همام يغادر أمستردام.. حكايات مصريين على متن آخر رحلة لمصر من مطار سخيبول
أمستردام - مها صلاح الدين:
انفوجرافيك - مايكل عادل:
على عكس جميع أنحاء هولندا، التي خلت تقريبًا من المارة؛ امتلأ مطار سخيبول -الواقع على أطراف العاصمة الهولندية أمستردام- بالحركة. الجميع في حالة تأهب، خطوات متسارعة لا تخلو من الحرص، ومحاولة البقاء على المسافات.
وجوه تحمل ملامح مختلفة، أسيوية، وأفريقية وحتى أوروبية، أغلبها مغطى بكمامات، فيما يقبض البعض الآخر على بيديه على زجاجات المطهرات الكحولية، لكن شيئًا ما وسط كل ذاك يجعل الأذهان شادرة وهو أن الجميع يريد أن العودة لأرض الوطن، قبل أن يصبح عالقًا في بلدٍ غريب.
داخل صالة المغادرة الثانية، بدأت الملامح تتوحد، ملامح مصرية خالصة تصطف أمام لافتة رقم 24، كانت مخصصة لتسجيل حضور ركاب آخر رحلات شركة مصر للطيران المتجهة إلى مطار القاهرة الدولي.
12 ظهرًا
عادل واللافتة رقم 24..
بين صفوف غير منتظمة، ومسافات غير متساوية، أمام مكاتب تسجيل التذاكر، وتسليم الحقائب؛ وقف "عادل" يجري مكالمة حاسمة مع زوجته مريم: "ينفع تاخدي زينة وتروحي تقعدي عند ماما اليومين دول"، ترد الزوجة بكلمات لم نسمعها، وكأنها تعترض، يردف عادل بعدها بمزيد من الحسم: "معرفش.. المهم إني أرجع ألاقي مفيش حد في البيت".. ثم يُغلق الخط.
عادل شاب ثلاثيني يعمل في هولندا لسنوات لا يحسب عددها، يخشى على زوجته وابنته من عدوى فيروس كورونا المحتملة، التي قد يحملها معه من هولندا، أو يكتسبها من حركته بين المطارات.
كان عادل يعود إلى أسرته الصغيرة كل عام في الإجازات الصيفية، لكن عودته هذه المرة جاءت فجأة بغير ميعاد، بعد أن علم بقرار تعليق حركة الطيران في جميع المطارات المصرية بدءًا من الخميس 19 مارس: "مفكرتش.. سيبت شغلي وشقتي وكل حاجة ورجعت على أول طيارة".
كان يخشى على أهل بيته من الإصابة في غيابه، ويخشى على نفسه من المرض في بلد غريب "أنا معرفش أنا ممكن أرجع تاني إمتى، بس الأصعب كان إني معرفش أقدر أسافرلهم إمتى".
سهل عليه هذا القرار، توقف الحياة بشكل جزئي في هولندا، وإغلاق أغلب المؤسسات والمطاعم قبل أيام معدودة، حتى الأيام الأولى من شهر أبريل بشكل مبدئي، في محاولة من الحكومة الهولندية لمحاصرة المرض.
عاد "همام من أمستردام" وهو لا يعرف متى يمكنه العودة.. كان عادل واحدًا من بين عشرات يسلمون حقائبهم، للمغادرة على متن طائرة مصر للطيران، والذين سافروا إلى هولندا لأسباب اختلفت، بين العمل والدراسة والسياحة.
الواحدة ظهرًا..
حسين إلى البوابة G02
اختلطت الجموع والجنسيات من جديد، وتجاوزت حاجز أقسام شركات الطيران، من أجل التوجه إلى البوابات، ولكن قبل الوصول إليها كان على حسين - شاب بالكاد تجاوز العشرين من عمره - المرور على ضباط الجوازات، للحصول على تأشيرة الخروج.
بين صفوف المسافرين من جميع الجنسيات، بدى على حسين الحرص، ظلْ باقيًا على القناع الأبيض متعدد الطبقات فوق وجهه، وحريصًا على المسافة التي بينه وبين الذي يسبقه، وبدى عليه الضيق من قرب من خلفه منه.
حاول ضباط الجوازات ذو الملامح الأوروبية تكثيف تواجدهم، للتقليل من أعداد الصفوف، وإنهاء الإجراءات سريعًا، وخلال دقائق تجاوز حسين قسم الجوازات، وشقّ طريقه صوب البوابة G02.
جلس حسين على أحد المقاعد يتذكر، كيف انقلبت الدنيا رأسًا على عقب خلال بضعة أيام، قبل ثلاثة سنوات أرسله والديه إلى هولندا على نفقتهم الشخصية، لتحقيق حلمه بدراسة الهندسة، بعد أن حصل على شهادة الثانوية العامة "بالطبع الدراسة هنا أفضل" يقول حسين.
منذ أقل من أسبوع تلقى حسين وزملائه رسالة عبر البريد الإلكتروني من الجامعة، كانت تمنحهم من خلالها إجازة حتى السادس من أبريل المقبل، قرار وضع حسن وذويه في مصر في حيرة من أمرهم، في البداية طلبوا منه البقاء في المنزل، وعدم النزول إلا للضرورة.
استجاب حسين "لكن الحياة كانت ماشية هنا في هولندا ومفيش تغيير.. لحد أول الأسبوع"، فجأة أغلقت جميع المتاجر، والمطاعم، وخلت الشوارع من البشر، وبعدها بساعات قليلة، جاء قرار تعليق حركة الطيران إلى مصر منذ التاسع عشر من مارس.
خرج رئيس الوزراء الهولندي -وقتها- في خطاب تلفزيوني، بتصريحات أثارت قلق الشعب الهولندي والمغتربين ومنهم "حسين"، كان ملخصها "أن أغلب الهولنديين سوف يصابون بفيروس كورونا.. وأن أولوية الحكومة الهولندية هي حماية المسنين والمرضى بالفعل بكورونا".
وقتها، لم يتردد حسين في اتخاذ القرار "لو تعبت أتعب وسط أهلي أحسن ما أتعب لوحدي".
قرار قد يُكلف حسين عدم القدرة على العودة إلى هولندا مرة أخرى، خاصة مع اقتراب موعد الامتحانات، لكن المشهد كان له وجه آخر "اللي بيتعب هنا في هولندا مش بيدخلوه المستشفى.. بيقولوله اقعد في البيت".
الثانية ظهرًا
مجدي وكمال في صالة الانتظار..
داخل صالة انتظار قيام الرحلات بمطار سخيبول، تناثرت الوجوه المصرية على مقاعد متباعدة تجنبًا للعدوى، كان من بينهم الكابتن كمال والمهندس مجدي، اللذان جلسا في مقاعد متقابلة، لا يجاور كل منهما الآخر.
كانت رحلة الكابتن كمال في هولندا قصيرة نسبيًا، رغم أنه كان ينوي الاستقرار والعمل مع شقيقه الذي يحمل الجنسية الهولندية في التجارة بفرش السيارات، إلا أنه قرر أن ينهي تلك الفترة سريعًا، ويعود إلى مصر بعد 5 أشهر فقط.. "أوروبا مبقتش زي زمان".
أمضى الضابط البحري عمره في جولات حول العالم، فالسفر في حد ذاته لم يكن غاية بالنسبة له، لكنه كان يبحث عن النجاح بعد التقاعد، وبعد 5 أشهر فقط، وبعد اندلاع أزمة فيروس كورونا، وجد كمال نفسه أمام خيار واحد، ألا وهو العودة "لو حصلي حاجة هنا غير لما يحصلي في مصر.. هنا كل واحد في حاله، مفيش لا جار ولا زميل هيشيلني.. في مصر أنا عالأقل في حضن ولادي".
في المقابل؛ جلس المهندس مجدي، يتلقى اتصالات هاتفية متتالية، من الشركة التي يعمل بها في مصر تارة، والشركات التي كان من المفترض أن يزورها في هولندا تارة أخرى.
كان في رحلة عمل قصيرة، تمتد لـ 6 أيام بهولندا، ويتبعها رحلة أخرى إلى ألمانيا، لم تمض منهم سوى 3 أيام فقط، وتبدلت كل الخطط.
صدر قرار تعليق حركة الطيران في المطارات المصرية، قررت الشركة الحجز فورًا والإعداد لعودته، لم تتحمل الشركة فكرة مخاطرة بقاءه في هولندا بميزانية محدودة، حتى فتح المجال الجوي مرة أخرى، حتى وإن كان لم يتعاقد سوى على ماكينة واحدة، من ثلاث ماكينات كان من المفترض أن ينهي عقود شرائهم.
كانت هذه هي المرة السابعة للمهندس مجدي في هولندا، وكانت أمستردام في تلك الأيام القليلة كما لم يشاهدها من قبل، مدينة خاوية منطفئة الأضواء، بعد أن كانت شوارعها تعج بالأفواج من البشر كموسم الحجيج، بحسب وصفه.
يعود مجدي بذاكرته للوراء ويبتسم، ثم يقول "أنا كان ممكن مسافرش أصلا، اتأخرت عالطيارة في مصر، ووصلت على آخر لحظة"، ورغم الحزن الذي يشعر به مجدي لإخفاق رحلته التي بدأ يخطط لها منذ شهرين، كان يعلم أن قرار الشركة بعودته كان صائبًا "محدش عارف الخير فين".
الثانية والنصف
النداء الأخير للرحلة MS 758..
لم يتحرك محمود ورفاقه من مقاعدهم في ساحة الانتظار، رغم اصطفاف أغلب المسافرين، وبدء الركاب بصعود الطائرة، "مش هنقف في طوابير مع الناس هنستنى لما الناس تطلع". هكذا اتفق الرفاق.
وصل محمود مع مجموعة من رفاقه إلى هولندا في بداية الأسبوع، لقضاء عطلة تابعة لأحد برامج شركات السياحة، "الفيزا إللي كانت معانا شهر.. كنا ناويين نطول هنا شوية"، ولكن بعد يومين من وصولهم، تبدل شكل "أمستردام"، وتحولت من مدينة سياحية، مكتظة بالمحلات والمطاعم والعلامات التجارية الشهيرة، إلى مدينة مغلقة، لا يعمل بها سوى خدمة الديليفري إن وجدت.
لم يكن قرار العودة سهل على محمود ورفاقه، أخذتهم بساطة المدينة العريقة، وسائل المواصلات السهلة كالدراجات، والمساحات الخضراء على مرمى البصر، كانت فزاعة الكورونا في نظرهم مبالغ فيها، "فيروس 3% بيموتوا منه.. زي ما البرد أحيانًا ناس بتموت منه.. نسبة حوادث الطرق عندنا أكتر".
لكن قرار وقف حركة الطيران بدل رأيهم "ما أهه أنا مينفعش أكسر فيزا.. ويوم زي 10.. وأديني وفرت فلوس".. هكذا أصبح رأي محمود ورفاقه في النهاية.
على متن الطائرة، ولمدة 4 ساعات ونصف هي مدة الرحلة، التزم خلالها طاقم الطائرة بجميع الإجراءات الاحترازية، من ارتداء الأقنعة والقفازات الطبية، اكتست جميع الوجوه بالوجوم، بين حزن على خطط تبدلت، وخوف من خطر المرور بالمطارات في تلك المرحلة، وقلق على تركوه خلفهم من مصالح ومتاع وأحلام، وأهل سيشاركونهم الخطر بعد العودة لمدة 14 يوم، في عزلة اختيارية، تحسبًا لظهور علامات الإصابة بكورونا.
فيديو قد يعجبك: