لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بعد 28 عامًا على زلزال 1992.. رحلة البحث عن أكثم (الحلقة الثانية)

01:25 م الثلاثاء 13 أكتوبر 2020

أكثم سليمان داخل مستشفى هليوبوليس-تصميم/ أحمد كامل

كتب – أحمد الشمسي:

في الحلقة الأولى؛ تجولنا بالقرب من موقع عمارة الموت سابقًا، والتي تحولت مع مرور الزمن إلى مُلحق تابع لكنيسة مارجرجس هليوبوليس، حاولنا طرح الأسئلة على المُحيطين، لكن دون جدوى، لم يُعطنا من قابلنا الأجوبة التي بحثنا عنها.. ونصحنا بعضهم بالذهاب إلى مستشفى هليوبوليس كونها استقبلت مُصابي وضحايا الحادث آنذاك.

يحمل رقم (1) في شارع الحجاز، مبنى عجوز، ما زال يحمل نكهة القِدم رغم التجديد الذي طاله، والدهانات الحديثة التي صقلته، هو في الأصل كان قصرًا للأميرة فريال، قبل أن تتبرع به؛ ليُصبح مستشفى سنة 1950.

داخل المستشفى؛ سألنا عن أقدم شخص يمكنه إفادتنا، أجمعوا على "عم طلعت"، رجل النظافة الأقدم، يجوب الأدوار كلها، لكنه يفضل دومًا طابقه الأرضي، بحثنا عنه حتى وجدناه، قابضًا بيديه على عصا طويلة في نهايتها من الأسفل مسَّاحة جلدية تحتك بالبلاط المزايكو القديم المُغطي لأرضية البدروم فتُنظفه تنظيفًا.

- انهلنا عليه بأسئلتنا.

= كان يتذكر جيدًا الواقعة: "ده يوم مينفعش يتنسي.. أنا كنت موجود في المستشفى وقتها.. وأكثم قعد هنا فى المستشفى يومين وبعدين نقلوه مستشفى الشرطة اللي في العجوزة هو وأخته اللي كانت بردو مصابة.. كانت حادثة صعبة جدًا علينا كلنا.. لأن بنته ومراته وأمه ماتوا جنبه". ولا يعلم عم طلعت شيئًا عن مصير أكثم: "معرفش هو مات ولا عايش ولا إيه ظروفه!".

- سألناه عن أشخاص داخل المستشفى يمكنهم إفادتنا؟

= "كل اللي في دماغي وممكن يفيديك يا إما مات أو طلع معاش".

= يصمت هنيهة قبل أن يُغمغم بابتسامة تكشف عن تفاصيل وجهه المُنكمش: "بص يا أستاذ.. ممكن تسأل رئيسة قسم التمريض (عزة)، أو وكيلة التمريض (سوسن).. كانوا موجودين وقتها.. أو عم محمود عشري ده بردو كان حاضر وأعتقد هيفيدك".

مع دخولك من الباب الرئيسي للمستشفى؛ وعقب تخطيك البهو العتيق، هناك منفذان، لو اتخذت يمينًا ستجد مكتب مدير المستشفى، وقبله غرفة السكرتارية الخاصة به، فيما إذا سلكت يسارًا، فستجد غرفة التمريض، ووكيلة القسم، ينادونها "ميس سوسن"، تجلس على مكتب، كانت منشغلة بفحص بعض الأوراق أمامها.

= عندما بدأنا الحديث، استرسلت بصوت متقطع، تروي: كم كان المشهد مُخيفًا، صوت انفجار يُزلزل المستشفى، ثم سحابة من التراب والعُفار، تتحرك من الميدان صوب المستشفى، ظنَ العاملون داخل المستشفى أن "البنزينة" التي كانت بالقرب من ميدان هليوبوليس انفجرت، لم يكونوا مستوعبين كلمة "زلزال"، كما تقول سوسن -الممرضة وقتها- "مصر مكنتش تعرف يعني إيه زلازل..."، قبل أن تفوت دقائق معدودة، ويبدأ الأهالي وسيارات الإسعاف في نقل الجثث والمصابين.

- ارتسمت ابتسامة رقيقة على وجه سوسن، عندما سألناها عن أكثم؟.

= تتنهد وتُسهب في الحديث وكأنه بالفعل حدث بالأمس: "ياااااه.. إحنا قعدنا في المستشفى ساعتها طوارئ لمدة 4 أيام.. مروحناش بيوتنا"، قبل أن تختص بحديثها عن المعجزة: "في اليوم الرابع.. لقينا الناس داخلة المستشفى وبيكبروا: (الله أكبر.. معانا واحد حي من العمارة).

تحول الوجوم على وجوه جميع مَنْ في المستشفى إلى فرح، تمردت ملامحهم عن الواقع المأساوي الحزين، ومناظر الجثث، ورائحة الموت.

= دخل أكثم محمولاً، وكأنه عريس يزفونه ليلة عُرسه، وانطلقت الزغاريد: "متقولش أكثم ده كان من بقية أهلنا". وجوده أذاب إرهاق الأيام العصيبة: "ناس كتير جدًا ميتة.. وأهاليهم مكنوش عارفين يتعرفوا عليهم.. واحد يجي يشوف أكتر من 20 جثة وميعرفهاش إلا لو فيها علامة مميزة (خاتم مثلا في صباعه)".

= تتذكر "ميس سوسن" جيدًا كيف أصبح أكثم في ذلك اليوم: "كان مصدوم.. مكنش متزن.. كان يقعد يتكلم معاك كويس.. لكن لما تطول معاه في الكلام.. يقعد يهذي بكلام غير مفهوم.. وإحنا بصراحة مكناش عاوزين نفكره بالحادثة.. بالبلدي مش عاوزين نقلب عليه المواجع".

تستعجب "سوسن" من نموذج مثل أكثم، ليس كونه قضى 82 ساعة تحت الأنقاض وخرج حيًا.

= لأن التحاليل وصور الأشعة التي أجراها للاطمئنان عليه كانت طبيعية جدًا: "دي مش تحاليل واحد قعد 3 أيام وشوية تحت الأنقاض أبدًا"، تُشير "سوسن" إلى أكثر ما أسعدها خلال تواجد أكثم: "في اليوم التاني.. قالنا نفسي أكل شوية فول".

= على الفور أحضرت "سوسن" طبق ألومنيوم: "زمان كنا بنجيب الفول في طبق مش في أكياس زي دلوقتي"، ثم هممت بتحضير المائدة البسيطة لـ "أكثم".

- وماذا عن أصدقائه؟.

= كانوا كثيرين، لكن كان هناك شخص هو الأقرب له، لا تتذكر اسمه للأسف. تعتقد "سوسن" من أحاديث الممرضات والأطباء الذي دار بعد زلزال 92، أن أكثم سافر إلى إيطاليا مرة أخرى (موطن زوجته)، وربما توفي هناك، لكنها لم تسمع عنه أي شيء يدل على وجوده في مصر..

بعد أن أنهينا حديثنا مع "سوسن"؛ نصحونا بالتوجه إلى محمود عشري، رجل في منتصف الخمسينات، ويعمل معاونًا بمستشفى هليوبوليس وعاصر كارثة الزلزال.

= "يدوبك كنت بعدي البنزينة المشهورة اللي في ميدان هليوبوليس.. وسمعت صوت دبّة جامدة.. كنت حاسس إن الأرض هتنشق وتبلعني"..

يتذكر محمود عشري، معاون مستشفى هليوبوليس يوم الزلزال وكأنه أمس، كان وقتها يعمل مساعدًا لمعاون المستشفى، ومهمة المعاون هي من المفترض تسكين المرضى، والإشراف على المطبخ، وتسهيل استخراج تصاريح الدفن وأسباب الوفاة ومتابعة عمليات التشريح، إذا كان هناك فعل جنائي.

الغرفة التي يقبع بها محمود عشري، صاحب الـ 55 عامًا، هي نفسها التي كان يتواجد بها وقت الزلزال.

= "أول ما العمارة وقعت.. جالنا ساعتها بتاع حوالي 15 حالة ميتين من العمارة.. كانت الجثث بتيجي ورا بعض".


= امتلأت ثلاجة المشرحة عن آخرها، فكان السبيل الوحيد هو وضع الجثث جوار بعضها، مع محاولة الحفاظ عليها بوضع ألواح الثلج، وفيما كانت تتكدس الجثث داخل المستشفى، كانت سيارات المحافظة تحوم حول أطلال العمارة، لنقل الخزائن، وما يخرج من تحت الأنقاض: "أي حاجة كانت بتتحمل على عربيات النصر ويتم إرسالها لمبنى محافظة القاهرة"..

بعد ثلاثة أيام ونصف اليوم ومع قيام الأوناش بمهامها في إزالة الحطام.

= سمع محمود عشري صوت جلبة وتكبير: "اتضح إنهم طلعوا واحد صاحي.. كان عمود باب الشقة حايش عنه السقف.. وعرفنا قصته من وقتها، ونقلوه للمستشفى هنا واتعالج شوية ومشي".

مهنة محمود عشري القاسية، تُلصق بذاكرته تفاصيل مُرعبة، يسرح بخياله وهو في كامل يقظته في مشاهد الجثث، وثلاجة المشرحة، وكثيرًا ما يُغمغم ويُتمتم وهو يغُط في نومٍ عميق، وهو ما يدعو أولاده إلى سؤاله دائمًا: "يا بابا أنت كنت بتتكلم وأنت نايم؟!".

= يروي ما يعرفه عن "أكثم": "أظن أنه راح السعودية واعتكف هناك"، قبل أن يستطرد بقوله: "لأ.. والله سمعت إنه اتوفى من سنتين ودفنوه في البقيع".

- سألناه عن مصدر رواية الوفاة؟

= فأجاب في ثقة: "يعني.. الكلام مع أصحابنا بيجيب بعضه.. واحد يقولك تصدق إنه راح السعودية.. وتاني يقولك تصدق إنه مات... وهكذا"..

حاولت الحصول على معلومات أخرى من "عشري"، من أرشيف المستشفى، الذي ربما يحوي أدلة تُشير إلى مكان وجود أكثم.

= لكنه أكد أن هذا الأرشيف يتم إعدامه مع مرور 10 أو 15 سنة عليه.

وقبل أن أنهي حديثي مع "عشري" نصحني بالذهاب إلى "عم عاطف"، من أقدم الفكهانية في المنطقة، ويملُك فرشة بجوار المستشفى.

أمام فرشة فاكهته يجلس عم عاطف مرتديًّا جلبابًا صعيديًّا متحدثًا بلهجة جنوبية أصيلة رغم أنه لم يعش في الصعيد قط، لكن هذا ما ورثه من والده وأعمامه، كان في منتصف العشرينات عندما وقع الزلزال.

= ذكرياته عن الحادث المأساوي كسابقيه من الشهود مليئة بالعفار والغبار، وهو ما دعاه إلى القفز إلى أقرب سيارة ليحتمي بداخلها: "والله إحنا قولنا القيامة قامت!!".

= "عاطف" ربما هو الشخص الوحيد الذي كان له ذكريات مع "أكثم" قبل الزلزال: "كان زبوني.. كل أسبوع يجي يشتري مني فاكهة.. ويمشي"، ملامح أكثم لا تغيب عن ذهن "عاطف".

يقول عنه إنه رجل وسيم ومؤدب وخلوق. قبل أن يُشير بعدم معرفته بمكانه: "والله فيه ناس بتقول إنه اتوفى.. وفيه ناس بتقول إنه لسه حي.. الله أعلم.. مقدرش أقول حاجة معرفهاش".

اكتفينا بأحاديث المستشفى، وظهرت أمامنا الفرضيات، إما أن يكون تُوفي أكثم بالفعل خارج مصر، قرر السفر والهروب بعيدًا بعد أن فقد ابنته وزوجته ووالدته.. ربما ما زال حيًّا، لكن لا أحد يعلم أين ذهب، ولماذا اختفى؟، ربما سافر إلى إيطاليا حيث موطن زوجته تنسيانا.

مع الحيرة؛ قررنا الذهاب إلى دار الوثائق، حيث الصُحف القديمة التي غطت الحدث، ربما حوار صحفي مع أكثم منذ 28 عامًا يكشف عن خيوط رُبما تدُلنا عليه... وربما تظهر فرضية أخرى لم تكن في الحُسبان.. سنرى...

اقرأ أيضًا:
لقراءة جميع حلقات رحلة البحث عن أكثم.. اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان