ثالثهما الحُب.. هولندية ونوبي يعيشان على جزيرة بعيدًا عن "كورونا"
كتب - محمد مهدي:
تصوير: جلال المسري
على ضفاف النيل، داخل جزيرة نوبية بأسوان، لا مساحة للحديث عن فيروس "كورونا" المستجد؛ الحياة هادئة خالية من مخاوف وأخبار الإصابات، لا حاجة للتباعد الاجتماعي والعُزلة في البيت؛ إذ يعيش زوجان فقط في المكان، سيدة هولندية عشقت منذ زمن طويل، "مراكبي" من النوبة، شغفها حبا، فتركت كل شيء خلفها لتعيش في كنفه، دنيا بسيطة تمضي بين الزراعة وطهو الطعام، رفقة ساعات للقراءة والتعبد، وتأمل قصة غرامهما الممتدة منذ 30 عاما، وما بها من ذكريات لا تحدث في العُمر سوى مرة "العيش هنا على الجزيرة، مع من أُحب، أفضل قرار اتخذته في حياتي" تقولها "جوزيه سلبيا" في حوارها لمصراوي.
في أواخر عام 1991، كان "عبدالله" أحد أشهر "المراكبية" في النوبة، يُبحر على مدار الشهر من أسوان إلى الأقصر بمركب متوسط الحجم، عُرف عن الشاب النوبي البراعة وحسن المعشر وقدرته الفائقة على فَهم وتعلم لغات زبائنه من الأجانب، فضلًا عن عشقه للسفر إلى القاهرة بين حين وآخر، ليدفعه القَدر في إحدى زياراته للعاصمة إلى لقاء فتاة هولندية خلال رحلة سياحية لها بمصر.
شعور لم يعهده من قَبل مسّ قلبه منذ الوهلة الأولى، ظلت عيناه معلقة بها، بالسحر الخاص في طريقة التعبير عن نفسها، الخفة في حركتها، شعرها القصير وضحكتها "حركت قَلبي" بحسب تعبير "عبدالله" لمصراوي، جعله ذلك يخشى الاقتراب.
لقاء قصير لكنه ترك بصمة لا تُمحى في قلب "عبدالله"، ظل محتفظًا بنسخة من ابتسامتها، وعينيها الزرقاوين في مخيلته، حينما عاد إلى أسوان، تاركًا لها دعوة شفهية لزيارة النوبة في أقرب فُرصة، لم ينتظر كثيرًا سرعان ما تلقى رسالة بوصولها، خلال ساعات إلى بلاده، طار فرحا باللقاء الثاني، تلمست "جوزيه" سعادته بالأمر، اهتمامه بها دون اقتحام لخصوصيتها في جولاتهما السياحية، غمرها شعور بالراحة والاطمئنان في وجوده "أدركت كم هو شخص مختلف، رجل لا يشبه الآخرين" أيام ليس كمثلها شيء مضت قبل انتهاء إجازتها، بات عليها الانطلاق إلى هولندا، كان وداعا لحبيبين، لم يعترفا بعدُ بما يدور داخلهما، على وعد بالتواصل المستمر بأي طريقة ممكنة.
صوتها الملائكي القادم من هولندا مرتين أسبوعيًا، دفع "عبدالله" إلى قطع مسافة كبيرة على قدميه إلى أقرب قرية بها هاتف أرضي، كلماتها القليلة وحكاياتها المسلية لها مفعول السحر، تُسقيه الأمل والبهجة، توقف آلام الحنين في أحشائه، تختفي معها المسافات الشاسعة بينهما، لكنها لم تكن كافية، يحتاجان إلى مزيد من الوقت والحديث، فكرا في كيفية حل تلك المعضلة حتى اهتديا في نهاية الأمر إلى اللجوء للمراسلة، ليتحول مشواره إلى مكتب البريد "بقينا نبعت كل اللي عايزين نقوله في شرايط الكاسيت".
توطدت علاقة "عبدالله" بالهولندية، يتبادلان الحديث عن ذويهما، الأشياء الأقرب لهما، البلاد التي يحلمان بزيارتها، الأحلام التي تراودهما عن المستقبل، صارا يعرفان الكثير عن بعضهما "حسيت إنها إنسانة مخلصة، والحب عندها أهم من الاختلافات في الدين والثقافة والمناصب" ظلت المحبة قائمة من بعيد حتى تعرض لوعكة صحية شديدة في عام 1995 "حصلي نزيف في المعدة ونقلوني القاهرة، كنت بين الحياة والموت" عندما علمت بالخبر الحزين هرعت إليه في أقرب طائرة "سابت اللي وراها وجاتلي على المستشفى، دا خلاني أعشقها أكتر".
في أحد عنابر مستشفى قصر العيني، ظلت الهولندية ترعى "عبدالله"، تسهر على راحته، تناوله الدواء والطعام، لم تتركه قط، حتى دارت الأسئلة والاستفسارات بين الأطباء والممرضات عن سِر اهتمام الفتاة الأجنبية بالمريض "عندما تُحب شخصا ما ابق معه، اتبع حدسك، أنا أؤمن بحدسي جدًا" وفق تعبير "جوزيه"، بعد فترة طويلة من المعاناة مع المرض تماثل للشفاء، ومع خروجه من المكان صرح لها برغبته في الزواج منها، تورد وجهها حينما استمعت إلى طلبه.
"سعدت جدًا، ولم أضع في حسباني الديانة أو أنه من وطن آخر، هو فقط الشخص الذي أُفضل البقاء معه" لن تتم الخطوة دون ترتيبات أولية، من بينها إخبار أسرتها برغبتها "احترموا ما أريد، وباركوا الخطوة" توجهت أيضًا إلى الأزهر الشريف لإشهار إسلامها "أنا مؤمنة، أواظب على الصلاة دائمًا فعائلتي كاثوليكية متدينة، وفي الإسلام وجدت تعاليم طيبة مثل الدعوة إلى العمل الصالح وحُب الناس، لذلك رغبت في اعتناقه" وجرى التجهيز النهائي لإقامة فرح أسطوري رغم بساطته.
على الجزيرة التي يعيشان بها الآن، القريبة من خزان أسوان، وقفت "جوزيه" بفستان بسيط داخل الغرفة الوحيدة بالمكان، ومن حولها سيدات النوبة، تتزينّ من أجل عرسها، قبل أن تخرج إلى زوجها، بهجة تعم المكان، تعلو أصوات الغناء والضرب على الدفوف "أعدوا لنا فرحا نوبيا جميلا" يلتف حولهم الأهل والأصدقاء، يرقص عبدالله مع زوجته الهولندية، الحلم تحقق، والسعادة بادية على الجميع، الحُب ينتصر أحيانًا رغم الفوارق.
ليلة مثالية تليق بقصتهما "لا يمكن نسيان تلك اللحظات، سهرنا حتى الصباح" من بعدها عاش الزوجان في نعيم بفضل التفاهم، اتخذا قرارات سريعة بشأن علاقتهما "العودة لهولندا للحفاظ على وظيفتي والمجيء في الإجازات، وسفره إلى بيت عائلتي كلما سنحت الفُرصة" دام ذلك لنحو 30 عاما، الغياب يزيد الشوق والمحبة، فيما ذاع صيتهما في بلادها ونشرت عنهما عدد من الصحف الأوروبية.
خلال سنوات الزواج يلتقي الزوجان 4 مرات سنويًا، وما دون ذلك انشغال تام بالعمل، "جوزيه" تدرجت في عملها بمتحف خرونينغن حتى صارت مديرة، بينما مضى "عبدالله" في مهنته كمراكبي لسنوات قبل أن يتجه إلى الزراعة على جزيرته مع الانهماك في بناء بيت بمساحة أكبر على الطراز النوبي القديم، مكون من غُرف للمعيشة ومطبخ وحمام في أحد جوانبه، وغُرفتين للنوم في جانب آخر، وغُرفة فسيحة مواجهة للنيل تستخدمها "جوزيه" في القراءة والكتابة.
" المكان اتحول بالحب لكيان جميل، طوبة طوبة" مزرعة وبيت وجلسة للضيوف في منتصف الجزيرة، بهائم ودواجن في الأرجاء، ومركب صغير يستخدمانه للتنقل وشراء احتياجاتهما أو حضور المناسبات المختلفة للأهل والأصدقاء والجيران في القرى والجزر المقابلة لهم، يفتقد "عبدالله" تلك الحالة حينما يسافر إلى هولندا في زيارة سنوية، تمكن خلالها من خلق علاقة طيبة مع أسرة "جوزيه" حتى إنهم عرضوا عليه الاستقرار هناك والحصول على وظيفة جيدة "لكني رفضت، محبش أعيش غير في أرضي، ترابنا منقدرش نسيبه".
قبل المعاش بـ7 سنوات استيقظت "جوزيه" ذات يوم، شعرت بعدم القدرة على الاستمرار في عملها والحياة بهولندا، أبلغت الجميع بمغادرتها إلى النوبة دون عودة "أصيبوا بالصدمة، قالوا لديكِ حياة جيدة هنا، لكني لم أهتم بذلك، فقط علمت أنه حان وقت الرحيل" اختارت الجزيرة لقضاء ما تبقى من عُمرها "أحببت العيش في سلام، هنا تسمع أصوات الطيور، وترى النيل أمامك مباشرة، لا أحتاج أكثر من هذا المنظر الرائع" بساطة المكان وتفاصيله جعلت الحياة هانئة بعيدة تماما عن أخبار الدنيا من صراعات وأزمات وأمراض "معندناش تلفزيون، ولا فيه تكييف ولا مروحة حتى، بنقضي يومنا مع الطبيعة والزرع والنيل".
تستيقظ "جوزيه" في السادسة والنصف صباحًا، كما تروي لمصراوي، تتناول القهوة مع زوجها، تُصلي رفقته، تُطعم الكلاب ثم تمارس الرياضة لنحو ساعة في أنحاء الجزيرة، تقضي ساعات النهار في زراعة الخضروات وحصدها بجانب "عبدالله"، تختار الطعام من مزرعتها "معظم الوقت أطهو بالطريقة الأوروبية، وأجيد أيضًا طبخ البامية" بينما تخصص ساعات في اليوم للقراءة ثم الكتابة "أعشق الكتابة ولكن لم يكن لدي وقت" رغبت في توثيق علاقة الحُب بينها وبين "عبدالله".
سردت "جوزيه" في كتابها الشرارة الأولى لعلاقتهما وما جرى خلال 3 عقود حتى اللحظة الحالية "تحمس ناشر في هولندا لإصدار الكتاب وفي نوفمبر 2018 سافرنا إلى هناك وأقمنا حفلا لإطلاق الكتاب" بعدها بشهر واحد أقيم معرض عن النوبة في متحف هولندي "طلبوا من زوجي افتتاحه، كانت تجربة رائعة، وقام عبدالله بالحديث عن الثقافة والتراث النوبي، وعرضنا الكتاب خلال تلك الليلة".
تلك ليست المرة الأولى التي تعايش فيها "جوزيه" وقتا عصيبا في مصر "جئت إلى هنا في أوقات صعبة مثل الثورة، وأيضًا الأيام المشتعلة التي سبقت رحيل مرسي"لم يمنعها ذلك من الحضور إلى النوبة أو دفعها ذلك إلى الفرار لبلادها "لم أكن الوحيدة المعرضة للخطر حينها، لذلك أتقبل الأمر مثل الآخرين" لذلك لا ترى أزمة كبيرة في تفشي فيروس "كورونا" في الشهور الأخيرة بالعالم، ووصول عدد الإصابات في مصر إلى 1939 حالة-خلال كتابة تلك السطور- إذ يبقى الزوجان على الجزيرة لا يغادران لأي سبب.
"مابنزلش، مفيش حاجة نقصانا، ودي طبيعتنا كنا بننزل في المناسبات بس" كما يؤكد عبدالله، ينعم بالعيش رفقة زوجته بعيدًا عن ضجيج "كورونا" يحاولان الابتعاد قدر الإمكان عن الأخبار المزعجة، يتحركان بمركب صغير حول الجزيرة حينما يشعران بالملل، ويقضيان لحظات الغروب على مقربة من النيل، لاستعادة سنوات الصداقة والعشق والزواج "الحُب هو من جاء بي إلى هنا، دونه لم أكن سأعيش مع عبدالله، أو أستقر في مصر، أو أشعر بالاطمئنان دائمًا في أحلك الأوقات" وفق تعبير جوزيه.
فيديو قد يعجبك: