ناي البرغوثي.. آلة موسيقية تُعلي راية فلسطين في وجه الاحتلال (حوار)
حوار-أحمد الليثي ودعاءالفولي:
داخل بيت يقطر فنا، وشوارع تضج من عساكر الاحتلال ترعرت "ناي"، طفلة صغيرة تهيم عشقا بالموسيقى، فيما تكتب لها الأيام أن تكون ممثلا لوطنها "فلسطين"؛ بصوت مبهر وعزف استثنائي، صار لـ"ناي البرغوثي" مريدون؛ جمهور شُغِف بفنها وتفردها.. في حوارها مع مصراوي تحكي عن دراستها داخل معهد إدوارد سعيد وانتقالها لأوروبا، لحظاتها الأولى على المسرح وهي ابنة الثالثة عشر عاما، وتألقها في عزف الفلوت، عشقها للتراث المصري، وعنف جنود الاحتلال معها، ترشحها لجائزة "أغاخان"، كيف مزجت بين الفلكلور العربي والجاز؟ ولماذا أثر فيها سيد درويش، حبها للشيخ محمد عمران وباخ، وحكايتها مع غنوة الشيخ إمام، حصولها على لقب الموهبة الشابة من هولندا بحصدها جائزة "الكونسيرتخباو"، وخططها المستقبلية لإعلاء راية فلسطين بالفن والإنسانية.
-نشأتِ في عائلة فنية وبدأتِ بالعزف.. كيف ساعدك ذلك على الغناء؟
من أهم الأشياء التي صارت معي والتي ساعدتني أن أسير للأمام بالموسيقى هم أهلي ودعمهم لي؛ بيتنا كان دائما مليئا بأنماط موسيقية عديدة. أُمي كانت أول أستاذة غناء لي وأول شخص عرّفني على الأغاني الطربية المصرية القديمة، من دور "كادني الهوى" لمحمد عثمان، لموشح "منيتي عز اصطباري" لسيد درويش وموشح "أذكر الحب" وغيرها، وقعت في حب مصر والموسيقى العربية الكلاسيكية.
-لأي مدى كان الغناء داخل فلسطين أمرًا صعبًا في ظل الاحتلال.. هل أثر ذلك على انتشار موهبتك؟
الاحتلال هو أسوأ وأفضل شيء صار معي.. هو قيد للحياة وللحرية وللطفولة بس هو أيضا أكبر درس للمقاومة والاستمرار والإرادة والإصرار. وأنا طفلة صغيرة تعلمت أن أكون قوية، أقاوم، لا أخضع للظلم ولا أقبل به. تعلمت من الموسيقى أنها قوة وليس مجرد نوع فني، هي أداة للمقاومة ولتمثيل فلسطين عالمياً؛ بصورة جديدة تكسر الصورة النمطية عن فلسطين وشعبها وتحديدا الفلسطينيات. الموسيقى تعكس الجانب الجميل والفني والموهوب والمثقف لفلسطين.
-مثلتِ فلسطين في عدة مناسبات إحداها داخل أروقة الأمم المتحدة.. احكِ لنا عن أهم المناسبات وأقربها لقلبك؟
أهم المناسبات كانت عرض بالأمم المتحدة في اليوم التضامني العالمي مع الشعب الفلسطيني. كان مهم جدا لي أن أمثّل فلسطين عن طريق الموسيقى.. يهمني تقديم عروض وجولات في أوروبا وأن يصبح اسم فلسطين وبالتحديد "فلسطينية" متداول بالإعلام الغربي ومرتبط بالجانب الفني وليس فقط بالجانب السياسي.
في شهر نوفمبر الماضي قدمت عرضا موسيقياً احتفالا بعيد ميلاد العظيمة فيروز، في قاعة الكونسيرتخباو، امستردام. كانت هذه القاعة حلما كبيرا لي بالغناء فيها؛ بسبب أهميتها العالمية وشهرتها وجمال معمارها الداخلي.
-لماذا تهتمين بغناء التراث والفلكلور عمومًا؟ وما أكثر الأغنيات التراثية التي تفتنك؟
التراث هو جذورنا وأصلنا "ومهما بعّدنا ودرسنا وسافرنا يضل إله المكانة الأعظم بقلوبنا بسبب معانيه العميقة وتواصله الكبير مع مجتمعاتنا وتربيتنا". من الأغاني التراثية الفلسطينية الأقرب إلي هي: "يما مويل الهوى" و"طلّت البارودة".
-غنيتِ وعمرك 13 عاما في أول حفل منفرد لكِ.. كيف كان شعورك وقتها؟ وهل تخطيتِ رهبة المسرح سريعا؟
كنت مرتعبة! جسدي يرتجف وصوتي اختفى من الخوف وشعرت أني غير قادرة على صعود مسرح أمام حوالي 800 شخص. "بالآخر جاءت القوة وطلعت على المسرح وغنيت وكانت من أجمل لحظات حياتي.. لغاية اليوم أشعر بالتوتر قبل كل عرض بس تعلمت كيف أتعامل واكتشفت إنه التوتر هو سر التجلّي".
-حدثينا عن بداياتك داخل معهد إدوارد سعيد.. وكيف أثرت الدراسة هناك في تكوينك الفني؟
بدأت في معهد ادوارد سعيد الوطني للموسيقى في عمر 7 سنوات وكانت تجربة مثمرة جدا. بدأت بدراسة آلة الفلوت مع الأستاذة هذر برشة وتعلمت منها الكثير. المعهد أتاح لنا كطلاب عدة فرص للسفر واللقاء مع أساتذة موسيقى مهمين من حول العالم وتقديم عروض مختلفة بعدة مناطق في فلسطين وفي الخارج.
-أكملت دراساتك في أمريكا وهولندا.. هل لديكِ مشروع أكاديمي مواز؟
انا حاليا ملتحقة ببرنامج ماجستير في موسيقى الجاز يشمل الدراسة في جامعتي (جامعة أمستردام للفنون) بالإضافة الى معهد برلين للجاز ومعهد كوبنهاجن للموسيقى.
-تهتمين بمزج موسيقى الجاز والموسيقى الشرق أوسطية.. حدثينا عن ذلك ولماذا تقومين به؟
أركز على التلحين والتوزيع الموسيقي، على الإيقاع الكارناتك (جنوب الهند) وعلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية والعربية وأسمع عدة أنماط مختلفة وهذا كله يساعد على تطوير هويتي الموسيقية الخاصة بي والتي تؤهلني لفرض حضوري كامرأة موسيقية في أوساط التلحين والفرق الموسيقية ذات الطابع الذكوري.
-تقيمين حاليًا في أوروبا وحفلاتك هناك.. ماذا تفتقدين في فلسطين ومتى تعودين إليها؟
"يمكن الجواب غريب شوي ولكن اشتاق للأكل! أكل أمي. اشتاق للقهوة.. اشتاق لريحة فلسطين، لأرضي، لطفولتي، لأهلي، لأصدقائي لجذوري.. اشتاق لكل شيء". لم أغادرها يومًا، هي دائمًا في قلبي وعروقي ودمي وروحي وسأعود إليها قريبًا.
-بالعودة لفلسطين.. كيف كانت حياتك كطفلة وسط أجواء الاحتلال؟
عادة يكون الهم الأكبر لدى طالب الموسيقى أن يتحضر جيدا للحصة. لكن كفلسطينية يجب أن أفكر بالذهاب إلى الحصة قبلها بساعات لأن الجندي الإسرائيلي قد يمنعني من العبور أو قد يحصل إطلاق للغاز أو اشتباكات عنيفة.
كنت أتنقل أسبوعيا من رام إلى القدس وأمر عبر حاجز قلنديا، وفي إحدى المرات –كان سني نحو 12 عاما- منعتني جندية من العبور لدخول القدس بحجة عدم حيازتي الأوراق اللازمة. كانت المجندة عنيفة، غاضبة، وكأن همها الأكبر في الحياة هو منع طفلة فلسطينية من الوصول الى حصة موسيقى! هذه اللحظة أثبتت لي قوة الموسيقى وتأثيرها القوي جدا حتى على مجندة مسلحة أمام طفلة.
-ما حكاية أوركسترا الشباب الفلسطيني الذي تم تأسيه عام 2004... كيف كانت مشاركتك فيه؟ وماذا قدم للفنانين في فلسطين؟
أُسس معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى أوركسترا فلسطين للشباب في عام 2004 بهدف جمع الموسيقيين الفلسطينيين الشباب من أنحاء العالم. وقد قدمت في السنوات العشر الأخيرة عروضاً في فلسطين وألمانيا وفرنسا والأردن وسوريا والبحرين ولبنان واليونان وإيطاليا وعدة جولات في شمال أوروبا. تضم الأوركسترا حوالي ثمانين موسيقياً من أصول فلسطينية مقيمين في مختلف بلاد العالم. أتاحت هذه الأوركسترا العديد من الفرص للموسيقيين الفلسطينيين في الداخل وفي الشتات للتعارف على حضارات مختلفة وللتعبير عن أنفسهم بطرق شتى بالرغم من الاحتلال. وبدأت مشاركتي بالأوركسترا كعازفة فلوت ومن ثم كمغنية بمرافقة الأوركسترا (ضيفة شرف).
-كونك تمثلين فلسطين في الخارج أمرًا جميلًا، لكنه مرهق في الوقت نفسه.. ما أكثر الأسئلة التي توجه لكِ عن الوطن وكيف تردين عليها؟
بالفعل هو أمرا جميلا ولكن يتطلب الجرأة والإرادة. للأسف، الصورة النمطية عن فلسطين هي صورة خاطئة ومنحازة. يصلني أسئلة صعبة عن فلسطين، إن كانت أسئلة عن الوضع السياسي، عن الجانب الثقافي، عن عاداتنا وتقاليدنا، وكذلك أسئلة تتعلق بآراء سياسية مبنية على العنصرية والجهل. بالحالتين، تعلمت ان أبقى هادئة وألا انفعل وأن "أعد للعشرة" قبل إعطاء جواب. تعلمت أن يكون جوابي مبنيا على المنطق والجانب الإنساني الذي يمكن أن تتفهمه المجتمعات الغربية وتتواصل معه أكثر. أتكلم عن الحب في زمن الاحتلال، أتكلم عن الموسيقى، أتكلم عن الأحلام والمواهب العديدة الموجودة في فلسطين. باختصار أتكلم عن الإنسانية.
-ماذا عن إنتاجك الشخصي.. لماذا هو نادر إذا ما قورن بالغناء الطربي القديم؟
بدأت مسيرتي الموسيقية بالغناء العربي الطربي، ولكن أضفت أيضا التلحين وتطوير نمط جديد بالغناء يسمى بـ "”NaiStrumenting أي استخدام الصوت كآلة. هذا النمط ينضج ويكبر معي ويشكّل هويتي الموسيقية الخاصة بي والتي أنشرها على صفحات التواصل الاجتماعي وأيضا بالعروض الحية. كان تركيزي الأكبر على الدراسة وتطوير المعرفة الموسيقية من أجل تقديم شيء حقيقي. وأركز الآن أيضا على الإنتاج الشخصي.
-عُمرك 23 عاما لكن رحلتك الفنية مرت بالكثير.. ما الذي يجعلك تستمرين في تقديم فنك رغم المصاعب؟
عند الحديث مع الجمهور بعد عرض معين والاستماع لملاحظاتهم وتعليقاتهم، أشعر بنشوة المسرح أكثر وأكثر. عندما يقول شخص لي: "هذا العرض غيّر حياتي"، تبقى الجملة راسخة في عقلي وتظهر في كل لحظة ضعف لتشدني مرة أخرى.. الأهداف الصغيرة هي التي توصل الشخص الى الهدف الأكبر ويجب علينا تذكير أنفسنا بذلك دائماً.
-قمت بإعادة تلحين بعض الأغاني القديمة كأغنية "هما مين".. حدثينا عن تلك التجربة؟
اخترت "هم مين وإحنا مين" بسبب أهمية كلماتها (شعر أحمد فؤاد نجم) وتواصلها مع واقعنا الحالي. كتجربة، لحّنت لحنا جديدا على الكلمات، على الرغم من الأثر الكبير للحن الشيخ إمام وعبقرية ارتباط الكلمات بلحنه الذي رددته الآلاف.
-بعض المقاطع التي تسجلينها على السوشيال ميديا تلقى رواجًا كبيرًا.. كيف تتعاملين مع وسائل التواصل وإلى أي مدى تؤثر في عملك؟
أحب التواصل مع المتابعين والتعرف على الموسيقيين العديدين الذين يتابعونني. يدفعني ذلك لإنتاج المزيد، تحديدا النمط الجديد "نايسترومينتينغ" أي استخدام الصوت كآلة والذي يحظى بالكثير من الاهتمام.
- ترشحتِ لجائزة أغاخان وكذا الموهبة الشابة من هولندا.. حدثينا عن تلك الجوائز وماذا تمثل لك؟
وصولي لنهائيات "أغاخان" بعد ترشحي للجائزة، كان إنجاز كبيرا؛ لأني كنت الأصغر عمراً بين كل المترشحين. وحينما حصلت على جائزة "الكونسيرتخباو" كانت صدمة كبيرة لي وشعرت بالكثير من الحب والتقدير بسبب أهمية هذه الجائزة.
- تمارسين أكثر من دور موسيقي فأي الألقاب تحبينها.. ومن هو مطربك المفضل؟
المغنية والملحنة وعازفة الفلوت.. واستمع للعديد من المغنيين والموسيقيين والشيوخ والعازفين والملحنين:
فيروز، زياد رحباني، عبد الوهاب، زكريا احمد، الشيخ محمد عمران، الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، سيد درويش، منيرة المهدية، ماري جبران، سعاد محمد، أسمهان، أم كلثوم، والعديد من عازفي ومغنيي الجاز وملحني الموسيقى الكلاسيكية: باخ، بيتهوفن، بوبي ماكفيرن، سارا فون، مايلز ديفيس، جون كولترين، دارمون ميدر، وغيرهم.
فيديو قد يعجبك: