إعلان

هل أراك؟| (5).. الثلاثاء الأحمر في سجن عكا (بروفايل)

10:04 م الجمعة 17 يوليو 2020

صورة لسجن عكا في فلسطين قبل النكبة

كتبت-إشراق أحمد:
نادي المنادي ليجتمع الناس في اليوم المشهود؛ قَدمت الجموع من شتى بقاع فلسطين، دخل من استطاع إلى ساحة القلعة، تلك التي على أبوابها انهزمت جيوش نابليون دون اقتحام عكا، صارت اليوم سجن للاحتلال البريطاني، يُزج فيه كل مقاوم للمستعمر وينال جزاءه، مثلما حدث مع رفاق ذلك النهار؛ فؤاد، محمد، وعطا. ثلاثة رجال وقفوا ومن حولهم حراس السجن، راحوا يستقبلون الوافدين، يمر الحاضر معزيًا لهم ثم يمضي. هل يحضر الميت عزاءه؟.. في صباح 17 يونيو 1930 فعلها الشبان الثلاثة، ارتدوا ملابس حمراء اللون، كالتي تُعطى للمحكوم عليه بالإعدام، لكنهم لم يكونوا كأي سجين يواجه مشنقة الموت.

محمد جمجوم مع عطا الزير، فؤاد حجازي عز الذخيرة. انظر المقدر والتقادير

من بين 26 فلسطينيًا وقعوا في قبضة أمن الانتداب البريطاني، أصدر القضاء الحكم بتأييد إعدام ثلاثة، على أن يكون ذلك نهار الثلاثاء من يونيو، بعد انتصاف الشهر بيومين، وأما السبب؛ قال البريطانيون إن محمد خليل جمجوم وعطا الزير من مدينة الخليل، وفؤاد حجازي من صفد تسببوا في مقتل عدد من اليهود، وهم مَن اشعلوا المظاهرات في البلاد وقاوموا السلطات، وأما الحقيقة؛ فكانت لرد الفلسطينيون عن هَبّتهم أمام حركة التهجير الصهيونية التي أصبحت ظاهرة للعيان بينما تغرس يديها في الأرض بلا رادع.

كانت المكيدة الصهيونية تحاك كل ليلة، فيما تغلي صدور الفلسطينيين على الجمر، من جنوب البلاد لشمالها، شرقًا وغربًا. 12 عامًا والانتداب البريطاني يجثم على النفوس، ومعه طامع متسلل في وضح النهار وعتمة الليل، بلغ حد تهجير 7 آلاف عائلة فلسطينية من 25 قرية مع عام 1929.
منذ وعد بلفور عام 1917، لم يعد للخوف ولا التخفي مكان لدى الإسرائيليين؛ مع وهج شمس أغسطس من عام 1929، تحديدًا في اليوم الرابع عشر، دعت حركة صهيونية باسم بيتار للتوجه إلى حائط البراق -الجدار الغربي للمسجد الأقصى- لإحياء معتقدهم "هدم هيكل سليمان"، لكن الفلسطينيين تصدوا لهم، إلا أنه باليوم التالي زادت الأعداد؛ وصلت مسيرة كبيرة لليهود إلى الأقصى، رفعت علم الصهيونية –إسرائيل، وتغنت بـ"هتكفا"ما عرف بعدها بالنشيد القومي الإسرائيلي.

1

قامت الدنيا ولم تقعد في ربوع فلسطين، وما كان جمجوم وحجازي وعطا عنها ببعيد، وقعت النار في قلوب الشباب كما فعلت بالأهالي؛ مع اليوم التالي، وعقب صلاة الجمعة بالأقصى، اندلعت ثورة في البلاد شرارتها "البراق" لذا حملت اسمه، خرجت المسيرات ووقع الاشتباك بين الفلسطينيين والصهاينة.

أسبوعان داميان، راح اليهود يفسدون في الأرض، يقتلون إمام مسجد في يافا، ينهبون المخازن والدكاكين في صفد ويعتدون على آخرين، في المقابل يهاجم الفلسطينيون المستوطنات ويردون عما يقع من اعتداء، بلغت ذروة الأحداث في الخليل وصفد، فيما بدا البريطانيون كحائط صد، لكن الحقيقة أنهم كانوا ركن شديد لبني صهيون.

2

اعتقلت القوات البريطانية قرابة 800 فلسطينيًا، من بينهم جمجوم، عطا وحجازي، في اليوم ذاته، 8 سبتمبر 1929 أُغلقت الزنازين على الشبان الثلاثة. تسعة أشهرانقضت على رفقاء السجن في عكا، انتظروا بعدها ميلاد جديد، وقد كان.

صدرت الأحكام جزافًا بحق المعتقلين، إعدامات تطول العشرات، خففت على الجميع باسثناء الرفاق الثلاثة، فيما خرج حكم وحيد بشأن يهودي يُدعى "خانكِن" اُتهم بقتل أسرة فلسطينية، لكن لم يُنفذ، فقط أُودع السجن قبل أن يُفرج عنه، أما جمجوم، الزير، وحجازي بات مصيرهم محتوم؛ الإعدام في وضح النهار والناس شهود.

ويقول محمد أنا أولكم ويقول حجازي أنا أولكم ما نهاب الردى ولا المنونَ

في ساحة سجن القلعة بعكا، شمال غرب فلسطين، نُصبت المشانق وحُدد ميعاد الحكم في الثامنة صباحًا، على أن تنفذ الأحكام تباعًا، مع كل ساعة يعلق رفيق. دخل الصحفيون وجمع من الناس، كبار وصغار، و تراص أخرون خلف الأبواب، تنوح الأهالي منتظرين لقاء أبنائهم بعد شهور لكن جثث هامدة، تصيح والدة الزير "عطا يا زينة الشباب"، فيما يكتم شقيقي حجازي ووالدته أنينهم اتباعًا لوصيته "السكينة والهدوء.. البكاء ممنوع قطعيًا. يجب الزغردة والغناء واعلموا أن فؤادًا ليس بميت بل هو عريس ليس إلا".

3

الوقت ينقضي لكن وقعه كالجبال. ثلاث ساعات أرادها البريطانيون أن تكون عِبرة لكل فلسطيني تسول له نفسه الاعتراض، فليس بالضرورة أن تكون زعيمًا لتُعدم، ولا فرق في ذلك بين متعلم مثل جمجوم وحجازي و مزارع كعطا، لكن الرفاق الثلاثة حولوا الساعات إلى ملحمة؛ عيد استعدوا له بالرقيق من الكلمات، فيما طالب جمجوم بالحناء ليُخضب يداه بها هو ورفيقه الأعزب حجازي، وما كان عطا بأقل صمود.

تحولت ساحة الموت إلى حلبة سباق، بدأت المسيرة بأصغرهم، ابن مدينة صفد، رحل حجازي أمام عيون رفيقي السجن، لم يهتز فؤاد أي منهما، بل فاجأ جمجوم الجميع بكسر قيده والتقدم نحو المشنقة، ليزاحم عطا، الذي كان محدد له الرحيل في الساعة الثانية. استمر ولدا مدينة الخليل في التسابق حتى فاز جمجوم، وبقى صاحب الخامسة والثلاثين ربيعًا. في العاشرة صباح يوم الثلاثاء خطا عطا نحو الردى -الموت- مبتسمًا حال أصدقائه، فلم يغمض أي منهم عيناه، نظروا جميعًا إلى السماء ضاحكين مستبشرين ثم مضوا.

كله لعيونك يا فلسطين

انقضى الثلاثاء بأرواح الفرسان الثلاثة، وأمنية كتبوها ليلة الإعدام "رجاؤنا إلى الأمة العربية في فلسطين أن لا تنسى دماءنا المراقة وأرواحنا التي سترفرف في سماء هذه البلاد المحبوبة، وأن تذكر أننا قدمنا عن طيبة خاطر أنفسنا وجماجمنا لتكون أساساً لبناء استقلال أمتنا وحريتها"، وباليوم التالي، خرج عدد جريدة اليرموك بإشارة تحمل وصف ـ"مستعجل، يتصدره عنوان رئيسي عما وقع في سجن عكا، ودعوة "أحيوا ذكرى يومهم هذا من كل عام"، لكن الفلسطينيين لم ينتظروا طويلاً؛ التأمت الصفوف ثانية، واندلعت الثورة الكبرى عام 1936.

4

في باحة مقابر عكا الإسلامية، يرقد رفقاء المشنقة، تصطف قبورهم الخضراء كما كانوا في الدنيا، وبالترتيب الأول المُقدر لهم في ساعات إعدامهم، فؤاد، عطا، جمجوم. سقطت مدينة عكا حال مدن فلسطين عام 1948، صارت توصف بالأراضي المحتلة، هُجر الكثير، فيما ظلت أجساد الفرسان باقية.
كانت أمنية الرفاق الثلاثة ألا يطويهم النسيان، وتحقق مرادههم مرتين، في قصيدة الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، ظل اسمها يصف ذلك اليوم "الثلاثاء الحمراء"، وأما الثانية، ففي كلمات لشاعر فلسطيني يسمى نوح إبراهيم، يُوصف بشاعر الثورة الفلسطينية، خطها بعد أيام من رحيلهم، وغنتها فرقة تراث باسم "العاشقين" في الثمانينيات، لتظل الأجيال تتحاكى بما كان "من سجن عكا طلعت جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي.. جازي عليهم يا شعبي جازي المندوب السامي وربعه وعمومه".

المصادر:
* سلسلة الأفلام الوثائقية: النكبة
* مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وفا)
* مقال من سجن عكا 17-6-1930 فوق ساعات المشانق دراسة في قصيدة “الثلاثاء الحمراء” لإبراهيم طوقان/ الكاتب المتوكل طه
* مركز ومتحف أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة
* موقع رحلات فلسطينية المسرد الزمني

اقرأ أيضًا:
هل أراك؟ (1).. حصّادين الأرض المقدسة (بروفايل)

هل أراك؟ (2).. كانت تسمى عيون قارة الفلسطينية (بروفايل)

هل أراك؟ (3) زارعو الألغام في سوق حيفا (بروفايل)

هل أراك؟ (4) يوم أن حملت معلمة فلسطينية السلاح (بروفايل)

فيديو قد يعجبك: