إعلان

حلم الطب الضائع على الطريق السريع.. مصابات المنيا "مش هنشتغل دكاترة تاني"

10:24 م الأحد 19 يناير 2020

الحادث

كتبت – مها صلاح الدين:
تصوير - أحمد السهيتي:

فتحت الدكتورة سلمى عينيها فوجدت نفسها ملقاة على الأرض في مكان غريب، لا تتذكر شيئًا، لا ترى سوى أغراب يتحركون في فوضى من حولها، ولا تسمع سوى صوت سارينات الإسعاف "خوفت.. حسيت إني بتخطف ".

قررت أن تهاتف شقيقها الأكبر بسرعة "قولته أنا في مكان غريب تعالى خدني من هنا"، كانت تعتقد أنها في طريقها للجامعة أو العمل، لم تكن تدرك أن هناك حادثًا.

في اللحظة نفسها هاتفت زميلتها الدكتورة فاطمة زوجها أكثر من 15 مكالمة، لتبلغه بنفس النبرة المذعورة "أنا عملت حادث"، وفي كل مرة كانت تخبره وكأنها أول مرة.

سلمى وفاطمة طبيبتان من مصابي حادث ميكروباص المنيا، الذي راح ضحيته 3 طبيبات والسائق، وأصيبت الأخريات – 12 طبيبة - بإصابات متفاوتة بعضهن في حالات حرجة.

عايش "مصراوي" أحوال الطبيبتين بعد مرور 48 ساعة من الحادث؛ ليعرف ماذا يتذكرن من الحادث وكيف ترك أثره في نفوسهن.

الدكتورة سلمى حسونة

قرية الجزائر – مركز سمالوط

كان شقيق الدكتورة سلمى الأكبر، أحمد، يتناول إفطاره في السابعة والنصف صباحًا، حينما تلقى مكالمتها، تفاجأ بصوتها المفزوع في الهاتف "كانت بتقول كلام مش مفهوم.. أنا مين وأنا فين، مفهمتش منها حاجة"، ذكرَّها أنها كانت في طريقها إلى تدريب بالقاهرة، لم يفهم شيئًا حتى أخذ أحدهم منها الهاتف، وأخبره أن شقيقته ضمن 12 طبيبة من المنيا كنَّ ضحايا حادث سير قرب حلوان، يتذكر أحمد، "لما عرفت بالتدريب قولتلها بلاش تروحي، قالتلي فيه تهديد إنه لو مروحتش أتنقل، فاضطريت أوافق، واتفاجئت الصبح إنهم هيسافروا بميكروباص عادي".

صورة 1

بعد تلك المكالمة، أيقظ شقيقه، وتوجها إلى القاهرة على الفور، وأدركت سلمى ما جرى "بدأت أحس إني كنت في حادث، وإن صحابي حواليا غرقانين دم"، بدأت تشعر بآلام شديدة في أماكن متفرقة من جسدها، في البداية كانت تظن أن ساقها قد انكسرت، وبعدها شعرت بألم شديد في الظهر، فظنت أنها تعاني من نزيف داخلي في المعدة "كنت حاسة إني محتاجة سونار فورا"، لكن ما سمعته فيما بعد جعلها تشعر أنها ليست في أسوأ حال، "سمعت إنه فيه وفيات.. فجسمي كله بقى بيترعش، حسيت إني ممكن أموت في أي لحظة".

وبعد نقلها إلى مستشفى حلوان مع زميلتها، نسيت ما أصابها وانتابها القلق عليهن، "كنت قلقانة على زمايلي لإني الوحيدة إللي كنت فايقة، وكان تليفوني شغال، الباقي كلهم تليفوناتهم ضاعت" وعلى سرير أبيض متهالك بدأت تقوم سلمى بمهمة التواصل مع أهالي زميلاتها لتخبرهم بما حدث بصوت واهن.

ظنت سلمى أن كل شيء سيسير على ما يرام، وأن زميلاتها سيصبحنَّ بخير نسبيًا واحدة تلو الأخرى، كانت إصابتها خلعًا في الكتف وكدمة شديدة أسفل الظهر، وصفتها بالبسيطة، حتى جاءها خبر وفاة الدكتورة نورا، "دكتور الاستقبال قال إنها ماتت، وبعدين عملها صدمات كهربائية وقلبها رجعله النبض".

لم تعلم سلمى بأمر وجود وفيات من زميلاتها سوى في نهاية اليوم، الوحيدة التي كانت قلقة لأمرها هي الدكتورة "آمنة"، تقول سلمى "آمنة مكنتش أعرف هي فين.. والدتها كانت بتتصل بيا تقولي آمنة فين يا سلمى ومكنتش بعرف أرد عليها؟!"، بدأت والدتها تبحث عنها في أماكن حالات الوفاة "لما طنط قالتلي إنها بتحاول تشوفها مع الوفيات مقدرتش أستحمل".

وبعد ساعات طويلة، أخبرتها والدة آمنة أنها عثرت عليها في مستشفى 15 مايو، بعد أن نقلها أحدهم بسيارته الخاصة إلى هناك، وهي في غيبوبة، فلم تقيد في كشوف الحادث.

لحظات تشعر سلمى أنها تعيشها حتى الآن، تعاد في ذهنها كل لحظة، تنتفض؛ لتبحث عن صديقاتها فجأة، وتتذكر بعد ذلك أنها الآن في قريتها ووسط أهلها.

لم تكن تعلم سلمى بخبر وفاة الدكتورة نورا، ثالث ضحايا الحادث من الطبيبات، ظهر ذلك اليوم، كان كل أملها هو أن تشفى وتعود إلى الحياة مرة أخرى، لا تسأل من المسؤول ولا تتهم أحدًا، "لو نورا فاقت مش فارق معايا يتحاكموا ولا ميتحاكموش.. لو نورا فاقت هتعوضنا عن غياب سماح ورانيا، لكن لو نورا راحت هيبقى كده كتير بصراحة".

تحول بالنسبة لسلمى حلم الطب -الذي ولد بمجموعٍ كبيرٍ، وراق لها بسبب شقيقها الأكبر الدكتور-، إلى كابوس تحاول أن تهرب منه، لا يعنيها ما سبق الحادث، العمل، التدريب، التهديد، النقل.. أو ما سيعقبه، فهي ما زالت تتوقف بكل جوارحها عند الذي حدث، ليس لديها أي أمل سوى شفاء نورا، ويحاول أن يخفي عليها شقيقها خبر وفاتها، بكل الوسائل، يبعدون الهاتف المحمول عن متناول يدها حتى لا تعرف، وتتعافى مما حدث.

صورة 2

الدكتورة فاطمة منصور

قرية الشراينة – مركز سمالوط

تجلس الدكتورة فاطمة في وهن على سريرها الذي نقلته قبل أيام قليلة من الحادث في شقتها ببيت حماها، تمهيدًا للعيش بها بعد تجهيزها "أول مرة أدخل الشقة دخلتها وأنا متشالة على كرسي".

كانت لا تتذكر أي شيء له علاقة بالحادث، "أنا خدت خبطة في راسي عملتلي فقدان في الذاكرة الحديثة، كل اللي فاكراه إني فُقت وأنا في معهد ناصر".

لم تتذكر أي شيء بعد الحادث إلا رضيعتها، كانت تظن أنها اصطحبتها معها، بدأت تبحث عنها في جنون، حتى أكد لها زملاؤها أنها لم تكن معهم، "كنت مفكرة إني واخدها معايا، كنت بنادي على اسمها كوكي فين.. كوكي فين؟!".

ترددت فاطمة كثيرًا في اصطحاب الطفلة معها، حاول زوجها ووالدتها إقناعها بتركها معهما، "لحد ما كنت بلبس الصبح كنت مقررة إني هاخد بنتي معايا.. بس ماما في آخر لحظة قالتلي لأ.. الحمد لله ماكنِتش هتستحمل خبطة زي دي".

كان الطب هو حلم فاطمة الكبير منذ أن كانت طفلة، توفي والدها في صغرها، وتركها مع أم تعمل مدرسة، أصبح كل هدفها في الحياة أن تعلم أبناءها أفضل تعليم، "كانت طفلة وديعة.. وشاطرة"، يقول عبد الجايد، خال فاطمة وحماها.

ظل عبد الجايد يشجع ابنة أخته على تحقيق حلمها الكبير، "جابت مجموع كبير، واتفوقت على ابني نفسه.. إللي بقى جوزها بعد كده"، وحتى بعد أن تزوجت من ابنه الطبيب الصيدلي، رفض الخال أن تتقدم فاطمة بطلب إجازة رعاية طفلة، الأمر الذي قد يؤخر مسيرتها العلمية والعملية.

لكن فاطمة بعد الحادث أصبح لها رأي آخر، فبدأت تقول بصوت مبحوح وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة، "مش عايزة أرجع الشغل تاني، مش عايزة أي حاجة ليها علاقة بالصحة تاني، أنا كنت خايفة أطلع من المستشفى علشان خايفة أركب مواصلات".

خرجت فاطمة من الحادث بكسر في ضلعها وشرخ في عظام الحوض، وصدمة في الرأس، وكدمات متفرقة في جسدها كله، لكن ما خلفه الحادث في نفسها أكبر من ذلك كله، "حتى لو الكسور اللي فينا اتعالجت، الله أعلم هنتعافى نفسيًا ولا لأ، أنا بتمنى ما أفتكرش أي حاجة ليها علاقة بالحادثة؛ لأن مش هعرف أكمل حياتي لو افتكرت من اللي زمايلي بيقولوه عليها".

وبعد دقائق، انهارت فاطمة بعد أن وصلها خبر وفاة نورا، التي كانت تعلم بتوقف قلبها ثلاث مرات، وعودته إلى الحياة مرة أخرى قائلة، "ليه الناس دي تروح، رانيا اللي ماتت، والدكتورة راعوث، اللي كانت هتروح فيها، وخلاص فقدت إنها تبقي أم تاني، وآمنة اللي شُفتها وأنا بعمل إشاعة ما عرفتهاش من شكلها.. وآدي نورا كمان راحت.. أنا مش عايزة أرجع في مكان مش بيقدر آدميتنا، بيحسسونا إننا ملناش أي لازمة تاني".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان