إعلان

ما وراء "سقارة".. كواليس تصوير أكبر كشف أثري في 2020 (حوار)

10:45 م الجمعة 20 نوفمبر 2020

مقبرة واح تي في منطقة سقارة

كتبت-شروق غنيم ودعاء الفولي:

تصميم - أحمد مولا:

كانت رحلة مُدهشة. امتزجت فيها حيوات المصريين القدماء بأحفادهم في "سقارة"، أشهر من البحث خلال عام 2018 تكللت بلقاء بمقبرة "واح تي"، عثر الأثريون المصريون على هدية، لمحها أحدهم إذ ينبش بيده في الصخر، فتحة لا يتعدى قطرها 10 سم كشفت لهم بهاء المقبرة، أخرجوا منها 61 تمثالا، تكاد قلوبهم تطيش فرحا فيما كان التوثيق رفيق المسيرة، على مدار أسابيع وثّق فريق فيلم "أسرار مقبرة سقارة" أعمال الباحثين والمفتشين والعُمال، توطدت العلاقات بينهم، أراد مُخرج الفيلم، جيمس توفل، نقل يومياتهم في التنقيب، لا كلمات محفوظة مسبقا ولا سيناريو مكتوب، كل شيء بدا طبيعيا في الفيلم المنشور عبر شبكة نتفليكس 28 أكتوبر الماضي. استعاد مصراوي رحلة التنقيب والفيلم مع دكتور محمد يوسف، مدير آثار منطقة سقارة، و"توفل" مُخرج العمل، أعادا سرد بعض تفاصيل الرحلة.

العام 1993، وجد دكتور يوسف الكنز أخيرًا، انضم للعمل داخل منطقة سقارة مفتشًا، رافق عدة بعثات أجنبية ومصرية تستكشف المنطقة، مازال يتذكر لهفة إخراج بعض القطع الأثرية "كأن ذلك حدث بالأمس"، يحتفظ بصور توثق تلك المرحلة، آمن أن المكان لم يُخرج جميع أسراره بعد، لازم سقارة حتى عام 2018، حينما اقترح على مدير عام الحفائر وقتها، مصطفى وزيري، أن يكون هناك موقع حفر دائم داخل المنطقة، إذ أنها تحوي مقابر من عصر الدولة القديمة والحديثة والعصر المتأخر.

1إبريل 2018 بدأت البعثة المصرية العمل في المنطقة. خلال أول شهرين من الحفر، اكتشفوا واجهات صخرية تغطي مقابر عديدة "هذه المقابر لم يكتمل العمل فيها من النقش والرسم لذلك لم تكن هناك علامات على وجودها"، غير أنهم أخرجوا "قطع خشبية وأواني وفي نوفمبر 2018 أعلنا عن هذا الكشف وحدث اهتمام عالمي بالأمر"، وما أن انتهى الاحتفال عادوا للعمل في المنطقة مباشرة "بدأنا الحفر واكتشاف الواجهة الصخرية".

توقع يوسف ومن معه وقتها "أنها مقبرة جيدة ولكن لم نتوقع أنها جميلة لذلك الحد". 10 سم للأسفل حفرها الباحثون في الواجهة الصخرية "رأينا من الفتحة الصغيرة الجزء العلوي من المقبرة.. صُعقنا من الألوان في السقف والجدار العلوي"، رويدًا اتضحت ملامح المقبرة التي دُفن فيها "واح تي"؛ الموظف المرموق في الدولة المصرية القديمة.

كان ذلك في ديسمبر 2018، حين بدأت شبكة نتفليكس التعاون مع شركة "ليون" و"آت لاند" لإنتاج وتصوير فيلم أسرار مقبرة سقارة، عايش فريق التصوير العمل يومًا بيوم على مدار شهر ونصف تقريبًا، حالفهم الحظ، فالجبّانة أعطتهم ما في جعبتها طوال تلك الفترة، حتى أن مشاعر مستكشفيها اختلط بين الحماس والإرهاق بسبب ضغوط العمل على مدار الساعة.

قبل الذهاب إلى سقارة، قرأ مخرج الفيلم، توفل، كثيرًا عن تاريخ المنطقة، ساعده باحثون ومترجمون مصريون وبريطانيون على فهم جزء بسيط من التاريخ القديم، لكن الاطمئنان لم يزر قلبه "كنا نسمع عن مخرجين أتوا لمصر لتصوير الاكتشافات وعادوا ببضع مشاهد بسيطة وعليهم أن يصنعوا منها فيلمًا"، كان الرعب يرافقه كلما مر أمامه نفس المصير "هنا حدثت المفاجأة، وجدنا أشياء كثيرة حد أنني لم أصدق عددها".

2بعد أسبوع من التواصل مع شبكة نتفليكس، كان المخرج البريطاني في أرض سقارة يختبر أول تجربة له للتصوير عن مصر، لكن سُرعان ما اندمج في الأجواء، تجلّت روح الفريق المصري، وذاب معها قلق فريق العمل، يذكر توفل كم كان سهلًا التواصل مع الناس خلال المدة التي قضاها هنا "المصريون ودودون جدًا، أذكياء وتعاونوا معنا بشكل جيد"، كانت التجربة غامرة بالتفاصيل الإنسانية "جميع الذين ظهروا في الفيلم أبطال بشكل ما، اقتربنا منهم، استضافونا في منازلهم وأكلنا عندهم، لدينا حصيلة رائعة من الذكريات".

كان المشهد مهيبًا؛ كل نصف ساعة كان فريق التصوير يركض من بقعة لأخرى ليسجل اكتشافات جديدة يُخرجها العمال والفريق البحثي "مشهد جنوني..هذه الأشياء الرائعة اختبأت في الأرض بحالتها تمامًا، كأنما أحدهم دفنها صباًحا ووجدناها نحن مساءً"، عثر توفل على مبتغاه وأكثر، يستعيد مشهد الأرض إذ تمتلئ بالتوابيت فترتسم ابتسامة على وجهه.

3

لم تهدأ الأوضاع للحظة؛ العمل على أشدّه، يتحرك الأثريون في الأربعة مناطق المخصصة للكشف، أحيانًا لم يستطع الفريق التقاط أنفاسه، دهشة متلاحقة "هناك أيامًا كنا نكتشف شيئًا جديدًا كل دقيقة، حتى أن فريق التصوير لم يستطع مجاراة كل ما يدور في المربعات الأربعة، لكن المخرج كان عبقريًا واستطاع إدارة الموقف"، يقول الدكتور يوسف.

قشعريرة تسري في جسد عالم المصريات كلما لمس أيقونة جديدة، بفرشاة دقيقة يُزيل عنها غُبار الزمن، يتفحصها برفق، يتأمل المشهد بينما لا يستطيع إخفاء فخره "قِطع أثرية تسرد تاريخنا، دُفنت هُنا من 4 آلاف سنة قبل الميلاد، وبعد كل تلك المدة أنا أول شخص يتلقفها ويلمسها بعد الفراعنة.. لا يوجد سعادة تُضاهي هذا الموقف"، كانت تلك الفرحة سببًا في ألا يذوقوا طعم النوم أحيانًا " كنا نتعجّل شروق الشمس حتى نعود إلى العمل لاكتشاف حكاية واح تي".

4مقبرة "واح تي" ليست أولى اكتشافات بعثة سقارة، لكنها الأقرب لقلب يوسف "المقبرة عمرها تقريبًا 4000 عاما لكنها احتفظت بتفاصيلها، حتى النقوش التي توثق للحياة اليومية ظلت سليمة"، حُفظت المقبرة بعيدًا عن الأذى "لأن أحد الموظفين بنى مقبرة أخرى صغيرة أمامها، توارت عن الأنظار طوال السنين حتى اكتشفناها"، يضحك يوسف قائلًا بسعادة "أعتقد أنها من أفضل المقابر المكتشفة خلال 20 عامًا مضت".

الفخر الذي يعتري يوسف ليس منبعه الاكتشافات فقط "بل كونها بأيدي مصرية تمامًا، بداية من العُمال وحتى رئيس البعثة"، يتذكر ظروف العمل الجافة أحيانًا "كان الغبار أسوأ ما في الأمر ورغم اعتيادنا عليه إلا أن عوامل الطقس الأخرى كالأمطار أو الحرارة المرتفعة جعلت الأجواء عصيبة".

5كانت الأجواء صعبة أيضًا على مخرج الفيلم وفريقه، إذ واجهتهم تحديات جمّة "نصنع فيلمًا بلغة لا نتحدثها، كما أن الفيلم ليس له سيناريو، كُنا نتفاعل بشكل حقيقي مع كل لحظة كما الفريق المصري المُكتشِف، وكنا نوثّق بشكل حيّ ولحظي، ونحاول مواكبة ما يجري على الأرض من اكتشافات كثيرة"، فيما ظهرت مشكلة تقنية أخرى على الأرض "كنا نصور في أماكن ضيقة، أحيانًا وسط ظلام تام، بالإضافة إلى الغبار الذي ينهدر دون توقف. لم نكن نملك سوى كاميرتين فقط، لذا لم يكن الأمر يسيرًا على الإطلاق".

على مدار شهر ونصف مع كل حركة للفريق تتبعهم الكاميرات ومخرج العمل، يحاولون التقاط الأحاديث التي تدور بينهم، طلب منهم المخرج التمهل في حركاتهم، إخباره بخطواتهم المُقبلة حتى يستطيع توثيقها "وحين كان يرانا نجتمع للتحدث، يُحرك إحدى الكاميرات لتُسجل ما نقوله".

لم يعتد الفريق المصري على هذا الوضع من قبل "كنا نوثق أحيانًا بهواتفنا، وأغلب تعاملنا مع وسائل الإعلام من خلال تقارير صحفية وتلفزيونية بعد الكشف، لكن خلال العمل؟ لم يحدث من قبل". كانت التجربة برمتها مختلفة؛ اكتشاف أثري لم يُسبق له مثيل منذ نحو عشرين عامًا، اكتشاف أول مومياء لشِبل (أسد) في التاريخ، فيما من الممكن أن تقود الاكتشافات أيضًا إذا صحت الافتراضات إلى أول اكتشاف وفاة بالملاريا في الحضارة الفرعونية.

6انغمس الفريق المصري في اكتشاف حكاية "واح تي"؛ تأثروا بها وشعروا بمأساته "فكرة إنه فقد عائلته دُفعة واحدة، حرّك ذلك مشاعرنا تجاهه، أحسسنا بالتجربة الصعبة التي مر بها، فكرنا في أسرنا وعائلتنا لحظتها، توحّدنا معه وأردنا العثور على موميائه بأسرع وقت"، في البئر الرابع الموجود داخل المقبرة نزل حمادة أحد المفتشين للتنقيب عن الكاهن المصري، تدعو البعثة جميعها له بالتوفيق وأن يجدوا "واح تي" مُستقرًا في مثواه الذي بناه لنفسه "يا مُدير، أخيرًا، وجدنا واح تي"، لحظة انتصار وتهليل، ليس فقط لأنهم نزحوا التراب عن فصل مجهول من التاريخ "شعرنا برابط قوي بيننا وبينه.. صلة تجمعنا به وكأننا أسرة واحدة"، حتى أن الباحثة أميرة لا تنسى إلقاء السلام على العظام قبل فحصه كما تروي في الفيلم.

7علاقة تبادلية جمعت الفريق المصري بصاحب المقبرة؛ بذلوا مجهودًا مُضنيًا للعثور عليه، أخرجوه من بين أنقاض النسيان، وأدخلوا النور مُجددًا "كان له فضلًا علينا، بسببه عُرف عن الفريق، وصار السائحون الأجانب يأتون إلى سقارة ويبحثون عنا، يعرفوننا بالاسم ويطلبون التقاط صورًا معنا. مثلما اكتشفنا واح تي، هو أيضًا اكتشفنا" يحكي يوسف.

89 أشهر استغرقتها مرحلة مونتاج الفيلم، كان التحدي كبيرًا "لاسيما مع مجيء فيروس كورونا الذي أثر على كل شيء وبات العمل أبطأ لكننا كنا محظوظين أن الفيلم خرج هذا العام"، لم يكن الحظ حليفًا لطاقم العمل في ذلك فقط؛ كانت رحلة استمرت لقرابة عام، مازال توفل يحصد صداها إلى الآن، يعتقد أن أعظم هدية نالها "هم الناس الذين قابلناهم خلال العمل، سواء أهل سقارة والمستكشفين أو فريق عمل الفيلم، صنعنا أصدقاءً في مصر"، لا يعرف توفل إذا ثمة فرصة لصناعة جزء آخر من الفيلم يوما ما، لكنه يوقن أن "هؤلاء المستكشفون لديهم الكثير ليقدموه للعالم، أما بالنسبة لي فكانت مغامرة رائعة أتمنى تكرارها".

لا يتوقف عدّاد الرسائل لدى توفل عن استقبال ردود الفعل، يضحك قائلا "أعتقد أن حماس الناس تجاه الفيلم بدأ قبل انتهائنا منه.. كانت الناس تسألنا أين سنراه؟ فنقول عبر نتفليكس، فيقول أحدهم متعجبا ولكننا لا نعرفها، غير أنه بمجرد إطلاقه كان الأكثر مشاهدة على الشبكة في مصر"، وفي المقابل يتلقى المخرج تعليقات حتى الآن من دول مختلفة؛ فنزويلا، اليابان، الفلبين وغيرها "عنى الفيلم لهم شيئا وهذا عظيم في رأيي".

لم يلتفت الباحث في علم المصريات إلى الفيلم كثيرًا، سعد بالتجربة غير أنه نسيها وانهمك في عمله الاكتشافي كما هو بعد انتهاء فترة التصوير "عندما خرج الفيلم للنور لم أكن أعرف، حتى أخبرني أحدهم واكتشفت إن ملايين شاهدوه".

لا تزال منطقة سقارة مُزدانة بالأيقونات والحكايات التي لم تُعرف بعد، تبذل البعثة المصرية جهودها حتى تكشف النقاب عنها، فيما كان أخرها يوم السبت الماضي إذ تم الإعلان عن كشف يضم مائة تابوت "على هيئة آدمية، وبها نقوش وألوان ومومياوات"، وفيما تستمر أعمال البعثة تعمل شركة أمريكية حاليًا على توثيق ذلك بمنطقة سقارة.

10حضر باحث علم المصريات اكتشافات أثرية مختلفة، لمست يديه قطعًا لأول مرة منذ زمن الفراعنة، غير أنه لم يبلغ ذلك الشعور بالامتنان إلا عام 1996 حينما اكتشف مقبرة أيوف عا، رئيس القصر الملكي، ومع لحظة دخوله مقبرة "واح تي" عام 2018 وعندما نُشر الفيلم على شبكة نتفليكس وشاهده يوسف رفقة أسرته "كانت فرحة ما بعدها فرحة، شيئًا ما نتركه لعائلتنا حتى يعرفوا عنا وعن تاريخ أجدادهم".

فيديو قد يعجبك: