على وجه الشريكين للتواجد في مكان وجدوا فيه براح لخطاهما، مؤكدين على أمنية كلاهما "ياريت يبقى في أماكن كتير في مصر تحترم الكفيف".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان