بين شبح البطالة والمرض.. حكاية مرشدين سياحيين في الأقصر مع «كورونا»
كتب - عبدالله عويس:
محفوفٌ بالمخاطر، مدفوعٌ برزق أولاده، محتاطٌ بأدوات قد لا تشفع، يقف محمد سيد وسط عشرات الأجانب يومياً، وكله ارتياب وحذر، خِشية فيروس صار حديث الساعة. لكنه إذ لا يملك إلا لغة أجنبية، أهلته ليكون مرشداً سياحياً، لا يجد مفراً من عمل أساسه الاختلاط والحديث المباشر مع سائحين قدموا إلى الأقصر، في ظل إصابات بفيروس كورونا المستجد سجلتها المحافظة، لا ينفك التفكير بخطورتها من جهة، والخوف من البطالة من جهة أخرى، مثله مثل آخرين من العاملين في الإرشاد السياحي.
لساعات طويلة، يلازم محمد عددًا من الأجانب، القادمين من دول متعددة، وخلال تلك الساعات يتحرك الشاب إلى عشرات الأماكن الأثرية والمزارات، كما يتنقل بين منطقة وأخرى صحبة السائحين، يحدثهم عن حضارة بلاده بلا ملل، ويسألوه عن تفاصيل عدة بشأنها فيجيبهم، ورغم المشقة الكبيرة، إلا أن ذلك يمثل للشاب طوق نجاة من بطالة عاشها لفترات ركود السياحة، حيث يعمل في الإرشاد السياحي بالأقصر منذ سنوات طويلة، ويشرف على القادمين من الدول المتحدثة باللغة الإسبانية، وكان الشاب يتابع ما يُنشر حول السياحة، مستبشرًا بمستقبل أفضل لذلك القطاع الأهم بالنسبة له، فهو لا يملك عملاً إلا به، وشهد لحظات كانت الأسوأ له ولأبناء مهنته تلت عام 2011 والفراغ الأمني الذي أحدثته، ثم حادث سقوط الطائرة الروسية في شرم الشيخ 2015، وتعليق عدد من الدول رحلاتها السياحية إلى مصر، قبل تغير ذلك كله وانتعاش السياحة من جديد، حتى قاربت الحجوزات السياحة من معدلات عام 2010، ففي ذلك العام وصل عدد السائحين إلى 14.7 مليون سائح، ثم هبط إلى 9.8 مليون في 2011، ثم ظل في هبوط حتى 2015 بـ9.3 مليون سائح، لتصل إلى 11.3 مليون سائح في 2018 وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
تحسنت السياحة كثيرًا، لكن قليلاً من الارتياب ساور محمد حين وصل إلى مسمعه، إعلان مصر أول إصابة لديها بفيروس كورونا المستجد «كوفيد-19»، في 14 فبراير من العام الجاري. لم يعبأ الشاب كثيرًا، ظن أن الأمر لن يسوء أكثر من ذلك، لكن ذلك الإعلان تلاه آخر في 2 مارس الجاري، بإصابة كندي بالفيروس، سرعان ما أعقبه إصابة أول مصري عائد من صربيا مرورًا بفرنسا بالفيروس في الـ5 من مارس الجاري، وفي كل ذلك كان عمل الرجل في السياحة قائمًا بلا أي تغير ملحوظ، لكن مارس سيحمل له أنباء أخرى أكثر قلقًا بشأن انتشار الفيروس الذي وصفه مدير منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، بأنه مقلق للغاية، وأن على جميع البلدان اعتبار احتوائه أولوية قصوى.
سيطر القلق على محمد، عندما أعلنت مصر إصابة 12 مواطنًا على متن مركب نيلي في الأقصر، الجمعة الماضية، وهو خبر كان له وقع سيء في نفس الرجل الذي انضم إلى أسرته طفلة منذ 8 شهور، يعولهم جميعا من العمل في السياحة: "حسيت إن ده تهديد مباشر ليا، وكان ليا صحاب اشتغلوا على المركب ده فبقيت أكلمهم يتبعوا إجراءات وزارة الصحة" يحكي الرجل، الذي قضى ليلته تلك يفكر في غد مجهول الملامح، لكن بعض تفاصيله تبدت حين أعلنت مصر مساء السبت إصابة 33 آخرين على المركب، ليكون إجمالي الإصابات عليه 45 فردًا، من أصل 171 شخصًا على متنه. وبذلك الإعلان يبدأ الرجل في اتخاذ إجراءات جديدة، لم يكن يتخذها من قبل، سواء هو أو بعض أصدقائه، مثلما فعل مصطفى رفاعي، الذي يعمل في المجال نفسه.
بدأ مصطفى الإرشاد السياحي في عام 2005، وبعد وصول حالات الإصابة بفيروس كورونا على المركب إلى 45، صارت الأقنعة الطبية تلازم الرجل، كما أن المطهرات تظل بحوزته طيلة الوقت، ويلتزم بمسافة آمنة بينه وبين الأجانب الذين يخالطونه لعدة أيام خلال تنقلاتهم في مزارات الأقصر وآثارها المتعددة، إضافة إلى جلبه أقنعة طبية للسائحين الذين معه، فذلك أكثر أماناً له ولهم: «بتعامل يومياً مع حوالي 20 واحد لساعات طويلة، وهما متفهمين حرصي على صحتي وكمان هما حريصين على نفسهم» يحكي الشاب الذي يعمل مع سائحين قادمين من أمريكا وبريطانيا وأستراليا، إضافة إلى أي جنسية أخرى تتحدث الإنجليزية: «بنروح الكرنك ووادي الملوك ومزارات أخرى في الصعيد، خلال الجولات النيلية، وشغال عشان الحفاظ على النظام العام للسياحة في مصر ميتأثرش». يخشى الشاب على نفسه الإصابة بالفيروس، لكنه في الوقت نفسه لا يملك سوى العمل، لينفق على أسرته، رغم تمنيه أن يكون هناك تعليق مؤقت لدخول السائحين، وإجلاء الأجانب الذين قدموا إليها خلال تلك الفترة. لكن عمر خليفة، الذي يعمل في المجال نفسه، كان له رأي آخر.
«فكرت أبطل شغل الفترة دي، بس قلت ممكن الموت يجيلي من مكان تاني» بهذه الكلمات يصف عمر الذي يعمل مرشدًا سياحيًا في الأقصر منذ 2009 حاله خلال تلك الأيام، يسأله السائحون عن وضع الفيروس الذي تخطت إصاباته حتى هذه اللحظة الـ100 ألف وأودى بحياة 3 آلاف و500 في جميع أنحاء العالم، وسجلت غالبيتها في الصين، حيث بدأ الفيروس في ديسمبر الماضي. وكان ذلك كله باعثاً على القلق، والالتزام بالإرشادات الصحية التي أعلنت عنها وزارة الصحة المصرية: «كمامات ومطهرات كل شوية، ومسافة بيني وبين الناس» قالها قبل أن يطالع خبرًا لوفاة أول مواطن بسبب الكورونا في مصر، وهو ألماني الجنسية، يبلغ من العمر 60 عامًا، ظهرت عليه أعراض مرضية تتمثل فى إرتفاع حرارته، عند وصوله من محافظة الأقصر إلى الغردقة، وتم وضعه فى الرعاية المركزة لمعاناته من فشل تتفسي ناتج عن إلتهاب رئوي حاد، قبل وفاته، الأحد الـ8 من مارس الجاري، وهو أمر زاد من حدة قلق الشاب، لكنه سيكمل عمله في كل الأحوال، بحثًا عن لقمة عيش له ولبناته الثلاث: «وفاة المواطن الألماني ده قضاء وقدر».
تعاملات كل من محمد ومصطفى وعمر مع الآخرين صارت بحساب، بدءا من السائحين، مرورًا بأصدقائهم وصولا إلى منازلهم وأسرهم، فالرهبة تمتلك الجميع، وخشية الإصابة ونقل العدوى تسيطر على الثلاثة، ولذلك كان الاحتياط واجبًا، فصار محمد يتعمد ألا يصافح أصدقائه كثيرًا، ويلجأ لمطهر يلازمه ليمسح به يده في كل حين، بينما يغير مصطفى الأقنعة الوقائية التي يرتديها عقب عدة ساعات، ويحرص ألا يكون احتكاكه بمن حوله كبير، ورغم اعتقاد عمر بأن الحذر لا يمنع القدر، إلا أنه يؤمن بالأشياء ومسبباتها، ولذلك يحرص على سلامته وسلامة المحيطين به بالمبالغة في النظافة الشخصية واتباعه الإرشادات الصحية المعلنة من قبل منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة المصرية.
لكن ذلك كله هين، تكمن الصعوبة فقط في تعاملات الثلاثة داخل منازلهم مع أسرهم، فمن جهة يكون الاختلاط بهم كبير، ومن جهة أخرى فإن العاملين يخشون على ذويهم من الفيروس الذي قد يكون عالقا بملابسهم أو أجسادهم أو حتى أصيبوا به. فلا يدخل محمد منزله إلا وينظف نفسه تمامًا، ويعقم يديه بمطهرات، ولا يخالط أفراد أسرته كثيرًا خلال تلك الفترة، كما يستخدم مصطفى عددًا من المطهرات التي يحتفظ بها في منزله: «وبقى تعاملي مع أولادي حذر جدًا». بينما لا يقضي عمر وقتًا طويلاً مع أولاده بعد عودته من العمل: «قللت اللعب معاهم جدًا» ويتذكر آخر وفد قام بالعمل معهم بعد قدومهم من نيوزلاندا، ولم يرتد أحدهم قناعًا طبيًا على وجهه، بينما كان يلتزم هو بارتدائه.
محافظة الأقصر، أحد أهم محافظات مصر الجاذبة للسياحة، بما تتمتع به من آثار، تصل إلى 800 منطقة ومزارات أثرية، بحسب ما يوضح الموقع الرسمي للمحافظة، كما أنها كانت عاصمة لمصر حتى بداية الأسرة السادسة الفرعونية. ويتجه كل من محمد ومصطفى وعمر إلى عدد من المزارات رفقة السائحين، لعل أشهرها معبد الأقصر، ومعبد الكرنك، ومتحف التحنيط، وتمثالًا ممنون، ومعبد آمون رع الكبير، ومعبد الإله خونسو، ووادي الملوك، ووادي الملكات ومقبرة الملك توت عنخ آمون، ومعبد حتشبسوت، ومعبد الرامسيوم والدير البحري، ومعبد مدينة هابو. كما أن بالمحافظة مطار دولي يستقبل الرحلات من كافة أنحاء العالم فضلا عن رحلات داخلية، ومحطة مركزية للقطارات باختلاف أنواعها، وتربط بين الوجهين البحري والقبلي، كما تربتط الأقصر بطريق بري دولي، وطريق نهري كذلك. ولذلك فهي وجهة محببة لدى عدد من السائحين الأجانب أو المواطنين المحليين الباحثين عن رحلة مميزة، ويخشى كل من محمد ومصطفى وعمر من تأثير ذلك الفيروس، فهم لا يملكون عملا غير الإرشاد السياحي، واعتمادهم الكامل على إعانة أسرهم من خلال السياحة.
بعد لحظات من إعلان وفاة أول مصاب بكورونا في مصر؛ أعلنت وزارة الصحة ارتفاع أعداد المصابين بفيروس كورونا المستجد، إلى 55 شخصًا، بعد أن كانت 48 حالة، أعقب ذلك إجراءات عدة صباح الاثنين، الـ9 من مارس الجاري، تابعها محمد سيد بقلق، وتمثلت في تعليق الزيارات إلى الأماكن السياحية والأثرية، حتى تنتهي الفرق الطبية من عمليات التحاليل وقياس درجات الحرارة لنزلاء الفنادق الثابتة والعائمة والبواخر النيلية، في ساعات من صباح اليوم، ثم استبشر الشاب خيرًا بعدما عادت الأمور إلى طبيعتها، وعاد إلى العمل. وفي اليوم السابق لذلك الإجراء، وقبل الإعلان عن الحالات الجديدة المصابة بالفيروس، كان وزير السياحة والآثار المصري الدكتور خالد العناني، ووزيرة الصحة الدكتورة هالة زايد، ووزير الطيران المدني محمد منار، في زيارة للأقصر، للوقوف على الإجراءات الصحية المتبعة، وحالة الحركة السياحية بالمناطق الأثرية بالأقصر، وكذلك العاملين بالقطاع السياحي. كما أكد على و أكد الدكتور خالد العناني بأنه سيتم اتخاذ إجراءات صارمة ضد كل من يتستر أو لم يبلغ عن أية حالة اشتباه للمرض في فندق أو منشأة سياحية.
مع إعلان عدة دول تحذير لرعاياها بالسفر عموما مثل فرنسا وإيطاليا، وتوقف الرحلات الجوية بين عدد من الدول العربية، كما فعلت السعودية مع مصر ودول أخرى، كإجراء مؤقت للحد من انتشار فيروس كورونا، كان القلق يسري إلى العاملين في مجال السياحة. ويرى وليد البطوطي مستشار وزير السياحة الأسبق، أن دول العالم كلها ستتأثر بتبعات فيروس كورونا، كما أن حركة السياحة العالمية بما فيها مصر سيكون لها نصيب من ذلك التأثير: «يعني لما الخطوط الألمانية تخفض رحلاتها لنسبة 50% ولما يحصل إلغاء حجوزات يبقى أكيد في تأثير» يحكي البطوطي، الذي يقدر عدد العاملين في مجال الإرشاد السياحي بالأقصر ما بين 2000 إلى 2500 شخص.
يعمل مصطفى رفاعي لدى عدد من الشركات، ولاحظ عددًا من الحجوزات التي تم إلغاؤها مؤخرًا، وإن لم تكن النسب كبيرة، تماما مثلما يلاحظ عمر خليفة، الذي كان على وشك استلام عمل مع عدد من السائحين لكن تم إلغاؤه عقب تلك الحالات المكتشفة في الأقصر المصابة بفيروس كورونا. لكن محمد عثمان رئيس لجنة التسويق السياحي بمحافظة الأقصر، يشير إلى أن الأقصر آمنة تمامًا، وأن المطارات وحركة التنقل متاحة للجميع: «مصر فيها 100 مليون شخص فلما 50 بس يصابوا مش رقم، موصلناش لمرحلة إننا نوقف السياحة».
يتمنى المرشدون السياحيون الذين صاروا يتعاملون مع الأجانب والسائحين بحذر، أن تمر تلك الأيام على خير، وألا تتعطل أعمالهم بسبب الفيروس الذي كانت بدايته من الصين في ديسمبر العام الماضي، وألا يطال أحدهم أذى أو مكروه بسببه، بينما يتمنى محمد سيد أن تقوم وزارة الصحة بالكشف وتقديم الأمصال اللازمة حال اكتشافها له ولغيره من المرشدين، فهم الأكثر تواصلاً مع السائحين القادمين من دول عدة، بما في ذلك من احتمالات التعرض للإصابة، رغم التشديدات الموجودة بالمطارات، لكن حضانة الجسم للفيروس الممتدة لـ14 يومًا تحول أحيانًا دون اكتشافه.
يعود محمد ومصطفى وعمر إلى أسرهم وأولادهم في نهاية يوم مرهق، ينفقون ما في جيوبهم على احتياجات المنزل، ويقضون ليال على أمل وجود فرصة عمل أخرى مع عدد آخر من السائحين القادمين من الخارج. يخشون البطالة التي عاشوها في فترات كانت الأصعب بالنسبة لهم، فذلك قوتهم وقوت أسرهم، وهذه مهنة لا يعرفون غيرها.
فيديو قد يعجبك: