من أستراليا لكل العالم.. مصراوي يحاور أول مصممة أزياء مصابة بالشلل الرباعي
حوار- رنا الجميعي:
كانت كارول تايلور، المحامية ومصممة الأزياء الأسترالية، تسير بكرسيها المُتحرك وسط عارضي الأزياء التي صممتها، ابتسامات عريضة وتصفيق حاد تلقته كارول من مشاهدي العرض، الذين رأوا أمامهم 9 عارضين من ذوي الاحتياجات الخاصة يرتدون ما أسمته المصممة الأسترالية "الأزياء المُكيّفة"، كان ذلك في أغسطس الماضي، حيث أسبوع الموضة التابع لـ"مرسيدس بنز"، المقام داخل مدينة بريسبان بأستراليا، في عامه الثالث عشر.
انتشرت صور عارضي الأزياء على مواقع التواصل الاجتماعي، كان وقع الصور كبيرًا على نفوس رواد الفيسبوك، محبة واندهاش، ويقين بأن الإرادة أقوى من أي شئ، هذا كان حالهم، لم تنحصر الصور داخل أستراليا فقط، حيث حصلت على آلاف المشاركات،حتى وصلت لزائري الفيسبوك المصريين، الذين تفاعلوا معها بحُبّ.
التاسع من يوليو 2001
القصة لا تبدأ بمشهد عرض الأزياء الفريد من نوعه الخاص بذوي الاحتياجات، لكنه يبدأ قبل ذلك بكثير، يُمكن سرد الحكاية منذ يوم التاسع من يوليو عام 2001، لا تنسى كارول ذلك التاريخ، فهناك لحظات لا يصير فيها المرء كما كان قبلها.
قبل ذلك اليوم كانت كارول مشغولة بمجال المحاماة، تحديدًا القانون التجاري وقانون الهجرة، وكانت مستقرة مع زوجها روبرت، يقومان ببناء حياتهما سويًا، ويحلمان بإنجاب طفل، غير أن القدر كان يحمل لها تدبيرًا آخر.
في صباح يوم التاسع من يوليو، كان روبرت وكارول في طريقهما للعودة للبيت بعد قضائهما الإجازة، غير أن الجليد أعاق طريقهما، وانقلبت السيارة، انهار السقف وضرب الجزء الخلفي من رقبة كارول، حينها شعرت بشلل في رقبتها، وفي اللحظة التالية لم تعرف كيف تحرك قدميها "وقتها عرفت أني لن أتمكن من السير بقية حياتي".
لم تستوعب كارول ما يحدث، غير أنها وجدت طائرة هليكوبتر تهبط على الأرض، وكمشهد سينمائي يجري من حولها، هناك الكثير ممن يتحلّق حول السيارة المنقلبة، وكارول داخلها تصارع الحياة، ثم قامت الطائرة بنقلها للمستشفى التي ستقضي فيها عامًا هناك.
الحياة على كرسي متحرك
"شلل رباعي".. تلك كانت إصابة كارول نتيجة الحادث، تغيّرت حياتها للأبد، كما تقول لمصراوي عبر البريد الإلكتروني. رغم كل ما كان يحدث حول كارول حتى نقلها للمستشفى، لم تكن تفكر سوى في شئ واحد "هل سأتمكن من الإنجاب أم لا؟"، وُضعت كارول على جهاز الإنعاش، حيث انهارت رئتها اليسرى، ولفترة طويلة لم تتمكن من التحدث "كان زوجي وأختي يمسكان الحروف الأبجدية لأتهجاها"، وبجانب تلك المعاناة كان هناك سؤال آخر يدور في عقل كارول.
لم تنتظر كارول بتحقق أسوأ كوابيسها، بل بادرت هي بطرحه، حيث طلبت من روبرت الطلاق "لكن والحمدلله كانت إجابته لا".
بعد خروج كارول من المستشفى خضعت لشهور من العلاج الطبيعي المؤلم، حتى استرد ذراعها بعض الحركة "لكن استمرت صوابعي في حالة شلل"، وبعد مدة طويلة تمكنت لأول مرة من رفع كوب من دون مساعدة "كان انتصار مرهق"، كما قضيت ساعات في صالة الألعاب برفقة المعالج الرياضي، تلك الأوقات كانت مُحبِطة، لم تر فيها المحامية أي نتيجة، لكن مع تصميمها تمكنت من تقوية عضلات ذراعيها، والذي كان بفضله نجاحها في الكتابة بيديها، رغم استحالة ذلك مع مريض بالشلل الرباعي.
الحُب مُنقذ ومُنجي
لا تنْس كارول دعم زوجها، ففي كل خطوة منحها روبرت القوة لمواصلة القتال، غير أن اللحظة الأكثر امتنانًا لها؛ كانت في 12 سبتمبر 2001، أي تقريبًا بعد الحادث بشهرين، حينها كان اليوم الأول الذي تجلس فيه كارول على كرسي متحرك، وتزامنا تمر الذكرى الثالثة لزواجها أيضًا.
تذكر كارول حين سار بها روبرت للمقهى التابع للمستشفى، هناك كان والداها واقفين، بينما كانت تدار الموسيقى التي لعبت في فرحها كخلفية مُفاجئة، وعلى وقعها انحنى روبرت على ركبتيه أمام كارول مُجدِّدًا عهود الزفاف.
الدعم اللانهائي الذي وجدته كارول من زوجها، وقوتها النابعة داخلها، ذلك كان وقود حياة المحامية ومصممة الأزياء، لتتمكن من ترتيبها مرة أخرى بعد بعثرتها، ولكن بشكل جديد. كانت السنوات الأربع بعد الحادث هي الأصعب، مُحاولة التكيف مع الحياة الجديدة، وجسدها المشلول "وظيفتي كانت على شفا النهاية، كل ما عملت من أجله بصعوبة يضيع".
كانت أصغر الأشياء تدفع كارول للحافة، لازالت تتذكر بوضوح اللحظة التي فتح فيها روبرت باب البيت بعد عام كامل من قضائه في المستشفى "كان ذلك هو نفس الباب الذي حملني عبره كعروسة منذ ثلاث سنوات"، كما كانت تتذكر أشعة الشمس التي تتسلط على الخدوش الموجودة بأرضية الصالة، مُذكّرة إياها بالأحذية ذات الكعب العالي "أحذية أعرف أني لن أرتديها مُجددًا".
في السنوات الأولى بعد الإصابة ارتدت كارول الأحذية والبناطيل الرياضية "ويبدو أن تلك هي الملابس المناسبة لمن هم أمثالي"، تفترض كارول أن تلك الملابس كانت الأسهل على الممرضين والمساندين لذوي الإعاقات، غير أن غُصّة ما كانت دومًا عالقة بحلق كارول في كل مرة يساعدها فيها أحدهم لارتداء تلك الملابس.
لماذا لا يرتدي ذوي الاحتياجات على الموضة؟
تُحب كارول الموضة، وترى أن ارتداء الأزياء على الموضة من حقها، كأي شخص آخر، فضلًا عن أنها تؤثر على الهوية والثقة بالنفس "والأهم من ذلك أنها تؤثر على الطريقة التي ينظر بها العالم الخارجي إلينا ويعاملنا بها، تخيلي الذهاب لمقابلة عمل بالزي الرياضي؟ هل هذا مناسب؟".
تصف كارول زوجها بالمُصارع، فبجانب كل تلك الاحباطات، كان بداخلها الهزيمة الأكبر، وهي عدم تمكنها من الإنجاب "كنا مُدركين أني يجب أن أجد ما يُلهيني ويجعلني أتعامل مع اضطراب ما بعد الصدمة"، في ظهر يوم أحد وصل روبرت وبيده مجموعة من فرش الألوان، وفي يده الأخرى نموذج تسجيل لدروس الفنون بإحدى الكليات "لم أكن رسمت من قبل، فكرت أنه مجنون".
الفن كـ"يُوجا"
مع ذلك حضرت كارول صف واحد مع مجموعة من الطلبة الذين تجنبوا التعامل معها، كما كان مدرب الرسم "تجاهلوا وجودي تمامًا"، حتى أن المدرب وجّه حديثه مع روبرت، كما لو كانت كارول غير موجودة، ورشّح له فن الرسم بالرش على القماش "ذهبت إلى البيت باكية، ولم أعد مجددًا".
مع دعم روبرت كانت كارول مصممة على إيجاد طريقة لاحتضان الجمال بها، قضيت سنوات لتُعّلم نفسها الرسم عبر الكتب والأسطوانات المدمجة، بالفعل شعرت بتحسن مع الوقت، في البداية ركزت على الرسم بالزيت، قبل أن تشعر بالغواية تجاه الألوان المائية، تقول كارول عن الرسم "الفن أصبح اليوجا الخاصة بي"، والآن هي تقوم ببيع أعمالها الفنية، حتى أنها قامت بمزاد علني لأجل أبحاث مرض التصلب العصبي المتعدد وعلاج العمود الفقري، وبجانب فوزها بالعديد من الجوائز الفنية، فقد أصبحت عضو بجمعية الألوان المائية في ولاية كوينزلاند، وجمعية الفنون الملكية.
"دارسي".. المعجزة الصغيرة
مع تمكّن كارول من التأقلم، لكنها لم نتخلى يومًا عن الأمل في الإنجاب، هي وروبرت، وعلى الرغم من 8 سنوات من التلقيح الصناعي و15 عملية نقل للأجنة، لكن كل حالة حمل لم تسفر سوى عن حالات إجهاض "كانت أوقات مُحطّمة لقلوبنا"، تلك الأوقات التي كانت تشعر فيها كارول بالفشل كامرأة وزوجة، لكن في 2005 كانت لهم محاولة أخيرة.
لم تُصدّق كارول نفسها حين وجدت نفسها حامل، واضطرت لقضاء 5 شهور بالسرير للحفاظ على الجنين، كل الأوقات الصعبة التي مرت بها كارول ذابت حين رأتها "المعجزة الصغيرة" كما وصفت ابنها دارسي. الآن لدى الصبي اثنى عشر عامًا.
خلال سنوات كبر دارسي لم تكن كارول سوى أم، وهي الوظيفة الأفضل كما تقول، تخلّت عن المحاماة بسبب إعاقتها، ولكن مع زيادة استقلال دارسي بدأت تشعر أنها بحاجة للعمل، في 2014 وجدت كارول مُحفزًا لعودتها للعمل بقوة، حيث استفادت كثيرًا من التقدم التكنولوجي، الذي أمكنها من تسوية عمليات نقل الملكية في أستراليا عبر الإنترنت، وبفضل ذلك تمكنت من تأسيس شركة محاماة خاصة بها عام 2015، لتكون أول شركة محاماة في كوينزلاند لإجراء تسوية إلكترونية فورية عبر الإنترنت بين ممتلكات تبعد آلاف الكيلومترات عن بعضها البعض.
تصميم "أزياء مُكيّفة" لأربعة رجال من ذوي الاحتياجات
خلال 18 سنة من حياة كارول كانت تشعر فيها بإحباط شديد من تجربة التسوق، حيث أنها لا تتمكن من العثور على ملابس تناسبها، وهي جالسة على الكرسي المتحرك، لم تكن تلك المعاناة الوحيدة، فطبيعة جسدها المريض له اعتبارات أخرى منها أن حرارة الجسم غير مستقرة، مما يتطلب منها تغيير ملابسها حين تشعر بالحرارة أو بالبرد "أحيانًا أضطر لارتداء ملابس أخرى في السيارة أو في الحمام المخصص لذوي الإعاقة".
ولأنها لم تتمكن من شراء ما تُحبه من المتاجر، قررت تصميم ملابسها بنفسها، كانت بارعة في الرسم، وقامت بالتعاون مع خياط يقوم بحياكة تصميماتها، هكذا تمكّنت من التغلب على بعض المشاكل الخاصة بالملابس، منها أنها صممت قفازًا يتغلب على تغير درجة حرارة جسدها، لم يكن يقتصر الأمر على ذلك، بل قامت بتصميم ملابس مناسبة لأربع رجال من ذوي الاحتياجات الخاصة، تُدرك كارول أن الجالس على كُرسي متحرك يحتاج لارتداء ملابس كبيرة الحجم نوعًا حتى يتمكن مقدم الرعاية من إلباسهم إياها "مما يجعل شكلنا بالملابس سخيف"، كما أن عضلات الجسد المشلول تنهار بسبب الجلوس مدى الحياة على كرسي متحرك "لذا كنت أخذ في اعتباري كل تلك المشاكل منها استخدامي لأزرار مغناطيسية".
تُدرك كارول جيدًا ما يُعانيه ذوي الاحتياجات حين يرتدون الملابس، أدقّ التفاصيل التي تضايقهم، لذا حين تواصل معها مهرجان مرسيدس بنز، لتصميم مجموعة من 9 قطع للملابس المكيفة، لم تخف من التجربة، وفي الحال وافقت.
لكل مصمم يقوم بعرض مجموعته بأسبوع الموضة في بريسبان العمل عليها لمدة عام كامل، حتى يتمكن من الانتهاء، لكن كارول كان لديها 12 أسبوع فقط، خلالهم كان النوم أمر اختياري، تقول كارول إن مفهوم "الملابس المكيفة" ليس جديدًا، لكن من وجهة نظرها فإن الملابس تأخذ شكلًا عمليًا أكثر، أما مجموعتها فقد رغبت في أن تكون عصرية.
مشروع "MeQ"
تضجّ كارول بالحياة، لذا أرادت لمجموعتها أن تمتلئ بالألوان، الأزرق كلون البحر والأحمر الصارخ والبنفسجي والعديد من الألوان الأخرى استخدمتها في التصميمات، كان التسعة عارضين مُحاطين بنظرات الإعجاب، بعضهم يجلس على الكراسي المتحركة، وآخرين يمشون لكن مُصابين في الحبل الشوكي، بيما تبتسم واحدة منهم وهي تسير بقدم صناعية مُرتدية فستانًا جميلًا لا يُخفي إعاقتها، وفي النهاية حين ظهرت كارول بالعرض كانت على وجهها أكبر ابتسامة ممكنة، تتذكر أن ذلك لم يكن يحدث لولا جائزة الفنون التي حازت عليها في 2018، وكانت قدرها 10,000 دولار.
بمقدار تلك الجائزة تمكّنت كارول من تأسيس خط أزياء خاص بها تحت اسم "MeQ"، وكان ذلك هو عرض الأزياء الأول له.
خلال أسابيع العمل قامت كارول باستلهام مجموعتها من أساطير هوليوود الكلاسيكية، كما قامت بإحلال بعض المواد مثل الأزرار التي جعلتها مغناطيسية، حتى السّحابات جعلتها إما مغناطيسية أو مخفية تمامًا.
هناك حوالي 20% من المجتمع الأسترالي من ذوي الاحتياجات الخاصة، لا يُفكر فيهم مصممي الأزياء، لذا فإن خط الأزياء الخاص بكارول يعبر عنهم، وتُحاول من خلال مشروعها تغيير المشهد الثابت في مجال الموضة "أحب أن أرى ذوي الاحتياجات يصطفون أمام بروفات المتاجر، نحن بحاجة للشعور بأننا أشخاص جميلة"، تقول كارول إن تلك النسبة الموجودة بالمجتمع الأسترالي هم حصة سوقية كبيرة، وأن العلامات التجارية قررت تجاهلهم "لذا أنا أفكر الآن في تحويله لبيزنس أيضًا".
أطلقت كارول على مشروعها اسم "MeQ"، واستوحته من مرض الشلل الرباعي "quadriplegic"، عبر ذلك الحُلم تودّ كارول أن يصبح لها صوتها الخاص في الأزياء، وأن تفتح خط لتطوير الملابس لتكون بذلك أول مصممة في العالم للشلل الرباعي.
فيديو قد يعجبك: