صلوات بقواعد العزل.. كيف أحيا مسيحيون أسبوع الآلام رغم كورونا؟
تقرير- مارينا ميلاد
رسومات - فادي فرنسيس
لا نسمع للكنائس أجراسا الآن. لا نرى أشخاصا داخلين وخارجين من خلف تلك الحواجز الأسمنتية والحديدية التي أحاطت بها في السنوات الأخيرة. لم تعد هذه الحواجز تحميهم أو تطمئنهم؛ فالخوف هذه المرة ليس من أشخاص سيشنون هجمات إرهابية، وإنما من فيروس اجتاح العالم؛ ما جعل الكنيسة تأخذ قرارها بالإغلاق الكامل، منذ 21 مارس، يوم بلغت أعداد مصابي كورونا في مصر 294 شخصًا.
ارتضى البعض ذلك، واعتبروه قرارًا صائبًا، بينما تذمر آخرون ممن يُخيل لهم "أنه لا ضرر إذا ذهبنا لنصلي".
ومع اختلاف تفكير أولئك وهؤلاء؛ جمعهم شيء واحد، وهو وقع القرار القاسي مع حلول أحد السعف وبداية أسبوع الآلام الذي ينتهي بعيد القيامة، تلك الأيام الأقدس عندهم، الأيام المنتظرة كل عام.
اجتهد أبناء الكنيسة في تهوين الأمر بجمع أنفسهم عبر تطبيقات ومنصات لمشاركة صلواتهم صوتًا وصورة، ولا حيلة لهم غير ذلك. إلا أن أسقف سمالوط، بمحافظة المنيا، ومن معه كان لهم رأيٌ آخر. قرروا أن يصلوا بالكنيسة ولكن بمفردهم، معزولين، خاضعين لقواعد خاصة.
لنشارك هؤلاء أيامهم الاستثنائية التي يحيون بها أياما استثنائية أخرى في حياة العالم وقعت قبل ألفي عام.
أحد السعف
قبل أن تنشر الشمس أشعّتها؛ كان الأنبا بفناتيوس، أسقف سمالوط، ومجموعته المكونة من 4 شمامسة وكاهنيْن استيقظوا، واستعدوا للخروج. ترجل الشمامسة والكهنة باتجاه الكنيسة التي تبعد عن غرفهم نحو 100 متر، على أن يكونوا هناك عند الخامسة والنصف صباحًا.
خارج جدران هذا المكان الذي يضم الكنيسة والنادي المقيمين به، كانت الشوارع ساكنة تماما. ربما يكون ذلك طبيعيًا في هذا الوقت المبكر لكن عدا هذا الأحد تحديدًا الذي من المعتاد أن يخرج فيه بائعو السعف من المنيا وغيرها ليلحقوا مساحات أمام الكنائس قبل أن تأتي الأسر ليصلوا، ويصنعوا سعفًا، كالذي استقبلت به الجموع السيد المسيح عند دخوله القدس.
لكن هذه الساعة لم تكن مبهجة كعادتها، كانت ساعة حظر مفروض على مصر بداية من الثامنة مساء وحتى السادسة صباحًا في اليوم التالي.
لأول مرة، يعايش هؤلاء الشمامسة والكهنة وأسقفهم لحظة كهذه التي يدخلون فيها إلى كنيسة فارغة يوم أحد السعف! (الأحد الماضي).
"لم نقم أي قداس بعد صدور القرار؛ لكنه الأسبوع المقدس؛ ففكر الأنبا بفناتيوس- مع إلحاح الناس- في إقامة معسكر مغلق معزول لمجموعة يختارها لتؤدي صلوات أسبوع الآلام وحتى العيد". يقول الأب تواضروس أنطونيوس (33 سنة) والذي صار كاهنًا بالكنيسة نفسها قبل 5 سنوات.
في اليومين السابقين لهذا الأحد، أجرت المجموعة كلها التي ستسكن هذا المعسكر، سواء هؤلاء الكهنة والشمامسة أو عمال النظافة والعاملون - فحوصات طبية، والتقوا بطبيب صدر، للتأكد من خلوهم من أي أمراض معدية.
صار كل شيء مرتبًا بعدها، وأغلقت أبواب المكان التي يقف عليها كل من الأمن الإداري والتابع لوزارة الداخلية؛ لا أحد يدخل أو يخرج.
لم ينزعج أحد منهم من هذه الإجراءات التي أبعدتهم عن أسرهم أو قيدتهم، فكما يقول الأب تواضروس: "هذا امتياز لنا - أن نتمكن من الصلاة في هذا الأسبوع رغم الظروف". ويوضح أنه حتى الشمامسة جرى اختيار شباب صغار غير متزوجين؛ لتكون التزماتهم قليلة.
يقف السبعة داخل الكنيسة المزينة بالسعف، وقد بدأوا صلاتهم ورَفع الكاهن البخور. كان مينا محفوظ، طالب الهندسة الذي قضى 12 عامًا شماسًا من عمره البالغ 21 عاما، يقرأ بالتبادل معهم أجزاء من الكتاب المقدس؛ تحكي دخول السيد المسيح أريحا، تلك المدينة الفلسطينية القديمة، ولقاءه بزكا، رئيس العشارين (جامع الضرائب)، قصير القامة الذي وقف على شجرة كي يرى المسيح وسط الجموع، الثري الذي رآه الجميع رجلا خاطئًا، لكن المسيح لم يرَه مثلهم، وطلب أن يذهب إلى بيته.
"فرحتي إني بصلي مش مكتملة لأن الناس مش موجودة معانا".. يقول مينا، الذي تم اختياره مع زملائه من معهد تعليم الألحان التابع لمطرانية سمالوط.
بدلوا ثيابهم جميعًا للملابس البيضاء، وألقى الأنبا بفناتيوس كلمته عليهم بعد أن حلوا محل الحاضرين ثم غيروا كل ما هو أبيض إلى أسود مرة أخرى: الملابس، الستائر، والأغطية، كإشارة لبدء صلاة "الجناز العام" التي يعلن بها الكاهن بدء أسبوع آلام المسيح، وهي الصلاة المعتاد - ما قبل أيام كورونا - أن يحضرها الشعب كله، لأن أي شخص يموت في هذا الأسبوع لن يُصلى عليه.
أيام الآلام
بات للفريق روتين يومي ومهمات محددة؛ أهمها التزامهم بالحضور إلى الكنيسة عند الحادية عشرة والنصف صباحًا ليؤدوا صلاة البصخة (العبور) وهي الصلاة اليومية في هذا الأسبوع، وتستمر فترتها الأولى حتى الثالثة ظهرًا، والثانية من السادسة مساء وحتى التاسعة.
بين الفترتين، وبعد نهاية الثانية؛ يأتي وقت الطعام الذي يتناولونه معًا ويشرف على تحضيره موسى لونديوس (29 سنة)، الذي يعمل في هذا النادي التابع لمطرانية سمالوط منذ أربع سنوات ونصف.
رغم أن الشيف لونديوس يقيم معهم في المكان نفسه، فإنه لم يحضر صلوات "الأسبوع المقدس" لأول مرة؛ إذ إنه يطيع تعليمات الأسقف بتحديد عدد معين بالكنيسة: "كنت دايمًا ألاقي وقت وأحضر الصلاة جنب شغلي بس المرة دي معرفتش بسبب الظروف اللي إحنا فيها، لكن يكفيني أكون معاهم أسبوع في نفس المكان".
قبل هذا الأسبوع كان لونديوس يعمل طيلة النهار بالنادي؛ فهذا المكان هو مقر إقامة الأسقف الدائم، لكن بنهاية اليوم كان الرجل يذهب إلى بيته القريب من الكنيسة؛ حيث يعيش مع والدته وإخوته. أما الآن، فيقضي للمرة الأولى هذه الأيام بعيدًا عنهم: "كان فيه زعل إني مش معاهم لكن في الأول والآخر ده شغلي وكمان اطمنوا إني مع الآباء والشمامسة".
يضع الشيف لونديوس الهاتف أمامه ليتابع الصلاة الدائرة على مقربة منه عبر البث المباشر على صفحة المطرانية على موقع "فيسبوك"، وقد انتهى من إعداد الطعام البسيط الذي يناسب الصيام؛ وهو يرتدي الكمامة و"الجوانتي". وعندما عرفه البث أن الصلاة أوشكت على نهايتها؛ سارع ومعه ثلاثة بالمطبخ بإعداد الطاولة.
كانوا يحيون في صلاتهم يومي الاثنين والثلاثاء مواقف المسيح، وتعاليمه، وذكرى دخوله الهيكل وطرده الباعة والصيارفة منها: "أليس مكتوبًا بيتي بيت صلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" (مرقس 17:11)، وثورة رؤساء الكهنة اليهود عليه خوفًا من التفاف الناس حوله؛ فاعتبروا دعوته إلى العدل "إفسادا للأمة" حيث "طلبوا كيف يهلكونه لأنهم خافوه" (مرقس 18:11).
الأحداث التي أدت إلى اتفاقهم مع تلميذه "يهوذا" على خيانته مقابل المال وتسليمه لهم، وتناوب كل من مينا والأب تواضروس ومن معهم على ذِكرها في صلاتهم يوم الأربعاء.
بعد أن تنتهي المجموعة من طعامها يكون كل منهم حر فيما يفعله؛ فيقول الأب تواضروس إنه "ليس هناك قيود على أي شخص. عليهم فقط الالتزام بمواعيد الصلاة وبرنامج روحي يتضمن قراءات ليكون الأسبوع خلوة أو دراسة". لكن مينا يرى أنه ليس لديهم وقت إلا لمراجعة الألحان وقراءات اليوم التالي: "كثيرة جدًا واحنا عددنا قليل المرة دي" خاصة ولو كان يومهم التالي مهما وطويلا كـ"خميس العهد".
خميس العهد
في مساء ذلك اليوم، اجتمع السيد المسيح مع تلاميذه الاثني عشر، وفيما هم يأكلون فاجأهم قائلا: "واحدٌ منكم يُسلمني". كان أمرًا صادمًا، ملأهم الشك في أنفسهم ومن حولهم، وسألوه؛ لكن إجاباته لم تحسم من هو الخائن؟
كان ذلك المشهد الدرامي هو الحاضر على قداسهم يوم الخميس، الذي بدأ عند الخامسة والنصف صباحًا وحتى الثانية ظهرًا، مسح الأسقف أرجل الشمامسة والكهنة اقتداءً بغسل المسيح أرجل تلاميذه عندما حثهم على المحبة والاتضاع ثم "وفيما هو يتكلم، إذا يهوذا قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب" (متى 47:26).
تابع صلاتهم هذا اليوم نحو 30 ألفا عبر البث المباشر؛ بينهم أسرة مينا، الذي يقول إنهم سعداء بمشاركته لكن ما يزعجهم أنهم لم يصلوا معًا هذه المرة.
الجمعة العظيمة
"كان يوم جمعة ليس كغيره من الأيام. ضل فيه الناس ضلالا بعيدًا، وأوغلوا في الضلال حتى بلغوا غاية الإثم، وطغى عليهم الشر حتى عموا عن الحق".. يذكر محمد كامل حسين في روايته "قرية ظالمة" عن الأيام الأخيرة للسيد المسيح.
خلال صلاتهم أمس، استرجع الأسقف ومجموعته أحداث الصلب التي بدأت في الثالثة ظهرًا؛ يوم سلموه لبيلاطس وحكم عليه بعد إلحاح الموجودين: "ألبسوه ثوبًا أرجوانيًا وضفروا إكليلًا من شوك ووضعوه على رأسه. كانوا يضربون رأسه بقصبة ويبصقون في وجهه" (مرقس ١٥: ٦-٢٥)، انتهى كل شيء عند السادسة، انتهى الجلد والإهانات والصلب، وأسلم المسيح روحه؛ و"كل الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر رجعوا وهم يقرعون صدورهم" (لوقا 23: 48).
انتهت صلوات الآلام عند هذه الساعة، وخرجت المجموعة ليتناولوا طعامهم الذي حضره الشيف لونديوس بعد صيام انقطاعي طوال اليوم.
سبت النور
رفعوا كل ما هو أسود ليحل محله الأبيض في صلاة العيد مساء اليوم السبت؛ اليوم المعروف بـ"النور" الذي يفيض من قبر المسيح بكنيسة القيامة بالقدس؛ والذي لم يجد هذا العام آلافا ينتظرونه في الكنيسة كالمعتاد، إنما جرى الأمر على نحو غريب: فقط بضعة آباء بالكمامات؛ يدخل وسطهم مطران الروم الأرثوذوكس بعد تفتيشه جيدًا ليخرج حاملا الشموع المضاءة بذلك النور.
سيعود تواضروس، ومينا، والشيف لونديوس ومن معهم إلى أسرهم بعد انتهاء صلاة العيد؛ سيجتمعون معهم حول مائدة واحدة تعلن أصنافها انتهاء الصيام الذي دام 55 يومًا، وفي اليوم التالي سترجع صلاتهم عبر مواقع التواصل مرة أخرى ضمن البرنامج الذي وضعوه؛ الذي لم يقتصر على الصلوات فقط، إنما قد يكون اقتراحا لمشاهدة فيلم ومناقشته، وعمل تمارين رياضية.
يقول الأب تواضروس عن هذا البرنامج إنه "ساعدنا في التخفيف عن الناس بعدما كانوا يعتقدون أن الموت واقف لهم على الباب وفي نفس الوقت ألزمناهم بالبقاء في البيت"، ويؤكد في ذلك على مساحة رجال الدين للتأثير.
استمع إلى تجربة أسرة بيتر إيليا، 39 سنة، "مونتير" في إحدى القنوات ويعيش مع زوجته وابنتيه.
قد تكون كل تلك الأمور غير الاعتيادية لهذه الأيام "فصلا جديدًا في الحياة يعلمنا أن نقدر قيمة أشياء فقدت قيمتها عندما ظننا أنها عادية، مثل حضور الكنيسة"؛ بحسب الأب تواضروس، على الرغم من أنها "الأصعب" بالنسبة له. وعلى طريقته، نظر مينا للأمر عكس أهله، واستغل وقته في البيت للصلاة والقراءة بعيدًا عن زحام حياته. وكلاهما يتمنيان ألا يصليا مرة ثانية وحدهما.
فيديو قد يعجبك: