هل أراك؟| (4).. يوم أن حملت مُعلمة فلسطينية السلاح (بروفايل)
كتبت-إشراق أحمد:
مع فصل الربيع، تتفتح زهرة صبوح، تستدير كقرص الشمس، قلبها الذهبي يطل بين وريقات بيضاء دقيقة. في فلسطين قرابة ثلاث آلاف نوعٍ من الأزهار، من بينها زهرة الأقحوان، كانت تلك الزهرة المحببة لمَهيبة خورشيد، معلمة الصفوف الثانوية في يافا، شابة عشرينية تهوى الورود، تستمع إلى الموسيقى، وتُلقن طلابها معنى الهُوية والحياة في رُبا الوطن، لكن ذلك لم يعد كافيًا حين بدت رحى الحرب تدور في الأراضي الفلسطينية، ما ارتضت مَهيبة أن تذبل فلسطين أمام عينيها؛ حفظت وردتها المُفضلة في قلبها وبين يديها حملت السلاح، وراحت تزود عن الأرض رفقة تنظيم نسائي أخذ صفة عسكرية للمرة الأولى بين المجاهدين الفلسطينيين، أطل جوارهم مثل النبتة المحببة للمُعلمة، فكان لقبه "زهرة الأقحوان".
كل المكائد باتت واضحة عام 1947؛ سَلب الأرض، طرد أصحابها وقتلهم، الأمم المتحدة تقر باقتسام فلسطين مع الصهاينة، والانتداب البريطاني يرحل في غضون العام، مع مايو 1948. ظلت مَهيبة متمسكة بدورها كمعلمة، تحارب بطريقتها داخل الفصول، وخارجها تتعاون مع النساء لمساعدة المحاربين على جبهات القتال، بالتمريض وتزويدهم بالمؤن، وجمع التبرعات لشراء السلاح، فضلاً عن معاونة العائلات المنكوبة، قامت المُعلمة بما اعتادت الفلسطينيات أن يفعلن، وأسست جمعيتها "زهرة الأقحوان" لهذا الغرض الخيري، لكن الأيام تلقي بمزيد من الأعباء، خاصة مع تمركز الصهاينة في يافا، عازمين تحويلها إلى تل أبيب.
ذات يوم بينما تعود مَهيبة لمنزلها بعد العمل، رأت طفلاً، تلميذًا صغيرًا كان يُمسك بيد أمه قبل أن تغتاله رصاصة صهيونية، تسمرت المعلمة، جُمدت الدماء في عروقها، لكن سرعان ما انتفضت رافضة الركون للبكاء. البادئ أظلم ولا مفر من التصدي له.
أتقنت مهيبة الرمي بالرصاص كما تفعل مع آلة الكمّان، فاستبدلته بمدفع رشاش، وامتلأت أوراقها بالخطط العسكرية محل رسوم تهواها، تزودت بالعدة من الذخيرة، وشُدّ أزرها بشقيقتها ناريمان التي تصغرها بستة أعوام، فكانت بالعشرين من عمرها أنذاك حينما صارت بمثابلة صوت "زهرة الأقحوان"، تلقي خطابات تكتبها مَهيبة وتتحدث نيابة عن الجمعية.
عملت الشقيقتان على نشر الدعوة "بين آنسات الطبقة المستنيرة في يافا" كما تصف ناريمان، وبالفعل انضمت إليهما اثنتا عشرة فتاة، وأقسمن معًا على المسير في فبراير 1947 "أشهد بشرفي وديني وملتي على موالاة مبدأي وبذل الغالي والنفيس في سبيل الخير والمساعدة لكل محتاج وضعيف، أشهدت رب العالمين على ما ذكرت".
أخذت عضوات جمعية "زهرة الأقحوان" السرية يغيرن على عصابات الهاجناه الإسرائيلية بمواقعهم بالمستوطنات في يافا، شققن بقيادة مَهيبة طريق وعر، انضم إليهن محاربون رجال من داخل وخارج فلسطين، تحدثت مَهيبة عن "مجاهدين من سيناء وعدد من الألمان".
بتنورة صبية في السادسة والعشرين من عمرها ثم زي عسكري بالكامل، تقدمت مَهيبة التنظيم العسكري بروح لم تفقد صفة المُعلمة؛ ففي إحدى الليالي، نما إلى سمعها معلومة عن تجمع قيادة صهيونية في مستوطنة "بيت يام" القريبة من يافا، حينها أخبرت المقاتلين "اجمعوا أكثر من 30 عرق شجر"، في تلك الليلة غرسوا 100 عرقًا في الرمال بطريق المستوطنة، وبعد العشاء انطلقت الضربات من اتجاه "بيت يام" صوب المقاومين، تلقفتها جذوع الشجر حتى ظن الصهاينة أن "العرب كلهم ماتوا"، ومن ثم تقدموا نحو يافا، فإذا بمَهيبة ورفاقها ينزلون عليهم؛ قُتل كُل مَن تقدم.
مع كل وجود لـ"أقحوانة" فلسطين العسكرية كن يتركن بصمة، يقفن كتفًا بكتف مع الرجال؛ في إحدى محاولات الهاجاناه للهجوم على مركز الأيتام الإسلامي في يافا، تصدت المقاومة، كان بينهم عشرة فتيات من زهرة الأقحوان"، صمدن في المعركة لنحو ثلاث ساعات حتى تراجعت القوات الصهيوينة خائبة.
ظلت مَهيبة تقاتل مع رفيقاتها، حتى استعرت المعركة مع دخول عام 1948. "لقد وجدت جمعيتنا لزامًا عليها الانضمام لحرب الجهاد المقدسة، للمشاركة مع إخواتنا المناضلين بالدفاع عن أرضنا المقدسة من أجل إرجاع الأرض وكرامة نسائنا العربيات من العهود السابقة اللواتي تركن صفحات من العزة والكبرياء في الفتوحات العربية.... فهذا هو حقنا القانوني الواضح كوضوح الشمس.. لقد انضممنا إلى المحاربين في منطقة كرم الصوان وسكنة درويش بسبب قربهما من أماكن سكننا، وبذلك نستطيع العودة إلى بيوتنا عند انتهاء المعارك". شُوهدت الفلسطينيات لأول مرة في ساحات القتال، تُباري ممسكة السلاح كأعتى مقاتل، كان حدثًا حتى أن الصحف لم تفوته، كُتب حينها "المرأة العربية في ميدان الجهاد".
لم تقبل مَهيبة وشقيقتها ناريمان إلا أن يكونا في الصفوف الأولى للقتال، كانت يافا حصنًا عتيدًا في وجه الصهاينة، خاصة في منطقة الجبالية، رأى الصحفي الفلسطيني مسلم بسيسو -كان يغطي المعارك وقت النكبة- المُعلمة الفلسطينية تقود مقاتلين رجال بلباس عسكري، لكن المكيدة كانت أكبر؛ سقطت يافا في يد الإحتلال يوم الثامن والعشرين من إبريل عام 1948، وهُجرت الشقيقتان من بلدتهما مثل ما يربو من مليون فلسطيني لجأوا إلى دول الجوار بعد النكبة.
استقرت قائدة "زهرة الأقحوان" في مصر، قُطعت السبل بينهما والقتال مرة أخرى، فعادت لسلاحها القديم، التدريس. أخذت الأعوام تمضي، سنة تلو الأخرى، تقع النكسة، تقوم الانتفاضة الأولى في الثمانينيات، يزيد خندق المقاومة بفلسطينييات أخريات، لم يُسلِم الشعب الفلسطيني بما آل إليه، يَهب بين الحين والآخر، ومع عام الانتفاضة الثانية، سكنت روح مَهيبة عن الانتفاض؛ رحلت المعُلمة الفلسطينية عام 2000، دُفنت بعيدًا عن زهرتها، لكنها منذ عصفت بها رياح الصهيونية خارج فلسطين، ويوم أن قابلت رشاشات القوات الإسرائيلية حجارة الفلسطينيين، كانت مازالت تقول "سنرجع يا يافا".
المصادر:
* أدوار المرأة الفلسطينية في الأربعينيات/ موسوعة الدكتورة فيحاء عبد الهادي
*مقال ناريمان خورشيد: الدخول إلى حيز الذاكرة الجماعية/ د.فيحاء عبد الهادي.
* يافا.. دم على حجر: حامية يافا وفعلها العسكري دراسة ووثائق/ للباحث بلال شلش/ صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
* كتاب عائلات وشخصيات من يافا وقضائها/ المؤلف طاهر أديب قليوبي
*الجزء الرابع من سلسلة الفيلم الوثائقي : النكبة
اقرأ أيضًا:
هل أراك؟ (1).. "حصّادين" الأرض المقدسة (بروفايل)
هل أراك؟ (2)- كانت تسمى "عيون قارة" الفلسطينية صارت "ريشون ليتسيون" (بروفايل)
هل أراك؟ (3).. زارعو الألغام في سوق حيفا (بروفايل)
فيديو قد يعجبك: