ماذا فعلت كورونا في معهد الأورام؟.. ما يدور بالمستشفى ومخاوف المرضى
تقرير- مارينا ميلاد
وسط 1322 إصابة بفيروس كورونا في مصر- حتى مساء اليوم الاثنين- كان هناك 17 إصابة تخص الفريق الطبي بالمعهد القومي للأورام، المكان الذي ربما حالة واحدة به كفيلة بإثارة ذعر المئات من العاملين والممرضين والأطباء، المرضى المحتجزين بداخله والآخرون المترددين عليه يوميًا.
وصل الخوف الذي ساد المعهد إلى غرفة مدحت يوسف (40 سنة) التي يقيم فيها كمرافق مع والده الذي أجرى عملية جراحية الثلاثاء الماضي. ذلك عندما سمع أصواتا عالية غير معتادة خارجها. لم يتبين مصدرها ولا سببها في البداية، ليعرف بعد وقت أنها مشادة بين عميد المعهد حاتم أبو القاسم وممرضين مطالبين بعمل تحاليل فيروس كورونا لهم، بعد اكتشاف إصابات في صفوفهم.
وللسبب نفسه؛ لم يتمكن محمد ناجح - المرافق لابنه "محمود" صاحب الـ14 عاما – أن يجري له أشعة على القلب لتوقف العمل بالأقسام، فأضطر الذهاب به إلى مستشفى أخرى ثم العودة إلى غرفتهم بالمعهد.
قبل يوم واحد، قطع مدحت مسافة من بيته بشبرا الخيمة ليصل المعهد عند الرابعة مساء، ويستلم دوره في المبيت مع والده بدلا من أخيه، ذلك التناوب الذي داوما عليه منذ دخول أبيهما المعهد قبل أسبوعين. لكنه وجد هذه المرة سيارتي إسعاف تقفان عند البوابة، وأفراد أمن يمنعونه من الدخول، ولم يخفوا عنه حقيقة الأمر بوجود إصابات كورونا بالمكان.
الغريب أن مدحت لم يتفاجأ؛ فيقول إنه كان يعرف هذا الخبر قبل أسبوع من الأحاديث الدائرة في المعهد حتى إن بعض العاملين نصحوه بألا يُخرج والده كثيرًا: "لقيتهم بيقولوا لي خلي بالك من والدك وميطلعش. فيدوب كنا نطلعه شوية في الشمس ويدخل".
لكن في النهاية، تمكن مدحت من الدخول لغرفة والده الذي يرافقه فيها اثنان من المرضى، ثم خرج من عنده ليسأل أحد الأطباء: من المفترض أن يغير له على الجرح؟ وهذه المرة جاءته الإجابة صادمة إلى حد ما: "مش عايز أدخل لوالدك لأكون مصاب ومعرفش؛ فأنقل له العدوى، وعموما الطاقم كله هيتغير من بكرة".
ولم يرَ مدحت هذا الطبيب مرة أخرى منذ ذلك اليوم.
جاء يوم السبت الذي أغلق فيه المعهد أبوابه أمام المرضى، لتبلغ معه الأزمة ذروتها، وتتابع أصوات المشادات على مسامع مدحت؛ ويزداد خوف محمد ناجح فيغلق باب الغرفة عليه وابنه والحالة الأخرى الموجودة معهم، ولا يفتحه إلا لأخذ الطعام والدواء. وتثار مع كل ذلك تفاصيل وروايات تنفي بعضها أكثر مما تكمله حول "كيف وصل كورونا إلى هنا؟".
فقد عرض الدكتور حاتم أبو القاسم، مدير المعهد، روايته في إحدى القنوات مساء اليوم السابق، وقال إن الإصابات بدأت قبل أسبوع عن طريق ممرض ظهرت عليه الأعراض، وتم عزله والكشف على المخالطين ثم بدأ الأمر ينتشر ليصبحوا 3 أطباء و12 ممرضا وممرضة. وأشار في حديثه إلى أن الممرض الذي يعتبر (الحالة صفر) في المعهد يعمل في مستشفى آخر ظهرت به حالات إصابة.
كما أوضح أنه تم تعقيم المعهد على مدار 3 أيام وتقليل أعداد المرضى قدر الإمكان.
على الجانب الآخر؛ خرج الطاقم الطبي عبر مواقع التواصل الاجتماعي لينفوا أغلب ما تضمنه حديث مديرهم؛ فنشرت الصيدلانية، هاجر عشماوي، أنها وزملاءها طالبوا الإدارة قبل أسبوع بالإغلاق وبدْء عمليات الفحص والتطهير وإخضاع العاملين للعزل المنزلي لأسبوعين للتأكد من خلوهم من المرض، لكن مدير المعهد رفض بشدة وقال: "اللي خايف على نفسه من الإصابة بالفيروس يقدم استقالته ولا يأتي للمعهد"، مهدداً طاقم الصيادلة ممن يرفضون الحضور باتخاذ إجراءات ضدهم وأنه "قادر على إحضار طاقم جديد بالكامل بدلاً منهم"، ونفت أن يكون أخذ الإجراءات التي ذكرها.
وسمع محمد رواية مختلفة بأن هناك حالة جاءت من مستشفى أورام أخرى قبل نحو أسبوع وكان مشتبه في إصابتها وربما هي من نقلت العدوى. لكن لم يهمه، أي الروايات أصدق أو كيف حدث ذلك؛ فالمهم الآن أنه حدث بالفعل.
حاول مدحت معرفة أي معلومة عن تحاليل المرضى أو المرافقين لهم لكن لم يفدْه أحد: "محدش بيقول حاجة ولا حد عايز يرد كله متلخبط ومتوتر". فلجأ إلى الخط الساخن بوزارة الصحة 105 ليبلغهم. سألوه عن ظهور أعراض، فأجابهم بالنفي، وعليه نصحوه بالتزام البيت 14 يوما.
لكن الرجل الذي يعمل في أحد محال قطع الغيار، ولديه ثلاثة أبناء لم يفعل؛ لظروف عمله وزيارته لوالده. وكل ما استطاع فعله هو أخذ حذره أكثر وارتداء الكمامة وغسل يده وتطهيرها أثناء وجوده بالمستشفى.
أما محمد، الذي يعمل سائقًا، فقد ألزم نفسه منذ جاء وابنه إلى المعهد قبل 35 يوما بألا يذهب إلى بيته، ولا يسمح لزوجته وأبناءه الأخرين بالمجئ، حتى لا ينقل أي شخص العدوى لهم.
يهبط مدحت درج المبنى الذي به غرفة والده، ذلك المبنى الذي شهد انفجارا في أغسطس الماضي، نتج عنه مقتل 20 شخصا وإصابة آخرين. لكن الآن لم يلحظ أي آثار لهذا الانفجار بعد أن عمل على إصلاحها عمال إحدى شركات المقاولات، التي سحبتهم الآن خوفا من العدوى، بحسب أحد عمال المعهد.
وعلى عكس الفراغ الموجود بهذا المبنى والذي لم يعهده مدحت بذلك المعهد المزدحم دائمًا، كان المبنى الآخر المجاور ممتلئا بالممرضين والعاملين الراغبين في إجراء تحليل كورونا.
كان ينظم ازدحامهم أفراد الأمن، ومنهم حسين سعيد (اسم مستعار) (28 سنة)، والذي يؤدي عمله وهو يظهر عليه أعراض سخونة وسعال – حسب قوله: "الإدارة قالت لازم نيجي. أنا 10 سنين في المعهد مبقولش للشغل لأ بس كل خوفي دلوقت لأعدي حد من المرضى خاصة إن واحدة من الممرضين المصابين كانت هي بتديني الكمامة وكلنا اختلطنا ببعض. كان المفروض محدش فينا يروح قبل ما كله يحلل والنتيجة تطلع، لكن إحنا بنطلع ونركب مواصلات ونروح لأهلنا!".
وقف مصطفى فراج، الممرض بالمعهد منذ 3 سنوات، بالطوابير التي ينظمها حسين، وأجرى التحليل ثم غادر ولزم بيته لحين ظهور النتيجة. لكن حسين لم يلحق وأبلغوه بأنه ضمن الجزء الذي سيجرى له باليوم التالي.
وقد أوضح محمود علم الدين، متحدث جامعة القاهرة التي يتبعها المعهد، أن الجزء الأول بلغ 413 مسحة من إجمالي العاملين - حتى مساء السبت.
وحتى ذلك المساء أيضًا لم يرَ مدحت طبيبا واحدا إلا عند السابعة، لكنه يقول إن فريق التمريض ظل موجودًا، وحصلوا على عينة دم من والده. وفي الدور الممتلئ بحالات أخرى للأطفال، يقول محمد إن طبيبين فقط هما المتواجدين بشكل مستمر منذ بداية الأزمة ويمران على ابنه، أما مواعيد التمريض فاختلفت؛ وهو ما أثر على توقيت الجرعات التي تصل إليه.
عند زيارة مدحت لوالده في اليوم التالي (أمس)، وجد أن الأمور ربما بدأت تهدأ، حيث قلت الأعداد بعد أن خرج من تسمح حالتهم، ومنهم الاثنان اللذان يقيمان مع والده بالغرفة. ولم يصبح في دورهما إلا حالة أخرى في غرفة مجاورة.
في نفس اليوم، جاء دور حسين سعيد لإجراء التحليل، بينما ظهرت نتيجة تحليل مصطفى فراج والتي أبلغوه بها تليفونيا: "نتائجك سلبية"، لكن مصطفى لم يفرح بها بل شك في الأمر: "قالولي 7 بس الإيجابي والباقي سلبي قلتلهم بناءً على إيه؟! كلنا خالطنا الناس المصابين، مبقتش واثق في حاجة!"، ثم قرر ألا يذهب لعمله ولا لزيارة أهله إلا بعد أن يتأكد تماما.
و"للوقوف على أسباب التقصير إنْ وجدت" قررت جامعة القاهرة فتح تحقيق وتعيين فريقين جديدين لمكافحة العدوى والجودة بهذا المعهد الذي أنشئ عام 1969. وقال المتحدث الرسمي للجامعة "إنها خاطبت وزارة الصحة للحصول على 1000 كاشف طبي للفيروس على نفقتها لإجراء المسحات لكافة الأطقم الطبية والمرضى المترددين على المعهد خلال آخر أسبوعين".
ورغم إعلان المتحدث باسم الجامعة "أن جميع تحاليل المرضى سلبية" إلا أنه لم يتم إجراء التحاليل للمرافقين؛ فكلا من مدحت ومحمد يقولا إنه لم يخضعا لأي فحص.
والد مدحت البالغ من العمر 70 عاما، ومحمود محمد هما ضمن 60 مريضًا محتجزين داخل المعهد لتلقي العلاج، يصعب لحالتهم الخروج حاليا، لذلك تم رفض طلب مدحت باستكمال علاج والده بالبيت ونصحه أحد الأطباء بالبقاء لأيام، ما يعني وقتا إضافيا يخشى فيه الابن أن ينتقل الفيروس إلى غرفتهم بالمعهد في أي لحظة.
كما أن محمود، ورغم سنه الصغير إلا أنه يتابع التليفزيون في غرفته، يدرك ما حوله جيدا، ويريد أن يغادر المستشفى ويعود إلى البيت، فيقول لوالده: "أنا جي أتعالج من مرض أطلع بمرض تاني!"، لكن على العكس لم يفكر محمد ناجح في طلب خروج ابنه: "ابني بياخد علاج كيماوي لو خرجته مش هعرف أعالجه بره. ولو حد فينا طلع مصاب بعد ما مشينا هعمل إيه؟!".
فيديو قد يعجبك: