إعلان

فرت من الموت والسجن.. عايدة أنقذت أولادها في السودان وخلقت عملها "بإيديها"

04:14 م الأربعاء 28 أغسطس 2019

رئيسية- عايدة علي فرت من الحرب في السودان وعملت في

كتبت وتصوير- إشراق أحمد:

بحنو أمسكت عايدة علي علبة خشبية، وضعتها على طاولة منتجات يدوية، صنعتها وشقيقيها. بابتسامة ودود نظرت ذات البشرة السمراء إلى العلبة المزينة بالصدف، بمثله علمتها والدتها أن تُعمل يداها بأبسط الأشياء وتمنحها لمسة سودانية، تتركها وتدنو منها بكيس "حلوى سوداني" كما تسميها، تشرق أسنانها ثانية، بينما تتحدث عن إعدادها منزليا في وقت لم يكن بالسودان مصنعًا بعد، تضعه هو الآخر ثم لا تلبث أن يعاود وجهها شيء من الأنين؛ تتذكر الفرار بأبنائها من الحرب، قتل أبيها أمام عينيها وفقدان زوجها، قسوة الغربة طيلة عامين حتى استقرت في القاهرة، فمنذ عام 2011 بات السودان مجرد ذكرى تطل من منتجات عايدة.

قبل ثلاثة أشهر أخذت عايدة تُعد منتجاتها للمشاركة في مهرجان الطبيعة والثقافات المحلية، الذي أقامته وزارة البيئة في محمية وادي دجلة. لم تعلم السيدة الثلاثينية أنها على موعد للتواجد في أجواء تلوح بعبير نشأتها الأولى بين جبال النوبة في إقليم كردفان -وسط السودان. الجبال والصحراء الفسيحة كلها تدفع عايدة لتذكر الرحلة التي تأبى نسيانها.

1

11 نوفمبر 2011 تاريخ تحفظه صاحبة الثامنة والثلاثين ربيعًا "من وقتها ما شوفت السودان". الجنوب يعلن استقلاله رسميا في يوليو 2011، فيما يبدأ سكان كردفان معركتهم أمام انتزاع أراضيهم ودفعهم لهجرها حتى يونيو من ذلك العام؛ اندلعت نيران حرب خلفت عشرات القتلى والمصابين، وحرق بيوت ومزارع مما دفع منظمة العفو الدولية في أغسطس عام 2015 إلى اتهام الجيش السوداني بارتكاب ممارسات تصل إلى "جرائم الحرب".

في أسرة لها من الأبناء تسعة نشأت عايدة، تربت بين المزارع "كان عندنا ماشية وبنرعى لكن كل شيء اتحرق". في تلك الجمعة من ذاك العام تغير كل شيء؛ "الجنجويد" –ميلشيات مسلحة أسسها الرئيس السابق عمر البشير للقتال في دارفور 2003- تبطش بسكان جبال النوبة؛ الأهالي تهرع خارج منازلهم البسيطة، تلجأ إلى بيت والدها، فترى القوات المدججة بالسلاح تقتل أبيها، ويصاب عمها بطلق ناري هائج فيسقط صريع هو الآخر. تلملم عايدة أبنائها الأربعة، فيما تجر قدماها من الخوف تارة، وبفعل حمل جنينها المقبل على المجيء تارة أخرى، تفر السيدة إلى مجهول لا تعلمه مثل زوجها المفقود "من يوم ما بدأت الحرب ما نعرف عنه شيء" تحكي صاحبة الثمانية والثلاثين ربيعًا.

بالوشاح السوداني المميز تقف عايدة أمام طاولة المعروضات، تُخبر القادمين إلى محمية وادي دجلة في المعادي عن ماهية المنتجات المتنوعة، هذه حافظة جلد صنعتها بالمنزل، وتلك دلاية نتاج يد شقيقتها الكبرى عوضية، وهذا تمر هندي يطلقون عليه في السودان "عراديب"، وذاك "دوم" و"نبق" مُحلى، توزع قطع منه على المتواجدين.

تستقبل السيدة الاندهاش على الوجوه من لفظ حلوى، تقابله بشرح كيف ورثت ذلك عن والدتها "كنا نجمع الثمر ونطلع منه البذر ونجيب الاطشاط –أواني- الكبيرة ونرش عليه ماي بسكر ونسيبه يجف ونعبيه"، صنعة عرفتها الأمهات في السودان، فيما صارت اليوم منتج تتولى تكلفته شركات صغيرة، أما المنتجات الخشبية الفنية فهي ملك أفكار شقيقها "رحمة"، نقلها من شارع "الغابة" المعروف بتواجد الحرفيين في الخرطوم حيث كان يعمل، إلى المعارض والفاعليات في القاهرة.

2

لم يكن اجتماع منتجات الأشقاء معًا بهين. تطلب الأمر نحو عامين حتى التأم شملهم في مصر. زحفت عايدة من كردفان شأن 250 ألفًا فروا مع اندلاع الحرب وفقا للأمم المتحدة عام 2011. "خرجنا برجلينا بالهدوم اللي لابسينها على جسمنا بس. جرينا وسبت كل حاجة اتحرقت" تتذكر السيدة كيف غادرت مكانها دون شيء إلا أولادها.

رفقة أكبر أبنائها ريماس –تبلغ الآن 17 سنة، وصغار ثلاثة وخامسهم الذعر، سارت الأم نحو 12 كيلو مترًا حتى بلغت نقطة بعيدة عن القتل، عند قرية هبيلة –غرب السودان- أوت إلى شجرة، أمضت أولى لياليها العصيبة وأكملت المسير حتى لاح صوت محركات السيارات، استقلت سيارة نقل "لوري" إلى نقطة تسمى سوق ليبيا في العاصمة الخرطوم، أملت في ونس ومصدر رزق تنفق منه على صغارها.

ثلاثة أشهر عملت في السوق ضمن بائعات الشاي، فيما وفر قريب لها مكان إقامة، لكن ظل الأمان غائبًا "ناس اشتكونا أننا جايين من مناطق حروبات وعاملين مشاكل فالحكومة استدعتني واستجوبوني"، واصلت عايدة التردد على الأمن لإثبات الحضور "نوع من المراقبة"، ومع ذلك لم تسلم؛ ذات يوم ألقي القبض عليها مع أخريات "أخدونا المعتقل وقعدت 7 يوم". كانت أثقل الأوقات، القلق ينهشها على أبنائها، والمجهول شبح يزداد قوة كلما انفتح الباب، يتغذى على فتات الخبز الذي يمر إلى عايدة ورفيقاتها، فيما لا تزداد السيدة إلا ضعفا.

خرجت عايدة من الاحتجاز في اليوم الثامن، على الفور ارتحلت ثانية وعلى لسانها ما أخبرته لقريبها حينما سألها عن وجهتها "أرض الله واسعة". عند منطقة تنتشر بها محال السمك، مكثت السيدة وعملت في تنظيف الأسماك، لكن الليالي الظلماء لم تنته طيلة بقاء عايدة في السودان "حصلوني الأمن تاني"، وقتها تأكدت أنه ليس لها مكان في بلدها فقررت الخروج إلى أرض أخرى.

جمع القدر عايدة بمن يسهل إجراءات سفرها بعيدا عن جشع السماسرة، أصدر لها ولأولادها كافة الأوراق الرسمية، أرادات السيدة الذهاب إلى ليبيا لوجود الكثير من السودانيين، لكن الوسيط وجهها بالسفر إلى مصر ففعلت، وخلال أيام غادرت إلى حلفا ومنها استقلت الباخرة إلى أسوان، مرة أخرى يرافقها المجهول لكن هذه اللحظة مع ابن خامس يحتضنها، لكن اللطف الخفي كان ينتظرها في مصر.

ما إن وطأت الميناء في أسوان حتى التقت صدفة بإحدى معارفها من السودان، أعطتها شريحة هاتفها المصري ورقم شخص يدعى "هارون" يعرف عمها المتواجد في مصر قبل 18 عامًا، وفي الطريق إليه استقبلها مصري تكفل بإيصالها بعدما وجدها شاردة في ميدان رمسيس، وحتى "الكدر" الذي لحقها وقت استضافتها في منزل "هارون" مع أسرته لظن صاحب العقار أن الرجل السوداني يستأجر الشقة "من الباطن"، كان دافع لبداية جديدة، إذ ذهبت إلى مفوضية شؤون اللاجئين، التي تكفلت بتوفير منزل لها ولأولادها.

يوم أن أمضت عايدة ليلتها في بيتها الجديد "حسيت أني استقريت خلاص". شعور بالراحة يتسلل لنفسها لأول مرة منذ زمن. كان ذلك في مايو 2012، وقت أن تفرغت السيدة إلى توفير الرزق لصغارها، التي عانت أكبرهم جراء ما حدث "ريماس كانت تعيط وتقولي نرجع السودان"، الإقامة في مصر للفتاة لم تكن يسيرة لكن بالنسبة للأم، المضايقات أهون من الموت.

ذاقت عايدة طعم النجاة، تمسكت به رغم مرارة الثمن، لذلك حين توفى أصحاب المنزل الذي عملت به في القاهرة، ولم تجد من يماثلهم في حسن المعاملة؛ أدارت دفتها نحو ما علمته لها والدتها، وتيسر لها الطريق أمام هذا بمعرفة أحد السودانيين يقيم ورش للمصنوعات اليدوية، تلقت السيدة التدريب لـ6 شهور ثم انطلقت في جلد تعمل متجاوزة اليأس "فضلت اشتغل وأعرف الأماكن لغاية ما بقى يجيلي دعوات مشاركة في معارض"، واشتد عضدها بالوصول إلى شقيقيها، ليشاركاها السبيل، فمع ما تصنعه بيداها وجدت ضالتها "لاقيت روحي مع الحاجات دي".

3

رحلة متخمة بالتفاصيل، لم تغب فيها الابتسامة، تذكر عايدة حين ذهبت لتطعيم ابنها الأخير، فأخبرت موظف الصحة عن اسمه "مؤيد مبارك" ليصيح فيها الرجل ناهرًا إياها "يعني بعد الثورة وجايبالنا ابنك بالاسم ده"، لم تفهم السيدة السودانية غضب الموظف من اسم ابنها وأبيه إلا بعدما شرح لها.

تواصل عايدة حياتها، كبر الصغار، لكن لا يغادرها ما كان "لما بقعد مع نفسي أتذكر أقول رحلة يا كنت طلعت منها معنديش ثقة نفسي أو كنت اتجنيت"، فكرت السيدة كثيرا في الانتحار لكنها تتراجع كلما نظرت لأولادها بينما ينتظرونها في الشرفة حتى عودتها للمنزل، فيهم كان الملاذ من الموت، ولأجلهم ثبتت أقدامها وأيديها عن الارتعاش حتى بلغت السبيل.

فيديو قد يعجبك: