المصريون وجهًا لوجه مع "كورونا".. "التعايش" واقع مُرّ المذاق
كتب- محمد زكريا:
رسوم الغلاف- سحر عيسى:
منذ تفشي أزمة "كورونا" في مصر، اتخذ محمد السيد قراره، التزم حرفيًا بالحجر المنزلي، لا شيء يفوق سلامته وأسرته مقامًا، هكذا حدث نفسه في البداية، فيما اعتبرها فرصة للاستراحة من "سحلة" الشارع، لكن أسابيع مرت ثقيلة داخل عُزلة اختيارية، زادت من خوف الشاب، وليس العكس كما تمنى وانتظر، بات يرتاب من الشارع وملامسة الناس، حتى انتهى به الأمر لزيارة طبيب نفسي، الشاب ليس أمامه الآن إلا التعايش مع الفيروس المستجد.
رغم تأكيد منظمة الصحة العالمية، على أنه ما زال بالإمكان السيطرة على "كورونا"، تحذر من مغبة التكهن بوقت اختفاء الفيروس المستجد، فـ"قد يصبح متوطنًا في مجتمعاتنا، وقد لا يختفي قط"، مما "يُجبرنا على التعايش معه بشكل طبيعي".
تلك التحذيرات، تزامنت مع تخفيف بعض الدول لإجراءات الإغلاق العام، والبحث عن سُبل إعادة دوران عجلة الاقتصاد.
مصر ضمن الرَكب، أعدت خطة من 6 محاور رئيسية، لـ"التعايش مع فيروس كورونا المستجد" و"الإعادة التدريجية للحياة الطبيعية"، يبدأ تطبيقها مطلع يونيو المقبل.
مطلع الشهر الحالي، غادرت نور علي حبسة المنزل، زارت أختها، التقت بأصدقاء لها، كانت تشتاق للتمشية ليلًا في الشارع، وفعلت، بعد أن تسرب إليها الملل على مدار أسابيع في الحجر المنزلي، لا تعتقد نور أن يعود ليومها ما كان عليه قبل الأزمة، في نظرها انقبض شيء من البراح، لكن هناك ما يكفي للتعويل عليه والعيش تحت مظلته: "التأقلم سنة الحياة.. هقلل الاختلاط على قدر الإمكان، وهَحرّص أكتر في التواصل مع الناس، وطبعًا الكمامة والكحول مينفعش تمشي من غيرهم النهاردة".
ثمة مشكلة كبيرة، تعاني منها نور، ترتبط مباشرة بالفيروس المستجد، بالأحرى سببتها توابع تفشيه، جَمّد كورونا "أكل عيش" والدها، بالتزامن، ولسوء الحظ، مع تسريح الشابة من عملها، قبل حوالي 10 أيام، فالأب الذي يمتلك مقهى بمنطقة أرض اللواء بمحافظة الجيزة، مُلزم بأقساط وجمعيات، يعاني الآن في سدادها، فيما تعمقت الأزمة باستبعاد المقاهي من خطة التعايش مع "كورونا"، حالة نفسية سيئة يمر بها الوالد، فالعودة لحياته ما قبل الأزمة، حلم يبحث عنه ولا يطوله.
أُجبر علي محمد للجلوس في المنزل، بعد أن توقف عمله نهائيًا قبل أكثر من شهرين، الرجل يمتلك شركة سياحة بـ"وسط البلد" في القاهرة: "وخلاص لا بقى في سياحة داخلية ولا خارجية".
شهور الصيف هي ذروة عمل محمد: "فلوس الموسم دي الواحد بيعيش عليها طول السنة"، لكن ذلك لم يعد واردًا الآن: "حتى الحج والعمرة وقفوا"، التهم فيروس كورونا المستجد الذروة، ولا يزال، أغلق الرجل شركته بالضبة والمفتاح، لكن في رقبته 19 موظفًا: "بياخدوا مرتباتهم الشهرية، وهما قاعدين في البيت، ما هما عندهم عيال وملهمش ذنب زيهم زيي"، لكنه لا يضمن أن يستمر ذلك طويلًا: "على آخر السنة لو الأزمة متحلتش، هضطر أسرح الموظفين وأصفي.. وشكلها كده مش باين لها ملامح".
منذ تفشي الأزمة في مصر، لم ينقطع أحمد عبدالسلام عن عمله، لكن اتفاقًا فرضه المدير على الموظفين، الحضور إلى الشركة 3 أيام بدلاً من 5، على أن يتم خصم 20% من الراتب، والذي يقل أساسًا عن 5 آلاف جنيه، صفعة على وجه الشاب المقبل على الزواج.
يتوق عبدالسلام لقدرٍ من تعافٍ اقتصادي، يسمح له باللحاق بعمل جديد، بعد أن ضاق به العيش في شركة الدهانات: "كنت مَقدم السي في بتاعي في أكتر من شركة، في شركة كلمتني وظبطنا ميعاد للإنترفيو، قبل ما يأجلوا معايا بسبب موضوع كورونا، ويبلغوني بعدها إنهم موقفين كل حاجة لحد ما الأزمة تنتهي".
فمرض "كوفيد-19"، الذي أصاب ما يقارب 5 ملايين شخص وأودى بحياة أكثر من 300 ألف شخص على وجه الأرض، سبب تباطؤًا اقتصاديًا عالميًا.
تضررت أهم مصادر الدخل القومي المصري، إضافة لخروج نحو 15 مليار دولار من استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية، ليتراجع احتياطي النقد الأجنبي بنحو 8.5 مليار دولار خلال شهري مارس وأبريل الماضيين، ويصل إلى 37 مليار دولار، بحسب تقديرات وكالة موديز للتصنيف الائتماني، حيث وجه الاحتياطي النقدي لمواجهة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة.
فيما يتوقع البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، أن يصل معدل نمو الاقتصاد المصري في عام 2020 إلى 0.5%، مقارنة بـ5.6% في 2019.
فلا تعتقد علياء المهدي، عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية السابق بجامعة القاهرة، أن يكون لـ"خطة التعايش مع كورونا" آثر ملموس على تعافي نمو الاقتصاد المصري، مفسرة ذلك: "الأزمة الاقتصادية عالمية، وكونك تخفف إجراءات الإغلاق داخليًا، مش معناه إنك في المقابل تلاقي سياحة واستثمار وتحويلات من الخارج، العالم كله عنده مأساة ويعيش حالة إغلاق في مواجهة كورونا".
للمنطق هذا، تنبه المهدي، في حديثها لـ"مصراوي"، على ضرورة الحظر الشديد عند اتخاذ إجراءات من شأنها تخفيف "الإغلاق" لصالح "الاقتصاد"، رغم تقديرها لمسعى تنشيط اقتصاد قطاعات داخلية متضررة، فمن إجمالي العمالة في مصر هناك 63% غير رسميين، منهم 21% غير منتظمين (لا يملكون عملاً ودخلاً ثابتًا)، وفقًا لمنظمة العمل الدولية في 2019.
لا يغيب عن الشقيقين، أحمد ومحمود، ما يمثله "كورونا" من خطر جسيم على الحياة، على العكس من ذلك تمامًا، يتابعان تزايد أعداد الإصابات والوفيات جراءه لحظة بلحظة، يحسبان لها ألف حساب، لكن ذلك لم يمنعهما من ممارسة عملهما يوميًا من الشارع.
مع بداية تفشي الأزمة في مصر، قرر محمود إغلاق محله مؤقتًا، التزم بالحجر في المنزل لشهر كامل، قبل أن يعاود عمله في إصلاح الموبايل: "أصل الموضوع شكله مطول.. مش معقول هفضل قاعد في البيت، منين هدفع إيجار المحل وأنا قافله؟"، لكن ذلك لم يمنعه من الموازنة بين فتح باب الرزق واجتناب المرض: "اليوم في رمضان مساعد برده، بفتح 4 أو 5 ساعات قبل الفطار، وحاطط مكتب على باب المحل بيني وبين الزبون بحيث أقلل الاختلاط شوية، أخلص الشغل اللي معايا وأروح".
أحمد وضعه مختلف، الشاب يعمل مندوبًا لشركة دواء، شغله يستلزم اللف على المستشفيات والصيدليات يوميًا، مواقف عدة وُضع فيها الشاب أمام "كورونا" وجهًا لوجه: "مرة كنت رايح أقابل دكتور في مستشفى الزيتون، وأنا داخل لقيت بتاع الأمن بيقولي انفد بجلدك.. في جوه كورونا"، عاد صاحب الـ25 عامًا إلى منزله بعد أقل من ساعة على خروجه، ليقرأ في الصحافة خبر إصابة أكثر من 20 طبيبًا وممرضًا بالفيروس.
منذ بداية الأزمة، لم يُوقف أحمد عمله بالمستشفيات، فالشاب لم يحصل على إجازة ولو لأسبوع واحد، لكن يحاول تقليص زياراته لمواقع الخطر: "بتأكد الأول قبل ما أروح أي مستشفى إنه مفيهوش كورونا"، ليرش أدواته وشنطته وملابسه بالكحول بمجرد الدخول إلى المنزل، ويعود في اليوم التالي لمشفى آخر: "لابس الكمامة والجوانتي قبل ما أدخل أقابل الدكتور"، يَعلم أن عمله يحمل خطورة، لكن أيضًا يؤمن أن: "الله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين".
"تحقيق التوازن بين دوران عجلة الحياة الطبيعية وبين استمرار الإجراءات الاحترازية".. كان واحدًا ضمن أهداف خطة الحكومة للتعايش مع "كورونا"، لكن عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية السابق بجامعة القاهرة تُعبر عن تخوفها من الأمر: "محدش بيفتح وأعداد الإصابات بتزيد كل يوم".
فيما تعتقد المهدي أنه لا يزال على الحكومة الكثير لاتخاذه في مضمار الإجراءات الاحترازية، مقترحة ضرورة تكثيف حملات التوعية بخطورة المرض وكيفية الوقاية منه بكل وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، كما تقترح تقديم الكمامات للمواطنين في الشوارع مجانًا، ضاربة المثل بحملات مشابهة انطلقت في المجر، وحققت نتائج إيجابية ساهمت في انحسار المرض.
منذ حوالي شهر ونصف الشهر يعمل محمد طارق من المنزل. يريحه هذا أكثر ويطمئن فؤاده. فالشاب الذي يعيش بمحافظة الشرقية، يرى في العودة من جديد إلى مقر عمله بالمهندسين، لـ5 أيام أسبوعيًا، في ظل تزايد أعداد المصابين بـ"كورونا"، ما يُهدد حياته وأسرته.
مسار طارق، من محل سكنه بمدينة منيا القمح، إلى مقر العمل بشارع جامعة الدول العربية، يتطلب 3 مواصلات ذهابًا ومثلها في العودة: "بتزنق مع 14 واحد في عربية من الشرقية للقاهرة، وبعدين أركب مترو وأتعجن في وسط بشر لا أنت عارف هما مين ولا جايين منين، قبل ما اتنطط ورا العربية اللي هتوديني الشغل.. واحد زيي ميقدرش يتعايش مع كورونا". فرغم احتياطه صحيًا بارتداء الكمامة، وحمله الكحول لتطهير يديه دوريًا: "مفيش وقاية كاملة، شوف بخالط كام واحد كل يوم، وأتعامل في فلوس مع كام واحد".
يُثير استغراب طارق؛ إطلاق الحكومة لخطة تعايش مع "كورونا"، وسماعه بورود إلغاء حظر التجوال في الأسابيع المقبلة، والذي قد يدفعه مرغمًا إلى العودة للعمل من المهندسين، بل يُثير أحيانًا غضبه: "إذا كنت أنت مطبق الحظر بالليل ووصلنا لأكتر من 15 ألف مصاب، لما تفتح، العدد هيوصل لكام".
كلام الشاب لا تُكذبه أرقام وبيانات وزارة الصحة، حيث وصلت الإصابات بفيروس كورونا المستجد في يوم تطبيق حظر التجوال في الـ25 من مارس 2020 إلى 456 مصابًا؛ ليرتفع العدد بعد أقل من شهرين فقط إلى 15786 مصابًا حتى يوم 22 مايو 2020، فيما لا يتوقف عداد الإصابات عن اللف والدوران.
لا يريد الشاب أن يعاود العمل من المكتب، يعتقد أن تطبيق حظر شامل لربما يُنهي الأزمة في شهر واحد، وجهة النظر نفسها تحملها ناريمان عبدالستار، ابنة مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، والتي تأمل في استمرار عملها من المنزل حتى تخفّ حدة الأزمة، بدلًا من الارتماء في أحضان الاغتراب بالقاهرة بين فكي الوحدة و"كورونا".. تعرف على قصتها من المحتوى الصوتي التالي:
لكن بالنسبة لمنظمة الصحة العالمية، لا يوجد حل سحري، لا دليل على أن "الإغلاق سينجح تمامًا"، ولا دليل في المقابل على أن "فتح الاقتصاد سينجح تمامًا"، فـ"الأمران تحفهما المخاطر".
التأقلم مع الجائحة، هو ما رسا عليه أيمن محمد، بعد أسابيع من التزامه بـ"#خليك-في-البيت". فالشاب الذي يعمل مندوبًا لمبيعات إحدى شركات المحمول، سيكون عليه الانتظام بالعمل من الشارع في الأسابيع المقبلة. لذا يخطط مع زملائه لرحلة إلى مدينة شرم الشيخ، تُنفس عنه ضغط أيام عصيبة لم ينته منها.
بمجرد علم محمد بقرب عودة السياحة الداخلية، عرض فكرة السفر على أصدقائه، ورغم رفض بعضهم بدافع الخوف من الفيروس، "قلتلهم طالما هنتأكد من نضافة المكان، يبقى أمان.. أصل الدنيا خلاص مش هترجع زي زمان، هنعمل إيه؟ هنفضل محبوسين لحد امتى؟" هكذا أقنع محمد أصدقاءه.
"التعايش مع الفيروس لا يعني عودة الحياة لطبيعتها".. هكذا يرى خالد عبدالفتاح، أستاذ علم الاجتماع المساعد بكلية الآداب جامعة حلوان. في نظره يسير العالم نحو التعايش مع "كورونا" لتفادي التداعيات الاقتصادية للأزمة، وليست للانفتاح وعودة حياة الترفيه.
يَحسب أستاذ علم الاجتماع، أن الإغلاق الذي صاحب تفشي فيروس كورونا المستجد، أحدث تغييرًا في نفسية المصريين والمجتمع ككل، شارحًا: "في الثقافة المصرية مفيش تقدير لقيمة الوقت، وفي تداخل دائم بين مواعيد الترفيه والعمل، والناس مش متعودة على التقيد في الحياة"، وفي رأيه ساهم كورونا في ضبط شيء من هذا.
خطط مي مصلحي لهذا العام أُجهضت بفعل الفيروس المستجد. الشابة كانت على موعد مع زيارة لدول البلقان في أبريل الماضي، قبل أن تُعلَق حركة الطيران في مصر والعالم، وتضطر ابنة حي حدائق القبة لقضاء أسابيع حسبتها للسفر والفسحة في حجر منزلي.
في يناير 2020 قطعت مي جولة سياحية في آسيا، كانت قد بدأتها بالصين في نوفمبر 2019، لتضطر للعودة لمصر من سريلانكا بعد انتشار أخبار تفشي الفيروس في أكبر قارات الأرض وأكثرها سكانًا.
18 بلدًا زارتها صاحبة الـ27 عامًا، شغوفة هي بالسفر، النظر إلى حضارات مغايرة لتلك التي أرساها الفرعون والتعرف على ثقافات شعوب أخرى. لذا عاجزة الآن عن التأقلم مع تبعات الجائحة. لكنها تهون الأمر: "بتعلم التصوير، عشان لما أرجع أسافر أعمل فيديوهات أحكي عن كل سفرية.. شخصيًا معنديش شك إن السياحة هترجع قريب، ده بيزنس كبير واقف بقاله شهور، وفي بلاد قايمة على السياحة". منتظرة بشغف: "المطارات تفتح، عشان أسافر على أول بلد في جنوب شرق أسيا هتدي تأشيرة السياحة".
يعتقد أستاذ علم الاجتماع، في حديثه لـ"مصراوي"، أن للمرحلة الحالية، والتي يعترف بثقلها على النفس، إيجابيات، منها: "تشجيع العمل والتعليم عن بعد، زيادة سطوة التكنولوجيا، اكتشاف أفراد الأسرة لجوانب إيجابية في قربهم لبعض.. دي تغييرات محمودة في الأنماط الاجتماعية، بعضها لم ينشئها الفيروس، لكن أسرع من وتيرتها، وعمَقها لسلوك مستدام لدى النشء.. دراسات علم النفس بتقول إن التعايش لفترة ممكن يتحول لسلوك دائم".
في الوقت نفسه، حذرت منظمة الصحة العالمية من الآثار النفسية الناتجة عن ظهور هذه الجائحة، فالحجر وفقدان الأحبة والخوف من المستقبل كلها عوامل من شأنها أن تصيب البشر بـ"أمراض نفسية طويلة الأمد".
خلال تقديم خط استرشادي للأمم المتحدة بشأن "كورونا" والصحة العقلية، رجحت ديفورا كِستِل، مديرة إدارة الصحة العقلية بمنظمة الصحة العالمية، زيادة عدد الأمراض النفسية وشدتها، مُطالبة الحكومات بوضع هذا الأمر "في صدارة ومحور" خططها لمكافحة الجائحة.
لم يكن الذهاب للعلاج قرار يسير، اقتنع السيد بالأمر بعد ضغوط من أسرته وزملائه.
داخل العيادة النفسية، شرح الشاب للطبيب ما داهمه خلال الحجر المنزلي، لينصحه أخصائي الطب النفسي بمُغالبة مخاوفه على الدوام: "قالي مش لازم تحبس نفسك، انزل حتى اتمشى في الشارع لوحدك"، وكتب له دواءً.
تحسنت حالة الشاب، بعد أن فَك عُزلته الاختيارية، بمقابلات محدودة مع أقارب وأصدقاء، يراعي فيها ولو قدرًا من الإرشادات الصحية، فيما هو محاصر بين فكي كورونا والاكتئاب.
فيديو قد يعجبك: