مهجور (2).. المقاهي وأيام الملل الكبرى (بروفايل)
كتبت- شروق غنيم:
تنسدل أشعة الشمس داخل المكان فيخرج من سُبات دام لثلاثة أشهر؛ تُزاح الأتربة عن المقاعد الخشبية، تتنفس الأكواب من جديد، يدور العامل في المكان لتنظيفه وتهيئته للحدث الجديد، إذ تفتح أبواب المقهى من جديد السبت المُقبل، لكنها لن تتلقّف جميع المارة ولن تسع من "الحبايب" ألف كما اعتادت، إذ سيظل رُكنًا منها مهجورًا حتى وإن جرت خطة التعايش مع الوباء.
على امتداد عقود مضت، كانت المقاهي ملاذًا لحكايات شتى والتقاء "كوكتيل" من البشر لا مثيل له؛ فيما مضى ارتكن إليها أصحاب المواهب فأصبحت مكانًا لتفتّق مواهبهم، من السير الشعبية واللعب على الربابة وملاحم "الهلالية" إلى الزجل وإلقاء الشعر إلى لقاء الأدباء والنقاشات الثقافية، وصولًا للسياسيين، فيما ارتبطت بالتسلية أيضًا بتقديم ألعاب مثل الدومينو والطاولة.
شهدت المقاهي تطورًا كبيرًا؛ من مكان بسيط لا يوجد به سوى مقاعد خشبية دائرية وبعض الحصر من سعف النخيل، إلى كراسي متراصّة وديكور أكثر حداثة، غير أنها لم تفقد بوصلتها وصارت مكان يلجأ له من ينشد الونس؛ في أغنية لأم كلثوم تأتي من راديو عتيق، للقاء بصديق، مشروبات بأسعار "حنينة" على زبائنها، تسلية بألعابها الفريدة، أو تعلقًا بالتلفاز لمشاهدة المباريات.
واجه المقهى اتهامات عدة؛ يصرف المصريون حوالي 40% من دخلهم عليها بحسب آخر إحصائية، لكن لها أيضًا مريدين يدافعون عنها، يذكر الروائي الراحل جمال الغيطاني في كتابه "ملامح القاهرة في ألف سنة" عنها "يرى البعض أن المقاهي أماكن يتبدد فيها الوقت وتعطل الإنتاج، ولكنني إذ أركن إلى أحد مقاهي القاهرة القديمة، أحاول تلمس معالم هذا الزمن الرائق الحلو الذي نفتقده الآن في الضجيج والزحام، وإيقاع الحياة السريع اللاهث، إن المقهى نموذج مصغر لعالمنا يضج بكل ما تحتويه دنيانا".
ظلت المقاهي وسيلة للتقارب بين البشر، تذوب فيها خلفيات كل شخص، يصيحون سويًا فرحًا لهدف فريقهم المفضل أو تحسرًا للخسارة؛ وسيلة لاكتساب صديق جديد "ده صاحبي من على القهوة". لكن كل ذلك أخذ في التلاشي مع مارس المنصرف حينما انتشر فيروس كورونا، وصارت المقاهي منطقة خطر، لأن فيها يُصبح الناس أكثر التصاقًا وقُربًا.
طيلة ثلاثة أشهر انزوى صخب المقاهي الذي يُقدر عددها 2 مليون في مصر بحسب إحصائية الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عام 2018، ولأول مرة تخلو تمامًا من أي مظاهر حياة، في الداخل ثمة موات مُزعج لم يعتد عليه سُكان المقهى؛ الأكواب التي تدور على مئات الأفواه في اليوم الواحد، والمقاعد التي كانت تنتشر داخل المكان، لُملمت وكوّمت في رُكن واحد في سكون.
يحل السبت المُقبل فتعود ربع حياة إلى المقاهي؛ تفتح أبوابها لكن هذه المرة بحذر وبقدرة استيعابية 25%، وبينها والزبائن عدة حواجز، لا كراسي متقاربة ولا "شيشة" في الأرجاء، مع انتشار فيروس كورونا المستجد فقد المقهى هويته، كما فقد سكان العالم بوصلتهم وغرقوا في التيه.
تابع موضوعات الملف:
مهجور (1).. السينما تكره الظلام لأول مرة (بروفايل)
مهجور (3)- حيوانات الجنينة بدون ونيس (بروفايل)
مهجور (4).. فرح واتفض (بروفايل)
مهجور (5)..لما كان البحر أزرق (بروفايل)
مهجور (6).. مشاعر محجوبة (بروفايل)
فيديو قد يعجبك: