هل أراك؟| (1).. "حصّادين" الأرض المقدسة (بروفايل)
كتبت- إشراق أحمد:
بعد حصار دام لثلاثة أعوام، أُخرج عبدالرحمن قاسم من أرضه. في يوم غائم حضر المحتل الإسرائيلي محميًا بالسلاح، مرتديًا حلة المجلس المحلي لمستعمرة أسموها "بيت إيل"، بنوها شمال مدينة رام الله، أخبروا المزارع الفلسطيني أنهم نشروا قرار المصادرة في خبر داخل جريدتهم "يديعوت أحرونوت" ولم يجدوا اعتراضًا، إذًا الأفدنة لهم. نظر المستعمر بمكر لقاسم، لسان حاله "القوة والسلطة والمال معي. فماذا تفعل؟". ابتلع الرجل الأربعيني حزنه، أغمض جفنيه على مشهد لنكبة لم تنته، حفظ مواضع غرسه بين كروم العنب، سنابل القمح، جدائل الشعير، وسلات خضروات عاشت منها أسرته وبيوت أخرى. جدد الفلسطيني العهد بأن يعود ولو بعد حين، وطّد فؤاده بالصمود أمام محاكم الاحتلال. طويلاً؟ 31 عامًا، بعدها استرد الجد عبدالرحمن أرضه.
قصة الفلاح الفلسطيني عبدالرحمن قاسم، ليست "حدوتة" يمرر بها الوقت ليمضي الصغار إلى النوم، ولا وقعت في زمن بعيد، ويتحاكى بها أهل فلسطين تصبرًا، إنما هي تفاصيل كُتبت نهايتها قبل خمسة أعوام فقط، جاءت مؤكدة لميراث تاريخي ينفي ما تداول بهتانًا بأن "الفلسطينيين باعوا أرضهم"، فعلى مدار عقود كان المزارعون عماد الأرض المحتلة، وغرسها الغض، يأبون بما استطاعوا من قوة أن تُقتلع جذورهم من رُباهم.
عام 2015. تحول الثلاثون من يوليو ليوم عيد، وزع الفلسطينيون المجاورون لمستوطنة بيت إيل، الحلوى ابتهاجًا بالحدث الفريد، لُمس حلم التحرير في سويعات، بدا الظلم يتراجع أخيرًا؛ تهدم جرافات الاحتلال أملاك إسرائيلية بنيت على أرض فلسطينية، فيما يقف الجد عبدالرحمن بعقال أهل كنعان المميز ووجه يلازمه البِشر. اليوم يعود الغائب مزهوًا بعد 4 دعاوى رفعها منذ مصادرة الأرض رسميًا عام 1984، لم تفلح منها إلا تلك التي قام بها عام 2009.
"الحصّادين" لقب المزارعين عند أهل الشام، حتى أن الظاهرة الفلكية لتجلي القمر مكتملاً في السماء كل عام، ارتبطت بهم وصارت تعرف بـ"قمر الحصّادين". هم لا يتخلون عن أرضهم، كذلك ورث الجد عبدالرحمن عن سلف الفلاحين، من كانوا يشكلون نحو 59% من أهل فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي، قبل نكبة 1948. عرف ابن قرية دورا القرع –شمال رام الله- أن من تلاحمت عروق يديه بشقوق التربة، وتماهت حبات عرقه مع قطرات الندى على ثمارها، أبدًا ما كان له أن يتنازل، فالأرض له محل الوريد من القلب، خليلته المقدسة في الحياة.
14 دونم (الدونم ألف متر) استردها الجد عبدالرحمن قبل أعوام، هى جزء مما سُلب من أصحاب الأرض منذ سبعينيات القرن 19، حين بدأ توطين اليهود في فلسطين، عملاً لمشروع حاييم وايزمان، رئيس الاتحاد الصهيوني في بريطانيا، وشريك رئيسي في كتابة وعد بلفور عام 1917.
كان "الحصادين" بمثابة "المستشعر" الأول باقتراب خطر الاحتلال، لمسوا ذلك مع بدء إقامة مستوطنة إسرائيلية قرب القدس عام 1870، سميت بـ"مِكفا" أو "الأمل" بالعبرية. عمل المزارعون على وأد "أمل إسرائيل" في مهده، لكن لم تكن نسبة كبيرة تملك سوى الاحتجاج والمواجهة، أما ملكية الأرض مساحة كبيرة منها ترجع لتجار وإقطاعيين ومُقرضين عرب، غير أن أصحاب الأرض لم يستسلموا؛ يُسجل التاريخ العديد من الشواهد.
أجبر المزارعون الفلسطينيون مستوطنًا إسرائيليًا يُدعى روبين ليرر، على المثول أمام القضاء عام 1883، وإعادة ربع المساحة التي اشتراها جورًا وقُدرت بـألفين دونم لمستوطنة "نيس تسيونا"، وفي 29 مارس 1886، تصاعدت المواجهة؛ هاجم نحو 60 فلاحًا فلسطينيًا مستعمرة "بيتح تكفا" قرب يافا، أتلفوا المحاصل، وساقوا ما بها من ماشية إلى المحكمة، مخبرين القاضي أن هناك حيوانات على أرضهم، وطالبوا بالتعويض.
ألجم دفاع "الحصّادين" المخطط الصهيوني باليد والعقل بعض الشيء، حتى أن المساحة التي استولى عليها الإسرائيليون مع عام 1926 قُدرت بنحو 4% (من إجمالي مساحة فلسطين 27 ألف كيلو متر مربع) ولم تزد 5% إلا بعد 8 أعوام. استمات فلاحو فلسطين في الحفاظ على الأرض وكانوا عماد ثورة اندلعت في فلسطين بين عامين 1936 و1939، حينها كان الجد عبدالرحمن لم يتجاوز عمر عامين، إلا أنه تشرب العهد.
على طريقة الأجداد تعامل المزارع الفلسطيني بعدما خابت محاولة اللجوء إلى القضاء العربي. ذهب الجد عبدالرحمن لاسترداد أرضه من محاكم المحتل، وقُبلت الدعوى بالجلسة الأولى في يناير 2010، فيما حرص أن يدعم خطاه رئيس المجلس المحلي لقريته الفلسطينية إلى جانب محامٍ مقدسي "حتى لا يقال أنني ذاهب لأبيع أرضي".
بعد ثلاثة أعوام، أُجري الحق على لسان القاضي الإسرائيلي، حكم ببطلان المصادرة وهدم البناء المقام على أرض الفلاح الفلسطيني عبدالرحمن قاسم، وإن لم ينفذ القرار إلا بعد 5 أعوام، لكنه خرج بصرخة من ممثل لحكومة نتنياهو "إن قرار من محكمة يقضي بالهدم لليهودي بادرة سيئة"، وصمت المحتلون كمدًا.
غادر المزارع الفلسطيني أرضه شابًا، انقضت السنوات، فقد العديد من الأحبة، استشهد ابن له في أعقاب الانتفاضة الأولى عام 1991، ورحل عنه آخر شهيدًا عام 2015، وما فقد عزيمته يومًا، حتى احتضن لحظة الفرح وهو كهلاً صاحب 77 عامًا. رافقه أحفاده إلى مستقر عزتهم، أعاد غرس التربة بيديه، وروتها دموع صبره لأعوام، لم يقبل فيها الضيم ولا ثروات المستعمرين، فحينما عرض عليه المستوطن الإسرائيلي 28 مليون دولار، وإن شاء فرشها له دولارات، رفض سليل آل قاسم وأخبره "ولو فرشتها ذهبًا ما راح أبيع".
ما زالت أيدي الاحتلال تعيث فسادًا في أرض فلسطين، تقتلع الآلاف من أشجار الزيتون (73 ألف شجرة خلال 4 أعوام منذ 2011)، وتحاصر المزارعين، فيما لا تتوقف كفوف "الحصّادين" عن النبت.
في السادس والعشرين من ديسمبر عام 2019 غاب قمر الجد عبدالرحمن، رحل بعدما أدى الأمانة، لم يتخل عن العهد، كما لم يفعل مع الحطة والعقال الفلسطيني، ظل مزينًا لرأسه. غاب المزارع الفلسطيني عن الدنيا في عمر 81 ربعيًا، لكنه أبقى لأحفاده ميراثًا من البشاشة والصمود، وأرضًا وصيته فيها أن يقدسوها كما يقدسون الحرية، فلا يفلتوها أبدًا.
المصادر:
* بحث "الفلاحون وولادة الوطنية الفلسطينية" لدكتور فيصل دراج، نشر في العدد الرابع لمجلة أوراق فلسطينية، الصادرة عن مؤسسة ياسر عرفات الثقافية.
* المجموعة العربية لحماية الطبيعة
* كتاب "ثورة 36-39 في فلسطين" للكاتب غسان كنفاني
* مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وفا).
فيديو قد يعجبك: