غُربتان..كورونا يزيد عزلة اللاجئين في مصر(الحلقة الثانية)
قصة- مارينا ميلاد:
وصل لماركو- وهو قس بالكنيسة الإنجيلية بمنطقة عين شمس- خبروفاة أحد القساوسة بكنيسة إنجيلية أخرى. كان وقع الخبر عليه مؤسفا وحاملًا له الاستغراب أيضًا: لا أعرف لماذا ينكر أهله أن السبب هو كورونا؛فنحن نعلم ذلك جيدًا؟!
ظن ماركو خطأً أن حالة القس ستكون مختلفة عن أغلب اللاجئين الذين يعرفهم، ويخشون الإعلان عن إصابتهم بالفيروس خوفًا ممن حولهم، من تلك "الوصمة المجتمعية" التي ستحل بهم، ويمكن أن تتجاوز شدتها المرض بالنسبة لهم.
استمع إلى ذلك في بودكاست| بين وصمة ووصمة .. كيف يتعايش اللاجئون الأفارقة مع كورونا؟
على أي حال، لا يهم الرجل أن يتأكد من إصابة أحد، ويصب اهتمامه على توفير المساعدة لهم وحسب.
لقد وجد ماركو دينق نفسه أمام واقع مفاجئ وسيئ منذ إبريل الماضي، حيث انقطع مصدر دخله بعد إغلاق الكنائس؛ فلا مصلين ولا عُشورَ ولا زياراتِ. حتى إن عمل زوجته جوليا في شراء بضائع سودانية وبيعها هنا توقف أيضًا. بينما تثاقلت مسؤوليتهما أكثر.
نظر الزوجان السودانيان خارج حدود مشكلتهما؛ ليجدا آلاف الأسر اللاجئة تشاركهما الحال نفسه. فكرا ما في وسعهما عمله لأنفسهما ولمن حولهما الذين تجاوزوا الـ12 ألف سوداني في عين شمس فقط - بحسب ماركو. حاولا أن يكونا نموذجا نشطا ليحولا الخراب الذي أصاب مجتمعهما لشيء يمكن تحمله؛ فأطلقا مبادرتهما "قلوب رحيمة" ويعتمدان فيها على جمع تبرعات أكثرها غذائية؛ يأخذان جزءا منها، ثم يوزعان على الآخرين بمناطق مختلفة.
وبحسب ماركو، ساعدت المبادرة أكثر من 1000 أسرة لاجئة حتى الآن.
لم تجد آمنة، اللاجئة الإريترية، سندًا لها سوى تلك المساعدات بعد أن ظلت تهاتف المفوضية السامية لشئون اللاجئين، التي تحمل بطاقتها الزرقاء، ولم تجد استجابة منهاعلى مدى شهرين حتى بعدما أبلغتها بأنها ستُطرد من بيتها لعدم قدرتها على دفع الإيجار: "الموظف قال لي انتظري رسالة، وأغلق بعدها الهاتف".
ولن تُشرد آمنة (57 سنة) وحدها إن حدث ذلك؛ إنما سترافقها والدتها المسنة وصديقتها الإيرترية وطفلتها الصغيرة اللتان استضافتهما بعد طردهما من بيتهما للسبب نفسه.
آمنة جاءت إلى مصر عام 2009 لاجئة سياسية مع زوجهاالذي تركها بعد ذلكمع والدتها التي لا تعرف أن تحدد لنا عمرها: "زمان ما كنا نعرف تاريخ ولادة بسبب الحروب". عملت آمنةفي تنظيف البيوت، العمل الذي تمتهنه أغلب اللاجئات هنا، وكان مبلغ الـ1400 جنيه الذي تتحصل عليه يكفيها ولا يجعلها بحاجة للمساعدة، لكن انقلب حالها بعد أزمة كورونا عندما أبلغتها صاحبة البيت في أواخر مارس بأنها لن تأتِ إليها بداية من الشهر المقبل لأنها- كما قالت لها - "مريضة صدر ويمكنها التقاط العدوى بسرعة".
"لا شيء يأتي من العدم".. يخبرنا ديكارت بذلك منذ زمن بعيد، وعليه فلا فعل يصدر دون شيء يحركه داخلنا. يمكن من هنا أن نفهم سبب ما يقوم به القس ماركو وزوجته. سنعود بحياة ماركو 31 عاما إلى الوراء، حين كان عمره 12 عاما وفقد والده بعد فقدانه لأمه وعمره 6 أشهر، دون أن يكون لديه إخوة.
في هذه السن التي لم يعرف فيها الاستقرار أبدًا واعتاد الانتقال من بيت إلى بيت، اشتدت نزاعات الجنوب، فسودان السبعينيات والثمانينيات كان أرضًا للحرب الأهلية التي قضت على الكثير وهَجرت الأكثر. وقتها قررت أسرة أحد أصدقائه وغيرهم الهروب نحو الشمال وأخذه معهم، ليسير مع نحو 50 شخصالمدة شهرين على قدمه، يمر بجثث ماتت جوعا وعطشا، ويصل في النهاية مع حوالي 11 شخصا فقط نجوا من هذه الرحلة.
لم تشهد زوجته جوليا هذه الأيام؛ إذ ولدت في العام 1991. لكنها ليست أحسن حظا فالنزاعات الجنوبية لم تتوقف. اعتادت عليها، وكبرت عليها لتضطرها في 2013 الهروب مع أسرتها من معسكر للجيش والعبور بالاتجاه الآخر بعد ضرب بيتهما.
لذلك يقول ماركو: "ما يعتبره الناس هنا ظروفا صعبة هو النعيم بالنسبة لنا".
يقف "هائل" بداخل متجر لبيع المنتجات الصومالية بمنطقته. يرتدي الكمامة والجوانتي ويستخدم المطهر طوال الوقت؛ فهو يخشى أن يأتي بالمرض لابنته الصغيرة وزوجته الملازمتين البيت دائمًا؛ خاصة أن زوجته حامل.
يكسب الشاب من وقفته تلك دخلا – لم يرغب في ذكره – لكنه يقول إنه بالكاد يكفي بعض أساسيات حياتهم خاصة مع شراء المستلزمات الوقائية، فيعتمدون على مساعدات قد تأتي من المبادرات المهتمة بهم كلاجئين في مصر.
فهائل سعيد (26 سنة) لاجئ صومالي، لم يأتِ إلى هنا من بلده الأم الذي لا يذكره إلا بالقليل. إنما من اليمن حيث كان لاجئا منذ صغره فيها. تربى وتعلم هناك حتى تخرج في كلية الاقتصاد. وفيما بعد قرر تركها هربا من الحرب وتدهور الأوضاع متجها إلى مصر التي وصف سفره إليها بـ"هجرة من أجل الحياة"، يريد فيها أن يبدل حياته بدراسة الماجستير والعمل في وظيفة مع إحدى المنظمات، ومساعدة مجتمعه اللاجئ؛ لكن لم يكن الأمر بقدر طموحاته.
أول ما واجهه هائل عند مجيئه- بحسب ما يقول - هو عدم وجود جهة ينتمي إليها كلاجئ صومالي لتساعده في الخدمات، وثانيا تعثره في دراسة الماجستير لعدم قدرته على دفع الرسوم الدراسية.
لكن وجود زوجته وابنته ألزمه بضرورة العمل؛ فعَمل في مطاعم يمنية، وبجانبها تطوع في أكثر من مبادرة لمساعدة اللاجئين. لكنه لم ينسَ حلمه الذي لم يتقدم نحوه خطوة واحدة نحوه حتى زاد كورونا البُعد بينهما؛ حيث قيد حركته وعطل عمله: "شعرت أنني مسجون وتراكمت عليّ الديون ولا أعرف كيف أسددها".
طوال أشهر مضت لم يساعد هائل على العيش إلاالمبادرات التي تصل من حين لآخر بجانب مبلغ 400 جنيه من برنامج الغذاء العالمي بديلا للوجبات، وهي مساعدة المفوضية له لأنه يحمل بطاقتها منذ مجيئه.
لم يسلك القس ماركو مسلك هائل عندما جاء إلى هنا عام 2000، فلم يفكر في التقدم للمفوضية؛ لأنه وجد كثيرين ينتظرون التسجيل دون جدوى، والأهم أنه لا يريد تحديد حركته في السفر إلى السودان كل فترة لمتابعة خدمته بالكنيسة هناك.
وتقوم المفوضية السامية لشئون اللاجئين بالتسجيل وتحديد وضع اللاجئ بموجب مذكرة تفاهم مع الحكومة المصرية عام 1954.
بدون الحاجة للمفوضية، استقرت حياة ماركو في مصر على هذا النحو: دَرس اللاهوت، حصل على الماجستير، وصار قسيسًا بالكنيسة الإنجيلية، وفي إحدى زياراته للسودان عام 2017 تعرف على جوليا وتزوجها وجاءت معه وصار لهما بنتان.
المفوضية السامية هي المؤسسة المعنية بالأساس بحياة اللاجئين في مصر، لكنها تعاني من أزمة صرحت بها في فبراير 2019، وهي زيادة عدد اللاجئين بدرجة كبيرة، حيث ذكرت أن العامين الماضيين فقط زاد 24%، في حين أنها لا تحصل على سوى 4% من تمويلها المطلوب.
يمكن أن نتوقع من التصريح السابق وضع الدعم الذي تقدمه المفوضية للاجئين هذه الأيام إن لم يكن تغير في الأمر شيء.
وفقا لرد المفوضية علينا؛ "فإنها تبذل جهدا لتقديم الدعم، لكن كل ما قدمته بالكاد يغطي الضروريات للفئات الأكثر احتياجا نتيجة الوضع الحالي للتمويل. فمنذ بداية الأزمة؛ طلبت المفوضية للحصول على 10.2 مليون دولار أمريكي كاحتياجات إضافية، تم تغطية 10٪ منها حتى الآن، مما يشير إلى فجوة شديدة في التمويل. مع العلم أنه تم تمويل 20 % فقط من ميزانيتها العادية لهذا العام والبالغة 118.3 مليون دولار أمريكي".
ومع ذلك؛ وزعت منذ بداية الأزمة مساعدتها الشهرية المالية لـ40 ألفا و450 شخصا من غيرالقادرين، وأضافت لمساعدة شهر مايو منحة إضافية لأدوات النظافة، ومنحت تمويلا لبعض المنظمات الشريكة لشراء أدوات نظافة للأسر. كما تعاونت مع مؤسسة ساويرس منذ بداية يونيو لدعم اللاجئين. ذلك التعاون الذي تقول إنه سيدعم 2.673 أسرة بنهاية هذا العام؛ إذ يؤمّن منحا نقدية شهرية للذين فقدوا وظائفهم، وتعرضوا، أو كانوا عرضة لخطر الإخلاء.
بعد أسبوعين.. الأول من يوليو
لا حديث إلا عن "عودة الحياة في مصر مجددا". انتهى حظر التجوال المفروض منذ أكثر من ٩٠ يومًا.
عادت أنشطة حياتية كثيرة... ومازالت المفوضية تؤجل فتح أبوابها لإجراء مقابلاتها مع اللاجئين.
فتحت المساجد وبعض الكنائس أبوابها للصلوات اليومية، إلا أن الكنيسة الإنجيلية (الطائفة ككل) التي يتبعها القس ماركو أعلنت أنها لا تتعجل في الفتح إلا بعد وضع خطة احترازية. لكن ماركو لم يكن متحمسا للفكرة سواء بخطة أو بدون؛ إذ يرى "الأمر غير مطمئن"؛ لذا يصلي دائما طالبًا من الله أن تعود الكنيسة ويكونوا بأمان: "اعتدنا بالسودان على غلق الكنائس وأن تُكسر وتهدم كثيرًا لأسباب تخص النزاعات، لكن هنا لا؛ فهي ملجأ لمحتاجين لا يعرفون مكانا غيرها لذلك يأتون إليّ".
وعَرف ماركو أن جثمان القس الذي توفي جراء كورونا- حسبما يقول- ظل بثلاجة الموتى بالمستشفى طوال تلك الأيام حتى يدبر أهله المال اللازم لسفره إلى جنوب السودان ودفنه هناك.
الحلقة الأولى "ولادة إكرام وإصابة أسرة حافظ"
فيديو قد يعجبك: