من سوريا الحرب إلى باريس.. حكاية الشيف الخالدي الذي صار اسمًا عالميًا (حوار)
كتبت-منى الموجي ورنا الجميعي:
لكل شخص حكاية، تاريخ شخصي يتشكّل عبر الزمن، ربما يبدو عاديًا أن فلانًا قد صار مهندس أو طبيب، أو حتى شيف، لكن السوري محمد الخالدي لم تكن حكايته عادية، فقد مرّت الحرب به، ويا ويل من تمرّ الحرب بحياته فتقلبها رأسًا على عقب.
الآن تستقر الحياة بالطباخ السوري محمد الخالدي، يُحقق النجاحات والإنجازات، لديه بيت وأسرة وأولاد، حيث يعيش في العاصمة الفرنسية، لكن ذلك الحال المُستقر لم يأت بسهولة، فذات يوم لم يكن في جيبه أكثر من 800 دولار، اضطر إلى الابتعاد عن زوجته وأولاده لعامين ونصف، ليبدأ حياته العملية من جديد في سن الواحد والثلاثين، كأن الزمن يُعيده لمنطقة الصفر مُجددًا، لم يكفيه أن الخالدي شقى وتعب لأكثر من عشر سنوات، حتى أصبح اسمًا بارزًا في مجال الأكل بسوريا ولبنان.
تبدأ الحكاية منذ الصغر؛ حين كان الخالدي في عمر الثالثة عشر "فيه عندنا عادة في سوريا إنه الولد في العمر ده يخرج برة العيلة، ويشتغل في مهن جديدة، عشان يتعلم المسئولية، وبعدها بيكون الخيار له إما يشق بعد كدا طريقه لوحده، أو يمتهن مهنة العيلة"، عمل الخالدي بمهن عديدة، تنقل بين النجارة والحدادة وغيرها، لكن اللحظة الفارقة بالنسبة له كانت حين دخل العالم الخلفي للمطاعم، يحكي الخالدي كأنما لازال مسحورًا باللحظات الأولى تلك "المطاعم بتطلب عمالة خارجية في أيام الأجازات، دخلت وقتها المطبخ لقيت سيمفونية بين الحلل والعاملين"، كانت لحظة استثنائية بالنسبة لخالدي، بهره ذلك العالم، وحين بحث بعينيه عن المُسيطر عن تلك السيمفونية، وجده يقف في المنتصف كما المايسترو، يُشير بيديه موافقًا على تلك الأكلة أو معترضًا فيتم رميها وطبخ واحدة غيرها "مسكت صاحبي وقولتله ده مكاني وحلمي من كتر الطاقة اللي بتشع في المكان"، وقد كان.
درس الخالدي في كلية السياحة والفنادق بدمشق، اكتسب خبرة في جودة المطاعم، وفي عام 2004 أطلق أول مشروعه "أورانج بار"، كانت مطاعم سوريا في ذلك الوقت مقتصرة على الطبقة الغنية، ففكر الخالدي في عمل مطعم متنقل "كشك"، وقد سمّاه "أورانج" أي برتقالي لأن كل ما يقدمه من طعام باللون البرتقالي " عملت 18 كشك في سوريا ولبنان"، عدة نقلات أخذها الخالدي في حياته المهنية، حيث ساهمت طفرة المولات في سوريا في فتح المجال له بالعمل كخبير جودة، وقد امتلك مطعمًا في العاصمة السورية، ومع الوقت صار اسمه بارزًا في عالم المطاعم، إلى أن تغير الوضع في مارس 2011.
وقتها كان الخالدي، مثله ككثيرين في سوريا، مُتابعين جيدين لأخبار الثورة المصرية "قولنا هي قلبة وقومة مكناش متوقعين كل الدراما اللي حصلت"، في الشهور الأولى لم يُفكّر الخالدي سوى بالمساعدة "الدم مفيهوش اتنين يختلفوا عليه، ومكنش فيه حاجة تانية أعملها غير إني أساعد الناس، وأنا كانت قوتي إني عندي شبكة ناس كبيرة أوي"، بالفعل استطاع الخالدي تأمين الطعام للسوريين، لكن حدث ما لم يتوقعه بعد ذلك.
في أغسطس كان الخالدي يصلي مع رفاقه داخل المسجد، وما إن همّ بالخروج حتى وجد السماء تنهال عليهم بالصواريخ "جريت على عيالي ومراتي أخدتهم وهربت، لكن معرفتش أسحب إلا 800 دولار"، لم يُفكّر الخالدي وقتها سوى بالابتعاد عن مشاهد الحرب تلك "وبفكر إنه أنا ببعد شوية وبرجع تاني"، لم يكن يعلم أنه لن يدخل بلده مُجددًا.
سافر الخالدي وأسرته إلى لبنان، كونه نصف لبناني، وزوجته لبنانية أيضًا، ويُشير إلى أن السفر بين سوريا ولبنان لم يحتاج إلى جواز السفر "عشان كدا زوجتي مكنش معاها إلا البطاقة، بس أنا كنت بحمل باسبوري لأني بتحرك بيه طول الوقت"، وبسبب ذلك اضطر الخالدي أن يترك أسرته في لبنان راحلًا بعيدًا عنهم "حتى أقدر أبدأ حياة تانية وأجيبهم معايا بعد كدا".
رحل الخالدي عن لبنان إلى تركيا "لكن مقدرتش أقعد فيها أكتر من 4 ساعات"، لم يشعر السوري بالراحة داخل الأجواء التركية، فغادرها إلى مصر "وهناك استقريت"، يشعر الخالدي بالحب تجاه مصر، فهي البلد التي تربى على دراما المسلسلات الخاصة بها، كما أنها تُشبه في أجواءها كثيرًا سوريا "ووصلت مصر في 2012".
ظلّ الخالدي لأكثر من عام يُحاول كثيرًا، قلبه عالق بين سوريا ولبنان، وجسده في مصر، حتى استقر به الحال في النصف الثاني من 2013، حيث كان يعدّ الأوراق اللازمة لأسرته، والذين تمكنوا من اللحاق به عام 2014، وكان قد اشترك في مشروع كبير عبارة عن قاعة أفراح ومطعم وكافيه.
وقتها كانت مرت سنوات منذ فراق الخالدي عن أسرته، إلا أنه لم يعطي نفسه فرصة للعودة للوراء "معنديش وقت أفكر في الماضي، امتى أفكر في اللي حصلي ده لما يبقى عمري ستين سنة"، فقد كان يعلم معنى المسئولية جيدًا "كنت أطلع المقطم أعيط لأن مفيش حد فينا سوبر هيرو، أبكي بس مش بشكل يأثر على قراراتي"، لذا كان يضع نُصب عينيه دائمًا حلمه بمجال المطاعم وأسرته "كنت دايمًا أفكر في حل المشكلة اللي أدامي".
هكذا ظلّ الخالدي يتعامل مع مشكلاته، حتى حينما اشتدت أحواله في مصر، واضطر آسفًا لأخذ قرار الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، لازال يتذّكر الشيف السوري كيف جمّع أولاده وزوجته وسألهم عمّا يرغبون "طلبت من زوجتي العودة للبنان وأنا أسافر بالبحر"، لكنها رفضت، واختارت البقاء معه لمواجهة نفس المصير "قالتي لا. يا نعيش سوا يا نموت سوا"، كذلك أشرك أطفاله في القرار "رغم صغرهم لكن أنا كنت عايزهم يحسوا بالمسئولية".
كانت الرحلة صعبة؛ خرج الخالدي مع أسرته في 15 يوليو 2014، وعاشوا بالبحر مدة 12 يوم حتى وصلوا إلى أوروبا، يوجز الخالدي كلامه عن الرحلة قائلًا "لو قعدت أتكلم عن الرحلة عمري كله مش هقدر"، وقد أطلق على تلك الرحلة اسم "دولة المركب"، حيث كان يفكر في كيفية بناء دولة في 12 يوم "مفيش أكل ولا شرب، والأهم هو الحفاظ على روحي وروح أسرتي"، كان مطلوبًا منه التحلي بالشجاعة الفائقة، وألا يترك نفسه تتأثر رغم خوفه على أبنائه، حتى وصل إلى إيطاليا، دون لغة ولا دائرة المعارف القوية، كان مُجردًا من كل شئ، ومطلوب منه في ذلك الوقت أن يبدأ خلقه من جديد، لكن بشخصية رجل يبلغ من العمر 34 عام.
ما فعله الخالدي كان أشبه بمعجزة؛ قليلون من يتمكنون من النجاة بعد كل ذلك، وليس النجاة فحسب، بل والنجاح مرة أخرى أيضًا، السر في ذلك كانت في التربية، فقد ربّاه والده على أن الضربة التي لا تكسره تزيده قوة، يتذكر كيف صارت كلمات والده منهج حياة، فقد كان الخالدي طفلًا يلعب مع أصحابه بالكرة، وخلال اللعب أوقعه أحدهم حتى كُسرت أسنانه، فقام والده بسحبه "وقالي قوم وكمل ، لسة هتقع كتير"، هكذا صار الخالدي يرى الحياة بأكملها كمباراة ستستمر حتى صافرة النهاية.
من إيطاليا اتجه الخالدي إلى سويسرا، ثم ألمانيا، وبعدها غادر إلى الدنمارك وهولندا، من بلد لأخرى لا يجد فيها الخالدي نفسه، يفتقد الحياة التي اعتاد عليها، ظل هكذا حتى وصل إلى باريس، زحام وحركة منظمة، فتح زجاج السيارة أراد استنشاق رائحة الصخب التي افتقدها لشهور.
حينها قرر الخالدي الاستقرار بعاصمة النور، قدّم على أوراق له ولأسرته، وحصل عليها في 11 مارس 2015، وبدأ يفكر في كيفية البدء من جديد "وساعتها فكرت في الانضمام لدروس الطبخ الموجودة في الحي"، هناك علّمته سيدة دروس الطبخ، وأجرى اتفاق معها بأن يقوم بتعليم الناس الطبخ على أن تعلمه اللغة الفرنسية.
بعدها تعرّف على مبادرة باسم "مطبخ المهاجرين"، وفيها يتخصص كل شيف في لون معين من الطعام، وقتها تمكّن من توقيع عقد له بالمبادرة، وبدأ العمل بالمبادرة، التي أطلق على عقدها "عقد السعادة"، لأنها فتحت له بابًا جديدًا على الأمل، حيث امتلك طاولة عرضها متر في متر على باخرة، فيما تُقام الحفلات ضمن المبادرة التي ركّزت على المهاجرين الذين صاروا حديث العالم، وكانت أول حفل لـ 500 شخص دبلوماسي وعلى رأسهم عمدة باريس، والتي تعتبر الرئيس الفعلي لفرنسا.
فيما امتلأ الحفل أيضًا بالصحفيين، الذين أجروا العديد من المقابلات مع الخالدي "يسألوني عن قصتي"، مرّ الوقت حتى وجد الشيف السوري ذات يوم مكالمة من صديقه يُبلغه فيها أن صورته وُضعت أمام متحف اللوفر.
ضحكت الحياة ثانية للخالدي، بعد عبوس دام طويلًا، فقد بدأت الأحلام تتحقق، وبينها حلم يقظة كان يعتقد استحالة تحقيقه، ويقوله من باب الدعابة لزوجته بإنه يتمنى أن يجد صورته معلقة أمام متحف اللوفر، لم يعتقد الخالدي يومًا أن ذلك سيحدث بالفعل.
بعدها اتسعت أعمال الخالدي، واختير للمشاركة في عدد كبير من المناسبات الهامة بعدة بلدان، من بينها اليابان، وفي مجالات مختلفة كالموضة، حيث يقابل آلاف الشخصيات المؤثرة منهم الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، وبعد رحلاته في بلدان العالم، اشترك في مهرجان "taste of Paris "، أحد مهرجانات الطبخ الهامة في باريس، وكذلك اشترك في مهرجان "refugee food festival"، وباتت له سمعة عالمية.
وفي 2018 بدأ الخالدي العمل على كتابين، أحدهما يتناول تقنيات الطبخ السوري من خلال تحويل الوصفة إلى تقنية، مُوضحًا "اليوم الأكل مش مرتبط بوصفة محددة، تحول لتكنيك زي البرجر، أنا بقوم بتفكيك التكنيك ده وأقوم بتبديل المواد فيه"، أما الكتاب الثاني فموضوعه هو "هجرة الطعام"، حيث يشرح فيه كيفية تبدل ثقافة البلد والإرث الحضارى مع الهجرة ".
لم تقتصر نشاطات الخالدي على ذلك فقط، بل افتتح مطعمًا له باسم جوري في باريس، ورغم حالته المستقرة إلا أنه يرغب في العمل بمصر مجددًا، لحبه لها، يتمنى انتشار اسمه داخل الوطن العربي أيضًا، كما هو بالخارج، لذا ينوي افتتاح مطعم بمنطقة الهايد أوت في القاهرة الجديدة، واصفًا الأمر بالمغامرة، لكنها من أحب المغامرات لقلبه، يضم فيها كل خبرته المتراكمة عبر السنوات، ويقوم المطعم على شعار لا للمستورد، حيث كل المواد الغذائية مصرية 100%.
لا سقف لطموحات الخالدي، فكلما استقر الحال به حلم بحلم آخر، فأمنيته الآن التي يسعى فيها هو إحداث طفرة في المطبخ الغربي، وأن يُصبح صاحب أثر، يضع أمام عينيه أثر الفراعنة الذي بقي إلى الآن.
فيديو قد يعجبك: