في ذكرى وفاتها.. كيف حجزت أم كلثوم مكانها بمعرض الكتاب؟
كتبت-دعاء الفولي:
كان مصيف "رأس البر" شبه خالي في بداية الأربعينيات، قبل أن تقرر أم كلثوم الغناء هُناك؛ تحولت المدينة المهجورة لخلية نحل، ذهب المُحبون من أرجاء مصر، انتبه بعض أهل دمياط للأمر، فقاموا بتأجير سيارات تنقل الناس بمقابل مادي، وفيما بعد، عاد للمسئولين اهتمامهم بالمكان، فجمّلوا المصيف وجددوه.
كانت أم كلثوم مشروعا غنائيا يمشي على الأرض، يتبعها الناس، يتودد إليها المحيطون، 45 عاما مرت على وفاتها، غير أن سيدة الغناء العربي مازالت موجودة، من فتّش عنها وجدها؛ في شرائط الكاسيت التي يحتفظ بها المُحبون، مقهى بلدي يستعذب روّاده صوتها، تتمايل رؤوسهم معها عقب يوم عمل طويل، في جهاز تسجيل بسيارة أجرة سائقها "صاحب مزاج"، أو راديو تبتسم له ثغور السامعين، ومن أتقن البحث قابلها في الكُتب والمجلات والصحف. لها أوجه كثيرة، يراها كل واحد كيفما اشتهى، لذا لم يكن معرض القاهرة الدولي للكتاب استثناءً، فـ"الست" في ذكرى رحيلها حاضرة داخله أيضا.
بين القاعتين 1و2، اتخذت شركة القاهرة للصوتيات والمرئيات مستقرا لها، صدحت الأغاني من المكان الممتلئ باسطوانات وشرائط لجميع المطربين، فيما احتلت أم كلثوم رُكنا خاصة، تُذكر سيرتها على لسان الزائرين "وكتير منهم شباب.. أكتر حاجات بيطلبوها الأغاني العاطفية" حسبما يحكي محمود بركات أحد العاملين.
كُل عام تبحث الشركة عن التسجيلات النادرة بالاتفاق الإذاعة المصرية وتجمعها "السنة دي عملنا توليفة ساعة ونص من حفلاتها الخارجي"، تُباع الشرائط والاسطوانات المُدمجة بأسعار تبدأ من 25 وحتى 40 جنيها، لكن اسطوانات الجرامافون تصل إلى 400 جنيه للواحدة "دي للي بيحبوا يتسلطنوا"، تعرض الشركة ستين عملا لأم كلثوم "هي أكتر حد له إنتاج عندنا".
عام 1952، زار المغني الفرنسي"شفالييه" مصر، قابل أم كلثوم، فأصابته الدهشة، قال: "لقد سمعت اسمك في كل مكان زرته في الشرق فلم أر فنانا يتمتع بهذه الأرقام الضخمة من المعجبين.. أنتِ صغيرة في السن نسبة للعرش الذي تجلسين عليه"، كانت تبلغ وقتها 54 عاما، وقد فازت سبع مرات متتالية برئاسة نقابة الموسيقيين بالتزكية.
مرت "الست" بمدارس عديدة من المُلحنين، بدءًا من محمد القصبجي، مرورا بالسنباطي وانتهاءً ببليغ حمدي ومحمد عبدالوهاب، تغيرت روح أغنياتها، لكن صوتها طوّع الفن لخدمته، لهذا ضم المعرض كتب تشرح الحالة الكلثومية.
في خيمة مؤسسة الأهرام، عُلقت نُسخة من عدد صادر للجريدة قبل أيام، متحدثا عن أم كلثوم، بينما يطبع ماجد محمد، مسئول التسويق بمركز تكنولوجيا المعلومات التابع للمؤسسة، 19 ورقة لأحد رواد المكان، كُتب فيها كل ما تناولته الصحيفة عن "الست" منذ عام 1936 وحتى جنازة وداعها.
"اللي مهتمين بأم كلثوم بيبقوا عايزين يعرفوا الصحافة كتبت عنها إيه"، تتفاوت أسعار الأرشيف من 80 إلى 150 جنيها حسب نوع الورق، لكن ليست الصحف فقط من ذكر أم كلثوم، فداخل الأهرام يقبع كتاب "مذكرات الآنسة أم كلثوم" للكاتب محمد شعير، ينشر فيه وثائق تخرج للنور لأول مرة، فيما يُضيف ماجد "فيه ناس كتيرة بتيجي تسأل لكن عن أغنياتها.. بيحبوا يقتنوها مكتوبة".
تمتلك مكتبة "عم صابر"، أحد أقدم بائعي سور الأزبكية، تلك الكُتب، إلا أن ابنه محمد لم يبتغِ إحضارها للحدث الثقافي "عشان الناس بتبقى ملهية بحاجات تانية"، لا يُنكر البائع الأربعيني الإقبال على المحتوى المتعلق بها طوال العام "كنا بنجيب كتب أغاني بس بعد كدة بقينا بنجيب كتب المثقفين عنها لما لقينا الناس مهتمة"، يُعدد صابر المطبوعات، مما كتبته رتيبة الحفني، كمال النجمي ونعمات أحمد فؤاد.
"كتبتُ إليكِ وأنا طالبة بالجامعة لا أزال، بعد ليلة من لياليكِ، وما أكثر لياليكِ، وما أهنأ لياليكِ، وما أبعد عنا، الآن، لياليكِ..." كتبت الراحلة نعمات فؤاد تلك المقدمة لكتابها عن سيدة الغناء العربي، جمعت عنها ما استطاعت في 480 صفحة، غزلت بين تاريخها الفني وحياتها الشخصية، سردت كيف أدارت ابنة محافظة الدقهلية فنها بذكاء.
في رف عُلوي بدار الهلال استقر كتاب نعمات، هو الوحيد المتبقي من إرث أم كلثوم لديهم، تشابهت الحالة مع دار المعارف، لكن الأخيرة زاد عليها سؤال العرب الزائرين للمعرض عن كتب أم كلثوم، ثم حالة الإحباط التي تصيبهم، ما أن يخبرهم وائل حسنين-الموظف هناك "معندناش غير كتاب واحد اسمه أم كلثوم والموساد للكاتب توحيد مجدي.. بيحكي بالوثائق إزاي بعض أجهزة الاستخبارات حاولت تستهدفها".
من عايشوا زمن أم كلثوم كثير، قليل منهم من سكب ما في قلبه عنها على الورق، كما فعل الشاعر حافظ إبراهيم، إذ يقول: "صوتها كأمواج المحيط، لا تدري بعظمته إلا بعد أن تغني فتحسب أنها موشكة على التعب، فإذا بالصوت يتمدد وينفرد ويتسع ويعظم حتى يُخيّل إليك أن عباب المحيط يعلو ويجيش".
الكاتب فكري صالح قابلها أكثر من مرة، يسرد ذلك بولع في كتابه "5 شارع أبو الفدا"، الذي أطلقته دار الهالة للنشر.
حدث ذلك عام 1963، فكري طالبا بكلية الهندسة جامعة عين شمس، جمعته الأقدار بـ"الست"، حضر عدة حفلات لها بـ"معجزة"، حتى أنهم درسوا صوتها في الكلية بمادة الصوتيات "وقمنا بتأسيس جمعية باسمها في الجامعة".. كما يروي في مقدمة الكتاب.
يتنقل فكري بين مواقفه مع "الست"، يذكر أنه ذهب لمنزلها في مرّة وأمله فقط أن يأخذ الحارس الصور التي أحضرها لرحلات جمعية "ام كلثوم"، لكنه فوجيء بها تخرج من البيت، أوقفها بتوتر شديد وأخبرها بما معه، فعرضت عليه السير معها، من وقتها استغل كل فرصة ليراها، حتى هاجر لاستكمال دراسته بكندا أواخر الستينيات.
في المعرض، الذي يختتم فعالياته اليوم، لم تُطرح كتب كثيرة لأم كلثوم في دور النشر الخاصة، غير أنها ذُكرت ضمن عشرات المطبوعات عن فنانين آخرين، لا ينفي ذلك تواجد أغانيها عند بعض باعة سور الأزبكية.
حالة الوجود الطاغي رافقتها في الحياة وبعد الممات؛ اعتادت الذهاب لسيدة بسيطة تبيع الشاي، تجلس معها خلسة ولا تعرف البائعة هويتها، وعندما صارتا صديقتان، باتت السيدة تُشغل أغاني أم كلثوم عبر الراديو فتسمعانها سويا، أحبّت الفنانة الراحلة متابعة ردود فعل السيدة إذ تُنصت "كانت أم كلثوم تنتقد نفسها وتقول: كان ممكن يكون أحسن.. حتى أن البائعة انفعلت عليها مرة وقالت لها: اسكتي خلينا نسمع..مفيش أحسن من أم كلثوم"، يحكي فكري -في كتابه- أن عقب وفاة الفنانة بفترة عاد لمصر ومرّ على العجوز فوجد الراديو مازال دائرا على أغنياتها، لكنه لم يخبرها بهوية السيدة التي كانت تزورها.
فيديو قد يعجبك: