خطوة رقية.. طفلة تحقق المستحيل وتمشي بعد 7 سنوات (معايشة)
كتبت-إشراق أحمد:
رسوم- سحر عيسى:
في العاصمة العراقية بغداد، داخل منزل تغمره المحبة والصبر، تنتهي الأسرة من تناول الغداء، تُشير الساعة إلى الرابعة عصرًا.الآن الموعد اليومي للقاء خاص بين الأم وابنتها، تتحدث رؤية أحمد إلى طفلتها: "رقية كملي كل حاجة وأنا أشرب الشاي ونبتدي التدريب". تغوص الصغيرة بوجهها في الهاتف المحمول، تطالع ما تحب من فيديوهات تعليمية وألعاب، تعلم ذات السبعة أعوام ونصف العام أن الساعات القادمة ثقيلة؛ يوم آخر تدفع فيه جسدها الصغير على السير، تخشى أن تسقط فيضيع تعبها مع والدتها لليالِ طوال، تتعلق بكلمات أمها "حتى لو وقعتي مش نهاية العالم". تتحمس رقية وتبدأ التحرك.
طفل إلى 3 من كل ألف مولود يصاب بالشلل الدماغي في العالم وفق منظمة الصحة العالمية. حين قدومها إلى الدنيا، كُتب لرقية أن تكون بين الأطفال الثلاثة، مما يعني عجزها عن الحركة، علمت أسرتها بهذا بعد شهور من ولادتها، كان التدخل مبكرًا عن كثير من أقرانها، لكن الطريق لم يكن يسيرًا، لسبعة أعوام ظلت رحلة علاج رقية بين شقين؛ أمل والديها في رؤيتها تسير على أقدامها، وألم بلوغ تلك اللحظة.
ما بين العراق، ماليزيا،تركيا ومصر ارتحلت الأسرة تتقدمها الأم، وأخيرًا بلغ مشوارهم محطة الوصول؛ في القاهرة التقت رؤية وصغيرتها بأخصائي العلاج الطبيعي، المصري أحمد حكيم، ومعًا تحقق المستحيل المنتظر منذ ميلاد رقية.
مع عصر كل يوم، تحسب رقية ووالدتها وقع خطواتها في المنزل وساحته الخارجية. 70 خطوة استطاعت أن تحققها الصغيرة إلى الآن، في ميزان مَن ألفوا الحركة العدد غير مذكور، إنما في كفة رؤية وابنتها هو إنجاز، كل خطوة تحمل صبر وتعب أم ومعافرة طفلة ترغب في المشي "عشان يكون لها أصحاب تسمع صوتهم. تمشي في الحديقة وتلعب مع رفقات وتروح المدرسة".
(الرحلة)
| الشهر الرابع من الحمل.. فرحة منقوصة
ينبت رحم رؤية من جديد، قبل عام بدأت تجربة الأمومة مع ابنها الأول محمد، لكن هذه المرة السعادة مضاعفة مثل المشقة، تحتضن الأم جنينين. شهر يمضي تلو الآخر، تستعد الأسرة الصغيرة لاستقبال المولودين، غير أن الفرحة لم تكتمل؛ أخبر الأطباء رؤية أن أحد التوأمين قد مات، أخرجوه لتدفنه فيما بقي الآخر؛ كانت طفلة، أسموها رقية.
ظلت رؤية تحسب أنفاس جنينها "كل شهر نطمن ونعملها الترا ساوند ويطمنونا الأطباء أنها لسه عايشة"، حتى الشهر السابع، توقف عداد الأم رُغمًا عنها؛ أعلنت رُقية القدوم قبل الميعاد.
| 7 أشهر.. بداية الألم
في الرابع والعشرين من نوفمبر 2012، أصبح لرؤية ابنة، لكن تحمل وصف مبتسر (يطلق على المولود قبل 9 أشهر الفترة الكاملة للنمو). لزم إيداع الصغيرة الحضّانة. 21 يومًا قضتها الأم ترى رُقية من وراء حجاب زجاجي. كانت فترة عصيبة حتى الشهر الثالث بعد الولادة، إلى أن صارت الابنة بحجم رضيع طبيعي.
ظنت رؤية أن الصعب مضى، لكن الأصعب كان قادم في الشهر السابع من عمر رقية، كأن نصيب الأم من المعاناة كُتب لها مع هذا الرقم "لاحظت أن رقية مابتزحفش ومبتقعدتش قلت يمكن تاخد وقت عشان طفل خُدج (مبتسر) لكن طلع عندها شلل دماغي".
| سنة وشهران..طريق العلاج
كانت رؤية في ماليزيا، تقيم مع زوجها مهندس النفط، لم تفزع لحال ابنتها، كان الطبيب المُشخص هادئًا، عرض عليها صور لأطفال تعاني من الشلل الدماغي، حدثها أن الوضع بسيط، فقط يتطلب وقتًا. لم يشغل الأم حينها سوى أمر واحد "هتدرس ولا لأ. مستوى ذكائها هيكون مثل الأطفال العادية؟".
غاب عن الوالدة القلق بشأن حركة رقية، بدأت برنامج العلاج، استقبلت في المنزل معالج طبيعي ترافق الطفل وتخبرها كيف تتعامل مع طفلتها، رويدًا صارت الصغيرة تزحف وتجلس بشكل قريب لما يفعله الأطفال، ظنت رؤية أنها حقًا مسألة وقت كما أخبرها الطبيب الماليزي، وقريبًا ترى ابنتها تمرح أمامها "مكنتش متخيلة ولغاية النهاردة أن المشي هياخد كل الوقت ده".
في غضون ذلك، كان مستقبل الطبيب المصري أحمد حكيم في علم الغيب، مازال فتى يتلمس خطاه نحو ما سيكون عليه، ومَن سيتدفع به القدر في طريقه.
| 4:3 سنوات..رقية تتخطى الزحف وحكيم يبدأ المشوار
كلما كبرت رقية تيبست قدماها أكثر عن الحركة، تواصل تناول الدواء، وحقن "البوتكس" كل شهرين لترخية العضلات كما شَخص الطبيب، إلا أن مفعول العلاج كان بطيء"6 شهور ويخلص"، لم تتقدم رقية عن مرحلة الزحف في وقت كسرت فيه عمر الثلاثة أعوام.
عادت الأسرة إلى العراق، لم تترك الأم شيئًا إلا وفعلته، سمعت عن جودة العلاج الطبيعي في مصر، فقررت وزوجها السفر، كان هذا عام 2016 حينما تلقت رؤية الصدمة بلقاء أخصائي مصري "عرفت أن اللي بعمله غلط وأنها محتاجة تقوية للعضلات مش ترخية ولو فضلت على نفس الحال 100 سنة مش هيبقى في نتيجة". غاص قلب الأم في الحزن على ما فات من وقت وأمل مُهدر.
بدأت رؤية وابنتها رقية مشوار جديد لتخطي حاجز الزحف، وخلال 6 أشهر احتضنت الأم بصيص من الأمل "وقفت ثانيتين ووقعت في الأرض". على قدر صغر الفعل وزمنه إلا أن تلك الثواني كانت بالنسبة لوالدة الصغيرة بالدنيا وما فيها.
في ذلك الوقت، على نحو ألف كيلو متر مربع من العراق، كان ثمة طالبًا يدرس في الفرقة الثانية بكلية العلاج الطبيعي المصرية، اختار أحمد حكيم مشواره في التعامل مع الأطفال، استشعر قيمة التخصص مع الصغار "أن الواحد يساعد طفل مكنش بيتحرك أنه يمشي إحساسه غير تأهيل الكبار"، لم يكن حكيم التقى رقية بعد، لكن الطبيب يؤمن بأن كل شيء بقدر.
| 5 سنوات..خطوات متأرجحة
حتى عام 2017، داومت رقية على العلاج الطبيعي، تقدمت حد السير متكأة على عكازات أو مشاية، نالت الصغيرة خطواتها لأول مرة، حلت الفرحة بين أسرتها، وقع حركتها البسيطة ترك أثره في نفس والديها وشقيقها الأكبر، هنأت الأم برؤية ابنتها تسير ولو بمساعدة، لكن شعرت أن هذا أقصى ما يمكن أن يحدثه العلاج لابنتها.
استسلمت رؤية للحال، إلى أن علمت بإمكانية إجراء عملية جراحية للتخلص من الشد العضلي لدى أطفال الشلل الدماغي، أرادت الأم ألا تترك سبيل لإسعاد ابنتها وجعلها طفلة طبيعية؛ توجهت إلى تركيا، أجرت رقية العملية، زالت مشكلة التيبس، إلا أن لكل شيء ثمن "رجعت لمرحلة الزحف وكل شغل العلاج الطبيعي خسرته". بات على الوالدة وصغيرتها بدء المشوار من جديد.
وبينما تبحث رؤية عن الطريق لتجد طفلتها أثر أقدامها مرة أخرى، بدأ حكيم، أخصائي العلاج الطبيعي المصري، خطواته الرسمية بالعمل في المراكز الطبية "أثناء الدراسة كان عندنا فرصة الشغل تحت إشراف الكلية.حاولت اتعلم في أكتر من مكان تأهيل الأطفال". عايش الطبيب حالات لصغار رفضتهم المدرسة لعجزهم عن الحركة، وآخرين وُضعت الحواجز بين اندماجهم في محيطهم.
علم حكيم أن الطفل المصري أكثر حظًا في التأهيل شأن صغار أوروبا وأمريكا، لتقدم تخصص العلاج الطبيعي في مصر حسب قوله، لكن الطفل المنتمي لدول عربية أخرى غالبًا ما يدخل في متاهة كبيرة، وتنخدع الأسر بأمل العمليات الجراحية، لذا وضع أمامه هدف يعمل عليه "أحافظ على حياة الطفل وامنع عنه التدخلات الكبيرة في العمليات".
| 6 سنوات..انتكاسة
عادت رقية لنقطة الصفر، لكن الأم علمت الوجهة؛ رجعت رؤية وابنتها إلى مصر عام 2018، دارت على الأطباء لكنها لم تستطع البقاء طويلاً لظروف تتعلق بالإقامة "فضلت أسبوعين أخدت البرامج اللي علموني عليها الدكاترة ورجعنا العراق". نحو ما يزيد على العام لازمت رؤية ابنتها، تفرغت المهندسة الكيميائية من العمل وأصبحت ممرضة لرقية، لكن الصغيرة لم تتقدم "بقت تقعد بس متقدرش تخطي. خطوة والتانية تقع".
زار الإحباط نفس الأم "حسيت أني شغلي ناقص"، راحت تتابع كل ما تقع عليه يدها على الانترنت "أي دكتور يطلع لايف أو يعمل فيديوهات أتابع"، حتى التقت بحكيم، كان أخصائي العلاج الطبيعي المصري قد افتتح مركزه الخاص، فضلاً عن نشره فيديوهات توعية، أصبح الطبيب يستقبل عدد من الحالات خاصة أطفال العرب "اللي بيجي مصر بيكون لف كتير وباع اللي وراه وقدامه عشان يعالج ابنه أو بنته"، راهن حكيم على إخراج قدرة الأطفال مع استخدام ما لديه من علم،وبالفعل نجح مع عدد منهم في السير على أقدامهم.
قررت والدة رقية أن تسافر إلى مصر، راودها الأمل مرة أخرى، لم يعد هناك شيء لتخسره، ابنتها تكبر ومازالت محرومة من ارتياد المدرسة مثل رفاقها، لظروفها الخاصة اضطرت لتحويل دراستها إلى المنزل، ورغم ذلك كان في الطريق ما يشد من أزر الأم "معلمتها قالت لي خديها ولا ترجعي من مصر حتى امتحان آخر السنة".
| في الطريق إلى الأمل
أثناء الرحلة إلى مصر، رافق والدة رقية مشوار السبعة أعوام، أيام ثقال تُقاس بالثواني. تُرى أتكون هذه المرة المحطة الأخيرة لخطوة رقية؟... واصلت الأم السؤال، تزودت بالحلم بينما تصحب طفلتها على كرسي متحرك، فيما استعادت من لحظات الانكسار كتلك التي عاشتها في ماليزيا مع بداية رحلة العلاج؛ ذات يوم بينما تُحقن الصغيرة "بالبوتكس" الموصوف لها كعلاج للحركة، دخلت الطفلة ابنة الثلاثة أعوام حينها في غيبوبة مفاجئة.
لأكثر من 6 ساعات ورقية موضوعة على الأجهزة، والأطباء يتدخلون لإنقاذها "دي أصعب لحظة في حياتي.. دعيت ربنا يخليها حتى لو مش هتمشي بس يخليها". كان الجحيم بعينه أن تشعر رؤية بفقدان طفلتها لأجل أن تسير على أقدامها، لكن يقينها جعلها تواصل السعي بعد استعادة رقية عافيتها "فضلت خايفة لكن متمسكة أني عايزاها تكون طفلة طبيعية".
| 7 سنوات..ميلاد جديد/رقية تمشي
قبل 16 يومًا من عيد ميلادها السابع، استقبلت رقية هديتها، التقت أخصائي العلاج الطبيعي المصري، تلقف حكيم الصغيرة بالمحبة كما يفعل مع جميع صغاره ممن يترددون على مركزه الطبي، كانت حالة الطفلة في المرحلة الرابعة من الشلل الدماغي حسب تشخيص حكيم، لكنه لا يعرف المستحيل، اكتشف الطبيب مفاتيح شخصية رقية "عندها إصرار وحاطة هدف قدامها. فضلت تقول لي مش عايزة اجي مصرتاني عشان العلاج. عايزة امشي". يؤمن حكيم أن إرادة الطفل ودعم من حوله أقوى من أي جهاز أو علاج طبي.
وبالفعل سريعًا استعادت "رقوش" –كما يناديها حكيم- خطوتها المفصلية، استطاعت الوقوف، ثم المشي بالعكازات مثل الأول، وبعد شهرين من التدريب، في يناير المنصرف، سارت نحو 4 خطوات وحدها.. الآن رقية تمشي.
كأن الحزن لم يسكن الروح يومًا، حلت الفرحة في نفس رقية، وطارت والدتها رؤية من السعادة، تزيد رقية من خطواتها، لم تصدق الأم ما يحدث، قبضت على هاتفها ووثقت اللحظة وأرسلتها إلى زوجها وابنها محمد في العراق، كان الشتاء يحمل البرودة خارج النوافذ، فيما يسكن الدفء أفئدة الحضور في مركز العلاج الطبيعي بمنطقة أكتوبر، حينها تملك الأم شعور غادرها لفترة "حسيت أننا بنحصد اللي زرعناه".
| القادم أفضل
4 أشهر قضتها رقية في مصر، واصلت العلاج مع طبيبها، بذلت "رقوش" أقصى طاقتها للعودة إلى المدرسة على أقدامها لأداء امتحان نهاية العام، مزيد من الخطوات تحصيها مع حكيم كل مرة تلتقيه، إلا أن الجلسة الأخيرة قبل عودتها إلى العراق لزيارة والدها وأخيها، حققت رقية إنجاز كبير؛ نحو 30 خطوة قطعتها وحدها، وغادرت المعالج في راحة اعتدها بعد قطع شوط في تأهيل كل طفل يأتيه قعيد ويتركه سائرًا على قدميه.
أسبوعان وعادت رؤية ورقية إلى القاهرة، في الحادي والعشرين من فبراير المنصرف، لكن ما كانت إلا أيام وانقلبت الأحوال، هذه المرة بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد، باتت الأم في سباق مع الزمن مرتين، الأولى لتحظى صغيرتها بأقصى درجة ممكنة من التأهيل، تتزود بها في الأيام المجهولة القادمة، أما الثانية للحصول على مقعدين على متن طائرة تحلق إلى العراق، قبل غلق المطارات في 17 مارس.
قبل يومين من توقف حركة الطيران عادت رقية إلى العراق، لكن هذه المرة بأمل وميلاد جديد، تنظر الصغيرة لوالدتها، تسألها"شوفتيني وأنا ماشية لحالي أنت سعيدة فيا؟"، تحتضنها رؤية بفخر وتؤكد لها أنهما سيحققان المزيد معًا.
تبدلت وسيلة اللقاء بين رقية وطبيبها؛نقل حكيم عمله وفريقه(8 أخصائيين) إلى الإنترنت، فرض كورونا عليه تحدي كبير "كانت أصعب حاجة مرت عليا من 5 سنين". افتقد الطبيب التفاعل المباشر مع رقية ورفاقها البالغ عددهم نحو 12 طفلاً، ضحكاتهم وحزنهم،دقة تسجيل تقدمهم، وما يحظى به من عناق بين الحين والآخر، وذلك السباق والكأس الذي يجريه بينهم ليتحمسوا نحو التدريبات العلاجية. كانت رقية تتنافس دومًا للحصول على الكأس مع صغير من اليمن يسمى علي "علوش".
رغم التغيير الكبير الذي فرضه الوباء، لكن رؤية لم تتنازل عما بلغته ابنتها، حولت الأم غرفة معيشة المنزل إلى ساحة تدريب لـ"رقوش": "دلوقت بتحسب قد إيه فاضل لها عشان تطلع برات البيت".
مع الرابع والعشرين من نوفمبر الجاري تستقبل رقية عامها الثامن، استقبال مميز لطفلة كانت خطوتها عزيزة؛ خطت نحو الحياة في الشهر السابع، وبدأت رحلتها مع الشلل الدماغي وهي ابنة سبعة أشهر، ومع ميلادها السابع حققت ما ظنه البعض مستحيلاً.
تطفيء "رقوش" شمعتها الجديدة بينما تحلم أن تملأ دنياها حركة، تخبر والدتها برغبتها أن تصبح طبيبة، وباليوم التالي تنكفئ على ماكينة الخياطة التي جلبها أبويها لها وتحيك الكمامات بينما تخبر أمها "عايزة أصير خياطة"، فيما يواصل حكيم سعيه من القاهرة، يستمر في توعية الأهالي عبر صفحته على "فيسبوك"، ولا يتوقف عن الحلم بأن يفتتح مركز لتأهيل الأطفال في كل دولة عربية، يطمح أن يساعد المزيد من الصغار المقتدرين منهم والمتعسر ذويهم ماديًا، أما رؤية والدة رقية فلا تريد سوى أن ترى ابنتها سالمة "تعمل اللي هي حاباه متخافش تطلع بره لحالها.. عايزاها تكون مستقلة".
(أبطال الرحلة)
فيديو قد يعجبك: